أسطورة الجلاد الذي أصبح قربانا للوطن


بسم الله الرحمن الرحيم

"...لم تحرك الأمة ساكنا لمشهد مسلم يشنق على طريقة الكوبوي، وهو يردد الشهادتين في تحد وعلو، فلعل ذلك من شأنه أن يكفر عن تاريخه الملبد بالشرور، ومن ثم يلقن الإنسانية درسا جديدا في الصمود والتضحية من أجل الدين والوطن ... "

هكذا اختار البيت الأبيض تاريخا دقيقا لنهاية صدام، تزامن مع أعز يوم لدى المسلمين، ألا وهو عيد الأضحى المبارك، الذي يحسب له ألف حساب في العقيدة الإسلامية، نظرا إلى الحمولة الرمزية التي ينطوي عليها، وهي حمولة ذات أبعاد متعددة، تحيل على قصة أبينا إبراهيم مع ابنه البار إسماعيل - عليهما السلام -، وعلى مجريات من تاريخ الدعوة المحمدية، وعلى ركن أساس من أركان الإسلام وهي شعيرة الحج، وعلى التلاقي الإيماني الذي يعقده المسلمون مرة في العام كله، بل ومرة في العمر كله، وغير ذلك من الأبعاد.

 

كأنما في ذلك استعارة مجازية توحي بأن في الوقت الذي سوف يضحي فيه المسلمون عبر مختلف بقاع الكرة الأرضية بأضحيات العيد، وما يواكب ذلك من احتفالات وأفراح، تتبادل فيها الزيارات والهدايا وما إلى ذلك، كذلك سوف يضحي الأعداء ومن يدور في فلكهم من عملاء وأزلام، بأضحيتهم التي هي من طبيعة إنسانية لا حيوانية، فيفرحون ويرقصون على إيقاع النشيد الوطني الأمريكي، الذي عنوانه، العلم ذو الأنجم المتلألئة (The Star Spangled Banner)، وقد كتب من قبل الوكيل فرانسيس سكوت كي عام 1814، الذي استوحاه من حرب 1812 بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وقد أصبح منذ 1931 النشيد الرسمي للولايات المتحدة الأمريكية، وهو يتألف من أربعة مقاطع.

وسوف نكتفي بالمقطع الأول من نص النشيد، محاولين ترجمة معانيه إلى اللغة العربية:

((آه، قل: هل ترى، في ضوء الفجر المبكر، ما حييناه بكبرياء في شفق الوميض الأخير؟ حيث خطوطه العريضة ونجومه اللامعة، طوال العراك الخطير، فوق المتراس الذي نراقبه كانت تنساب في بسالة. وتوهج الصواريخ الحمراء وانفجار القنابل عبر الفضاء دلتنا طوال الليل أن علمنا ما يزال هناك. آه، قل هل مازال يرفرف ذلك العلم ذو الأنجم المتلألئة فوق بلاد الأحرار ووطن الشجعان؟)).

 

نشيد يفسر بشكل جلي طبيعة الفكر الذي تحمله الطغمة الأمريكية الحاكمة، منذ ما ينيف على سبعة عقود زمنية، حيث كتب هذا النص، الذي سوف تردده، انطلاقا من ثلاثينيات القرن الماضي، مختلف الأجيال التي شهدها المجتمع الأمريكي، وهي لا تأبه بفحوى العبارات التي تلهج بها ألسنتها، وهي مشربة بمعاني الحرب، التي ماهي إلا وسيلة العاجزين عن إيجاد وخلق الحلول الوسطية والسلمية، وهذا ما انطبع به التاريخ الأمريكي منذ أن وطأت رجل أول أوروبي أرض العالم الجديد، فشرع في إبادة السكان الأصليين، الذين هم الهنود الحمر، بشجاعة وقحة ووقاحة شجاعة، لينصب الأوربيون الغزاة رايتهم المخضبة بدم الهنود على أرض ليست أرضهم، إلا بالغصب والسرقة، فينعتونها كما تردد خاتمة النشيد الوطني الأمريكي، التي تتكرر في نهاية كل مقطع: بلاد الأحرار، ووطن الشجعان!

 

فأي أحرار هؤلاء الذين أبادوا الشعوب الأصلية واسترقوها؟ وأي شجعان هؤلاء الذين شيدوا بالظلم المقنن أسطورة هذا الوطن المزيف؟ ثم إن هذا النشيد المستوحى من حرب 1812 بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، يعبر عن مدى إيمان الحكام الأمريكيين بمضامينه التي تتغنى بالكبرياء والغطرسة الأمريكية، التي لا تتحقق إلا عبر التقاتل والخداع والغدر، فعوض ما نقرأ في هذا النص الذي يتردد باستمرار في شتى الميادين والأندية، من مدارس وقاعات رياضية ولقاءات رسمية وغير ذلك.

 

أشياء جميلة عن الجوانب الحضارية الحقة والمناقب الأخلاقية السمحة للشعب الأمريكي العظيم، وهي كثيرة لا تعد ولا تحصى، فها نحن لا نصيخ إلا لوقع الخطر والصواريخ الحمراء والقنابل المتفجرة ونحو ذلك، وهو نفسه ما حصل في اليابان والفيتنام وكوريا وأفغانستان وفلسطين والعراق واللائحة طويلة!

 

لكن راعي البقر التقليدي مازال مستغرقا في صلفه، وقد حفت به مجموعة من البيادق الهشة المبرمجة وفق نرجسية الحاكم الأمريكي، الذي يتصرف بشبه ألوهية ينقاد إليها كل من ينبذهم الوطن، من ضعاف النفوس والعزيمة، الذين صارت الأوطان التي استردت بدماء الأجداد وأرواحهم الزكية، ألعوبة بين أيديهم النجسة، يتلهون بها مع أسيادهم الغربيين المتصهينين، كما يتلهى المقامرون بلعبة الورق أو النرد أو غيرهما.

 

كما تمت الإشارة، قد ضحى العدو وعملاؤه في أعز يوم للمسلمين بأضحيتهم، وعلى مرأى من العالم، وفي اختيار هذا التوقيت دلالة واضحة على مدى خبث المخطط الأمريكي في العراق، وتسليم منفذيه من أبناء العراق المتواطئين معه بذلك في شماتة جلية، والشماتة، كما يقول المثل، بالمنكوب لؤم، يتداعى بنا إلى حقبة الاستعمار الأوروبي التقليدي للعالم، حيث كان ينشط العملاء والمنافقون والخونة وأثرياء الحرب، الذين ساهموا في التوقيع على اتفاقيات الاستعمار والحماية، في الوقت الذي كانت فيه بنادق المجاهدين الحقيقيين تزغرد في كل شبر من الوطن، وأرواح الوطنيين الصامدين تزهق في المقاصل والمشانق لتقدم قربانا للوطن!

 

لذلك سقنا صورة استعارية لهذا المشهد الأليم، عندما رأينا أن الرئيس العراقي السابق صدام حسين أعدم أو ضحي به في يوم عيد الأضحى على إيقاع النشيد الوطني الأمريكي، في حين كان ملايين المسلمين يضحون بأضحياتهم على إيقاع التلبية والتكبير والتهليل والتحميد، وهذا لا يعني أن النشيد الوطني الأمريكي نفسه قد ردد أثناء عملية الشنق، وإنما أبعاده الدلالية كانت حاضرة بقوة في المشهد نفسه، حيث الرئيسº رمز الوطن الأصلي يعدم في ضوء الفجر المبكر، مما سوف يشكل مأساة لأي وطني عادي، في حين سوف يحياه العدو وبيادقه بكبرياء، كما نقرأ في الأسطر الأولى من نص النشيد.

 

ثم إن العراك الخطير الذي تنبىء البنية الدلالية للنشيد بأنه سوف يزول بالانتصار، ليرفرف العلم في بهاء على أرض الأحرار، يبدو في هذا السياق الجديد للحرب الأمريكية في العراق أنه سوف يمتد إلى ما لا نهاية، فيصير العراك على أشده، ويصبح الوطن مستنقعا منفتحا على المجهول، الذي يعد باليباب والفتن والاحتراق، ومن أوقد نار الفتنة احترق بها! إن مشهد الإعدام الذي استفاقت عليه الأمة الإسلامية في يوم عيدها، يشكل بالنسبة إلى الضحية/صدام نهاية سعيدة، تجعل منه أسطورة فريدة من نوعها في التاريخ الإنساني، لأنه قلما نصادف أن من كان يعتبر طاغوتا انتهت حياته هكذا، بصمود إلى آخر رمق في حياته، فأغلب الطواغيت اختاروا، إما أن ينتحروا في لحظة انهزامهم كما صنع هتلر وغيره، وإما أن يتنازلوا عن تحديهم مقابل حفنة من المصالح الدنيوية الزائلة، فكان بمقدور صدام أن ينتحر عندما أدرك أنه باء بالسقوط والفشل، أو أن يذعن لمطالب العدو ومغرياته، فيتنازل عن وطنه مقابل قصر جميل وراتب سمين وجوار حسان وغير ذلك، في أي مكان يحبه من المعمورة.

 

بيد أنه فضل ألا يبيع وطنه، وأن يجاهد إلى آخر ثانية من عمره، وقد انطبق عليه بيت الشاعر:

ولي وطن آليت ألا أبيعه*** وألا أرى غيري له الدهر مالكا

 

ثم إن هذا الحدث الذي شكل بنوع من الإجماع الشعبي إهانة جديدة للمسلمين، تنظاف إلى حلقات سابقة من الحرب المعنوية التي يشنها الغرب على الإسلام، عقيدة وتاريخا ورموزا، قوبل بالشجب التام من لدن مختلف الجهات الأجنبية، سواء أكانت سياسية أم فكرية أم حقوقية أم غير ذلك، في حين ما فتئت تعتصم أغلب الجهات العربية والإسلامية، بما في ذلك علماء الأمة، بحبل الصمت، الذي ينطوي عن رضى بالمذلة التي نتخبط فيها، فلم تحرك ساكنا لمشهد مسلم يشنق على طريقة الكوبوي، وهو يردد الشهادتين في تحد وعلو، فلعل ذلك من شأنه أن يكفر عن تاريخه الملبد بالشرور، ومن ثم يلقن الإنسانية درسا جديدا في الصمود والتضحية من أجل الدين والوطن.

 

غير أنه في مقابل ذلك، كشفت آخر صور مشهد الإعدام التي تناقلتها مختلف وسائل الإعلام المرئية والرقمية، مدى نذالة الجلادين الذين أنيطت بهم مهمة شنق الضحية، عندما راحوا يشمتون بها وهم يرددون ما معناه: إلى الجحيم، وهم يدرون أن مصير الإنسان لا يفصل فيه إلا الله - سبحانه وتعالى -، فرب شرير آثم كتب له أن يفوز بالجنة، ورب مسلم كنا نحسبه صادقا سجر في النار!

 

فالاعتبار ينبغي أن يكون بنهايات الأمور وعواقبها، والأنكى من ذلك أن تلك الصور أناطت اللثام عن فضيحة تواطؤ شيعة العراق مع العدو في قضية إعدام صدام، وإلا فلماذا راح الجلادون يهتفون باسم مقتدى الصدر، ويرددون يعيش محمد باقر الصدر؟ مما سوف يفتح، لا محالة، باب الطائفية في العراق على مصراعيه، لأن مثل هذا الموقف الذي تنم عنه هذه الصور المسربة، من شأنه أن يزرع مزيدا من الكراهية والضغينة بين سنة العراق وشيعتها، لاسيما وأنها تكشف مما لا غبار عليه عن أيديولوجية الجلادين الشيعية!

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply