ومسجد قرطبة لا بواكي له !!


بسم الله الرحمن الرحيم

دفعني الفضول وحب الاطلاع إلى استعارة مجموعة أشرطة فيديو من إحدى المكتبات الأمريكية العامة. تضمنت هذه الأشرطة برنامجا وثائقيا عنوانه "الحضارة واليهود"، وهو من إعداد وتقديم "أبا أيبان" وزير خارجية الدولة اليهودية في السبعينات، وأحد المثقفين الذين يفخر بهم اليهود في كل مكان. ولفتت نظري فقرة من البرنامج سجلها "أيبان" - وهو منفعل انفعالا واضحا - في ساحة "الحمراء" وبين أعمدة مسجد قرطبة في أسبانيا.

وشدد المثقف اليهودي على دور اليهود في الحضارة الإسلامية في الأندلس، مشيدا على وجه الخصوص بالفيلسوف موسى بن ميمون الذي يدعوه اليهود "موسى الثاني"، مشيرين إلى أنه لا أحد أثر في تاريخهم بعد النبي موسى - عليه السلام -، مثلما أثر ذلك الفيلسوف الأندلسي.

إن مسجد قرطبة الذي حوله الصليبيون الأسبان إلى كنيسة، لا تزال منارته وقبته شامختين حتى اليوم، ولا تزال جدرانه الداخلية مزينة بآيات القرآن الكريم، شاهدة على عمق الفجيعة، وعلى أمجاد دارسة خذلتها مطامح ملوك الطوائف، وطمستها ثقافة الاستعمار الدخيل..

وإذا كان مثقف يهودي يبكي أطلال قرطبة، لمجرد مساهمة هامشية من بعض الوزراء أو الأطباء أو الكتاب اليهود.. فليت شعري كم يلزمنا من البكاء وذرف الدموع على تلك الأرض التي أنجبت رجالا من أمثال الشاطبي والقرطبي وابن عبد البر وابن خلدون وابن رشد وابن مالك وابن العربي وابن عاصم وابن جزي.. وسواهم من عمالقة العلم والتقوى والجهاد؟؟ !!

إن آلاف المسلمين نكلت بهم أيدي الصليبيين ومحاكم التفتيش في الأندلس، وهرب الملايين منهم إلى المغرب العربي.. وقد أطلق الأسبان على أولئك الهاربين "موريسكوس" وهي نفس الكلمة الفرنسية "مور" التي اشتق منها اسم "موريتانيا" أي بلاد "المور". وليست تسمية "المور" بالمناسبة من ابتكار الأسبان، وإنما هي ضاربة في القدم، يربطها نسب وثيق مع "وادي مور" في اليمن.

لكن ذاكرتنا التاريخية طمسها جهل القرون، ودمرها تشبثنا بقشور من ثقافة مستعمر حاقد، لا يكتفي باستعباد الشعوب، بل يريد إخراجها من جلدها.

لقد ذكرني برنامج "الحضارة واليهود" بآلاف المسلمين الذين يتوافدون على أسبانيا يوميا من المغرب العربي وشمال إفريقيا، وهم لم يسمعوا اسم "الحمراء" ولا "مسجد قرطبة"!! ولا يعرفون شيئا عن الأندلس. فيبس حلقي من المرارة، وتوقفت أنفاسي من التحسر.. ولم أجد عزاء إلا في أبيات جميلة بعنوان "مسجد قرطبة"، علقت في الذهن منذ مدة، وهي للفيلسوف والشاعر الباكستاني محمد إقبال، كتبها لما زار الأندلس مطلع القرن العشرين.

تضمنت قصيدة محمد إقبال وصفا بديعا لجمال الفسيفساء الإسلامية في المسجد، والتي برع فيها الأندلسيون أيما براعة. ولم ينس إقبال أن يربط بين الحضارة الأندلسية وامتدادها في الزمان (روح الإسلام) وفي المكان (الحجاز والشام واليمن):

قصر التاريخ ومسجـدهُ ** ما أروع ما صنعت يده

للقوم بصدر حكايتــه ** صـوت ما زال يردِّده

ظمأ لا رِيَّ لـه وبــه ** طلب الظمآن ومقصده

يزداد برؤيتـه ولَـهـًا ** ويريد يقـوم فيقـعِده

وكأن علائـق زينـتـه ** خفقات القلب ومعقده

في الصخر فنون سرا ئرنـا ** بلطائـفـنا نتـعهده

ليَهيج رنيـنُ جوانـبـه ** بأنيـن الروح نُـزوِّده

يا ظل الغرب ودوحتـه ** من ذا تاريخك يجـحده؟

بك أضحت تربة أندلسٍ, ** حرما في الغرب نمـجِّده

لا نِدَّ لـه في سـؤدده ** إلا الإيـمان وسـؤدده

عربـيٌّ اللحن حجازيٌ ** روح الإسلام تخـلِّــده

يمـنـيٌّ العطر تهبٌّ بـه ** أ نسـام الشـام وتحشده

ولم ينس إقبال أن يقارن بين جمال الفسيفساء في المسجد وجمال النفوس المؤمنة التي أبدعت تلك الفسيفساء، فما ذاك إلا انعكاس لهذا. وفي المقارنة تظهر الشفافية الروحية لدى إقبال، وقدرته على وصف الأرواح المؤمنة، وتصوير التكامل في الشخصية الإسلامية في أبيات قليلة، بشكل لم يستطعه كثيرون في مجلدات:

يحـكيــك جمالا وجـلالا ** رجـلٌ لـلـه تعـبٌّده

وحماسُ ضحاه ووجدُ مسـاه ** وما يخـفيه له غَــده

ومسرَّتـه ومحبَّتـــــه ** وتواضعــه وتـودٌّده

عذب الكلمات خفيف الروح ** رقيق القـلب مسـهَّده

أبديٌّ الحب نقــيٌّ الحرب ** مَصون العرض مهنَّـده

وعلى يده لله يـــــدٌ ** بلطيف القدرة تعـضُده

العالم قصـر خلافـتــه ** وسماء الـعـالم معبَــده

سرٌّ الكونيـن برؤيتـــه ** وعن الكونـيـن تـجرٌّده

وسراب العصر بنور الدين ** ونار الحـــب يـبـدِّده

ومن الصور البديعة المشحونة بالدلالات التاريخية ما ورد في القصيدة من تشبيه أعمدة المسجد بأعمدة النخيل في أرض الشام. لكن الصورة التي ألهبت خيالي، وتركت في نفسي أثرا لا يمَّحي هي الربط بين قبة المسجد وقمة جبل الطور، في لمسة شاعرية، ونفحة إلهية، أوتي منها إقبال ما لم يؤت غيره من الشعراء:

كنخيل الشام وأعمدهـا ** شمخت في المسجد أعمده

تتـألق زرقـة قبتــه ** وتُقيم اللـيل وتُـقـعِده

وتنـهٌّدها في وحدتـها ** كالطور كواه تـنـهٌّـده

على أن قصيدة "مسجد قرطبة" ليست هي كل ما كتبه إقبال في ذلك البيت المعمور المهجور، وفي تلك الأرض السليبة الضائعة. بل كتب إقبال قصائد غيرها، وأبياتا متناثرة أخرى، وإن لم تصل إلى مستوى التألق الروحي والشاعرية المجنحة التي نجدها في القصيدة السابقة. ومن ذلك تلك الأبيات التي كتبها على لسان طارق بن زياد وهو يستعد لاقتحام البحر إلى الأندلس، يناجي فيها الخالق العزيز، ويتحدث عن جنوده المجاهدين المتجردين، السائرين على خطى الأنبياء، همهم نيل الشهادة، لا سبي الغواني أو سلب الخزائن..

هذي الكمـاة عبادك الأخيـارُ ** حـملوا عناء العالمين وساروا

أصحاب سرِّك والسيادة طبعهم ** والنور في نظــراتهم والنار

فعلت كموسى في البحار مَطِيٌّهم ** وتراجعت لخطاهـم الأنهار

البحر حبة خردل في كفـهـم ** والعشق في أرواحهم إعصار

عزفـوا عن الدارين إلا أنـهم ** علَمٌ على الدارين لا يـنهار

نيل الشهادة للموحِّد مطمـحٌ ** وإذا تقــحَّم فالجراح غبار

لا سبي غانيـة وسلب خزانـة ** ومطامح الهمم الكبار كبـار

ومن ذلك قوله واصفا الطبيعة الخلابة في قرطبة، ومثيرا الذاكرة التاريخية في نفوس المسلمين:

تميل سحابـة الوادي ** فتحكي فيه غطٌّـاسا

رمتها الشمس بالياقـ ** ـوت أكداسا فأكداسا

وأغنية ابنة الفـلَّاح ** تطرب رغم ركَّتـها

برقـتـها إذا غنَّت ** وآهتـها وأنَّـتـها

كأن غناءها فيـضٌ ** يُقِلٌّ سفينـة القلبِ

تغازل نهر قرطبــة ** الذي يذخر بالحـبِّ

هنالك يرتع الساري ** هنالك تصدح الوُرق

كأن النهر تاريــخٌ ** يغني فوقـه الشرق

ويتحسر إقبال على ضياع ذلك الصرح الإسلامي أيما تحسر: فهل يعقل أن لا يرتفع الأذان على تلك المنارة المهيبة التي احتضنت في ظلالها يوما قوما وحدوا الخالق؟ وهل يعقل أن ترتفع الصلبان عليها وهي لا تزال مزينة بآيات القرآن؟ يا لها من فجيعة!!! يقول إقبال مخاطبا المسجد:

إن أرضا أنت فيـها ** لسمـاء للعيـون

كيف لم يسمع أذانًا ** أهلُها مـنذ قرون؟

ولا تعجب من ذلك، فصوت الأذان عند إقبال ليس يضاهيه لحن آخر، وهو القائل:

ليس في ضوضاء هذي الأممِ ** نغـمة إلا أذان المسلمِ

ويورد إقبال ترجمة لأبيات عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية في الأندلس، الذي أمضَّته الغربة عن بلاده، وأرهقه البين عن الأهل والأحبة، ثم أثارت نخلة غريبة كوامن نفسه فقال:

تبدَّت لنا وسط الرصافة نخـلـةٌ ** تناءت بأرض الغرب عن بلد النخلِ

فقلتُ شبيهي في التغرٌّب والنَّوَى ** وطول افتراقي عن بنيَّ وعن أهلي …الخ

ثم يكتب إقبال تكملة للأبيات، فيضفي عليها نفَسا إسلاميا، وعمقا فكريا، ويضمِّنها إشارات إلى نهاية الدولة الإسلامية في الأندلس، التي شهد عبد الرحمن الداخل بدايتها. يقول إقبال في تكملته للأبيات:

وما ضرَّنا ملـك تركنـاه خلفنا ** فكل بلاد الله ملـك ذوي العدلِ

سنبني كما كنـا بنينـا لغيرنـا ** وحاشا لأهل الجود تُوصَم بالبخلِ

إذا نضبت أجسادنا من دمائنـا ** فمنـزلنا ريَّـانُ من غدَق البذلِ

ستذكرنا الدنيا وتندبنا الـورى ** وتطلب في آثارنا كعبـة الفـضلِ

يقال هنا صلَّت وضجَّت قلوبهم ** هنا انتبذت أرواحَها رسُلُ النخـلِ

ولا ينسى إقبال أن يكتب قصيدة وهو يودع مسجد قرطبة، فيبث فيها خلاصة أحزانه وحسرته على الماضي الضائع والحاضر البائس:

صوت المنائر في نسيمك يرقــدُ ** وصداه في أرواحـنـا يـتردد

يا توأم الحرم الشريف تطوَّفــت ** بك ركَّع من عاكفين وسجَّـد

سيماك من أثر السجود على الثرى ** طرب يفوح ونضرة تتـجـدد

خمدت حقيقتنا وزال بريقـــنا ** وبريق قرطبة الشريد مخــلَّد

ووقفتُ لا نومي حمدتُ ولا السٌّرى ** أتكبد الجرح الذي أتـكـبد

تلكم زفرات قلب مفجوع على تاريخ أمة غافلة، بلغ بها التفريط فيه أن أصبح اليهود يفخرون به ويسرقونه، كما يخططون الآن لسرقة المسجد الأقصى بأساطير تاريخية هزيلة..فهل نظل ندرِّس أبناءنا أمجاد نابليون، وننسى مسجد قرطبة؟؟!!

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply