ابتهال بيتلو .. وذكريات تحت الأسر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

"و كأنه حلم يا صديقتي... كانت الأيام تمرّ ببطء في الأسر... والآن أعود إلى بيتي، أهلي، غرفتي، وذاك الوجه الذي ما فارقني ليلة واحدة... أصحو كلّ ليلة، أفكّر أن كلّ هذا غير حقيقيّ، وأنّ المشهد سيزول بعد ثوان، إيمان، فاطمة، أصرخ بأسمائهن، لا مجيب سوى هدوء الغرفة... وكأنه حلم، وكأنّ السجن لا ينتهي فينا، وكأنني لم أغادره منذ أيام طويلة... أجلس أمامهم لا أقوى على الحديث وبداخلي كلامٌ لا ينتهي إليهم"."لا أصدق أنني انتهيت أخيراً من كابوس الأسر، أدعو الله أن لا يذيقها أحدا. لقد كانت أياما صعبة لا أعرف إن كنت سأنساها يوماً..."

 

انتهت ابتهال يوسف بيتلو من كابوس الأسر فعلاً، بعد عامين ونصف العام لم ترَ الشمس فيها سوى لدقائق قليلة في الطريق إلى المحكمة، والكثير كان ينتظرها خارج سجن الرملة، وفي الحياة الطبيعية- كما تصفها- هناك الوالد، الصديق، الأخ، الأم التي أثقلتها الأحزان، و.. وجدي ذاك الذي أتوا به يوماً إلى غرفة التحقيق التي أعدّت لها وفي حالة لم تصدّق يوماً أنها ستراه بها وقد انتهى من جلسة شبحٍ, وتعذيب، أخبروها يومها أنّه لن يخرج من السجن وأن تعذيبه وشبحه سيتواصل ما دامت لا تتكلّم، قالت:"منظر خطيبي وجدي يقف أمامي متعباً وفاقد القدرة على التحرّك بسبب التعذيب... لن يغيب عن ذهني ما دمت حية...".

 

"كنت أعرف أنهم قادمون":

في الحادي والعشرين من كانون الثاني 2003، كانت ابتهال (20 عاماً) في حينها، تنهي مكالمة مع وجدي العاروري، خطيبها الذي لم يمضِ على عقد قرانها به سوى ثلاثة أيام، وإذا بالجنود الصهاينة يحاصرون سكن الطالبات الذي تقيم به في منطقة العيزرية والتابع لكلية الدعوة وأصول الدين في أبو ديس حيث كانت تدرس، تقول ابتهال:"كنت أعرف أنهم سيأتون لاعتقالي.. حدسي أنبأني بذلك عندما علمت باعتقال صديقتي: فاطمة زايد، وإيمان أبو سارة، ولم أكن خائفةº إذ إنني قلت لنفسي: قدر الله سينفذ مهما كان، ويجب أن أواجه الموضوع بكل رباط وصبر..."، وفي اليوم الذي اقتحموا فيه المكان كانت ابتهال في حالة صحية سيئة،"عندما فتحت لهم الباب علمت على الفور أنهم أتوا لاعتقالي، ولأنني في حالة صحية سيئة، قلت لهم إنني لست ابتهال.. لكنهم اكتشفوا عكس ذلك لاحقاً... وقاموا باقتيادي إلى بيت إيل وتم إيقافي هناك حتى الصباح، حيث تم اعتقالي في الساعة التاسعة مساء، وبقيت حتى التاسعة صباحاً". تضيف ابتهال عن ليلة اعتقالها الأولى:"كانت ليلة صعبة جداً، والبرد يجتاح الإنسان وكأنني لم يمر عليه مثل ذلك الشتاء.. وضعت في زنزانة صغيرة بلا أغطية ولا تدفئة... وفي البداية كنت وحدي ومن ثم التقيت بالفتاتين اللتين اعتقلتا في نفس القضية لمدة دقائق معدودة وبعد ذلك وضعوني في زنزانة أخرى مع زوجة الأسير أحمد سعدات، وكنت في حالة صحية يرثى لها، وقد ازداد وضعي سوءاً بسبب تركي في العراء تحت المطر بالقرب من بيت إيل لمدة تزيد عن الساعة ونصف وعندما أدخلوني إلى الزنزانة كانوا قد صادروا حقيبة ملابسي، ولم أستطع النوم طيلة تلك الليلة، وفي الثالث والعشرين من كانون ثاني تم نقلي إلى مركز تحقيق المسكوبية في القدس".

 

التحقيق... وصوره التي لا تغيب:

لا تزال تجربة التحقيق التي عايش الألم فيها جسدها وروحها ماثلة أمامها، إذ إن فترة إخضاعها للتحقيق تجاوزت الخمسة وسبعين يوماً، ستعرف ابتهال لاحقاً أنها الأيام الأصعب في حياتها، وفيها رأت ما لم تكن تتوقّع في أسوأ كوابيسها، تقول:"فقط الإيمان والصبر هو الذي جعلني أصمد كلّ تلك الأيام الطويلة والمليئة بالحزن..."، وتضيف ابتهال أنهم خلال فترة التحقيق معها بتهمة مساعدة مطاردين فلسطينيين وتوفير المأوى لهم، استعملوا أسوأ أساليب انتزاع الأقوال التي استخدمت مع المعتقلين الفلسطينيين عامة، حيث لجأوا إلى أسلوب الشبح والذي ترك في جسدي مشاكل صحية كبيرة ومضت فترة طويلة قبل أن أتخلص منها، بالإضافة إلى أنّ أبشع الطرق هي أسلوب الضغط النفسي،"أخبروني أن والدي تعرض لجلطة دماغية وأنه في المستشفى، وأنهم قاموا بترحيل والدتي إلى الأردن، وأنهم سيمنعون زواج إخوتي بأي طريقة، وأن بيتنا أصبح كومة تراب، قالوا لي: طالما أنت في التحقيق ولم تعترفي سيظل خطيبك وجدي تحت التعذيب في المسكوبية، لم أصدق ما يقولون وقلت لهم: إنهم يكذبون وإن هذا الحديث لمجرد الضغط عليّ وإنني لا يوجد لدي ما أقوله مهما فعلوا...".

 

بعد أيامٍ, وعندما كانت ابتهال تخضع لجلسة تعذيب أحضروا لها مجموعة صور،"كانت صوراً لخطيبي وجدي، وعندما رأيته تمنيت لو أنني مت قبل هذا، كانوا يلتقطون له الصور أثناء تعذيبه من أجل الضغط عليّ، قلت لهم: هذه الصور مفبركة وغير صحيحة، بعد دقائق كان وجدي أمامي، وما استطعت أن أقول كلمةº كان متعباً للغاية وفي حالة يرثى لها، يبدو أنه تعرض للشبح فترة طويلة... سلَّم علي وسأل عني، ومن ثم اقتادوه مباشرةً إلى الخارج، حاولت أن أتماسك، أخبروني أن حال وجدي سيظل كما رأيته حتى أدلي باعترافاتي وأنهي الموضوع"..

 

وتضيف:"و في بعض المرات كانوا يتركونني وحيدة في غرفة التحقيق لمدة تزيد عن سبع ساعات وعندما يعودون يسألونني إذا كنت قد تعبت، أجيبهم: أريد العودة إلى الزنزانة، ويعودون لتركي ساعات أخرى، وفي آخر أيام التحقيق كنت قد فقدت الكثير من وزنيº حيث إنني كنت أصوم معظم الأيام بلا طعام صحيّ أو مناسب وفي ظروف معيشية سيئة، حيث إنّ الزنزانة لا يتوفر فيها أي شرط من شروط الحياة الصحية وهي عبارة عن غرفة مظلمة جدرانها مطلية بلون رمادي ومساحتها لا تزيد عن متر مربع ومفتوحة على الحمام، المكان رديء للغاية ويصدر منه روائح وأصوات غريبة... كنت أقضي معظم الليالي في تلاوة القرآن والأدعية، وفي بعض المرات كنت أنشد حتى أخفف عن نفسي..".

 

مع العصفورة:

وفي قصة أخرى ترويها ابتهال، تقول:"نُقِلت بعد انتهاء أيام التحقيق في المسكوبية إلى مركز التحقيق في عسقلان لمدة ثلاثة أيام وهناك تعرفت على ما يسمى بالعصافير، حيث تركوني في زنزانة في اليوم الأول وحيدة، وفي اليوم التالي أحضروا لي فتاة غريبة، حتى أنّ منظرها مقرف، عرفت في الحال أنها ليست معتقلة وإنما عصفورة... حاولت أن تسألني عن قضيتي لكنني ادعيت المرض وكنت طول الوقت نائمة".

 

و في عسقلان أيضاً تعرضت ابتهال للشبح من جديد:"وضعوني على كرسي 45 درجة وقاموا بتقييد يدي وقدمي ووضع غطاء على عيني وبقيت هكذا منذ فترة الصباح وحتى المساء وبعد انتهاء جلسة الشبح تكون أصعب وضعية يمر فيها المعتقل إذ أنه لا يستطيع تحريك أي عضو من شدة الألم....، وكانوا يعلمون في حينها أنني صائمة وعندما طلبت منهم أن يحضروا لي شربة ماء أحضروا لي ماء ملوّثاً بالكاز استخدمته في الوضوء وهكذا قضيت يومين بلا طعام ولا شراب، والمختلف هناك أن الزنزانة كان يوجد بها قطط وكلاب وحشرات من شتى الأنواع..."..

 

الحياة تحت الأرض:

بعد احتجازها في تحقيق عسقلان تم نقل ابتهال إلى سجن النساء في الرملة حيث يتمّ احتجاز أكثر من مائة وعشرين أسيرة فلسطينية في ظروفٍ, لا يمكن وصفها إلا ممن عايش الألم والأمراض والإضرابات واقتحام الغرف، وكانت تنام مع الرطوبة والحشرات في فراش واحد... تتحدث ابتهال عن وضع الأسيرات في"مقبرة الأحياء"كما أطلقت عليها:"وضع الأسيرات خطيرٌ جداً وصعبٌ للغاية، لا أحد يتحرّك من أجل حلّ قضيّتهنّ والإفراج عنهنّ لأنهم لا يدركون مدى المعاناة التي يعشنها... تعيش في الغرفة الواحدة ست أسيرات ولا يوجد فيها سوى أسرّة عبارة عن قواعد من الباطون يوضع عليها فرشات، ولا يوجد أية نوافذ أو فتحات للتهوية، كثيراً ما كنّا نصحو ليلاً من أجل تنشيف الفرش الذي يصبح وكأنّه غرق في الماء بسبب الرطوبة، ومع كلّ هذا لا يوجد في الغرفة وسائل للتدفئة إلا ما يسمى بالبلاطة، قطعة بلاطة على شكل دائرة يتم تسخينها واستخدامها لأغراض الطبخ وما شابه.. وكنا نستخدمها في تجفيف الفراش أيضاً والملابس... كلّ شي في الغرفة بحاجة للتجفيف، حتى في عزّ الصيف لا تفارقنا الرطوبة، لم نكن نعلم إن كان الوقت في الخارج نهاراً أم ليلاً، فقد انتهت علاقتنا مع الشمس والنهار منذ تم إلقاؤنا على أبواب سجن الرملة...".

 

تتابع ابتهال بعبارات الذكريات المرتجعة:"لن أنسى هذا ما حييت... حتى في ساحة الفورة لم نكن لنشعر بالحياة... في ذلك المكان الذي يسمّونه ساحة الفورة لا تتجاوز المساحة الثلاثة أمتار مربعة ومغطاة بالأسمنت المسلح... وكأننا في صندوقٍ, مغلق لا شيء فيه سوى الاختناق...".

 

ووسط هذه الأوضاع بات الوضع الصحيّ للأسيرات في سجن الرملة-خاصة -مأساوياً، إذ إن أمراضا عدة انتشرت بين الأسيرات خاصة الفطريات والأمراض الجلدية وتساقط الشعر بشكلٍ, كبيرٍ, إضافة إلى آلام العظام والروماتيزم خاصة في الشتاء، تقول ابتهال:"إن أيّاً من وسائل التدفئة غير متوفرة في الغرف مما يدفع الأسيرات إلى تسخين المياه وتعبئة العبوات البلاستيكية ووضعها في الفراش من أجل الحصول على القليل من الدفء.. مهما استطعت الوصف لا يمكنني التعبير عن قسوة العيش في ذلك المكان، لا يوجد أطباء، والعلاج الموجود فقط الأكامول، لا يوجد أغطية أو ملا بس كافية إذ إن الإدارة لا تسمح بإدخالها، في الكثير من الأحيان كنا نلجأ لاستخدام الجلابيب وما يتوفر من الملابس كأغطية، تشعر الأسيرة أن كل شيء فيها يرتجف، كنت أشعر بقلبي يكاد يخرج من مكانه، حتى الحمام الملحق بالغرفة عبارة عن مكان مفتوح بلا أبواب وبرائحة كريهة ولا نستطيع استخدامه إلا إذا جلست بقية الأسيرات في زاوية واحدة من الغرفةº إذ أنه مكشوف، نادراً ما يكون هناك ماء ساخن خاصة في الشتاء، أما بالنسبة للأكل فلا يمكن الاعتماد عليه بتاتاً وكنا نشتري ما نحتاج من الكانتينا التي في معظمها معلبات مليئة بالمواد الحافظة والملونات مما أثر على صحتنا العامة بشكل سلبي".

 

"و كأنني طفل ذاهب للعيد":

وعلى الرغم من هذه الظروف إلا أن الأسيرات يعشن في حالة عزلة عن الناس حيث لا يسمح لهن بالاتصال بأهاليهن، ولا تتمكن معظمهن من زيارة ذويهن، تصف ابتهال هذا الأمر:"ليس كل المعتقلات يسمح لهن بالزيارة، فقط الأسيرات من مدينة القدس، ولكن هناك الكثير منهن لم يشاهدن أياً من عائلاتهن منذ ما يزيد عن أربع سنوات، بالنسبة لي تمكنت من مشاهدة أمي في زيارة سمح لي بها بعد 8 أشهر من اعتقالي..."، لم تستطع ابتهال تصديق الأمر في البداية، كانت تستمع إلى برنامج الأسرى مع بقية الأسيرات عندما سمعت إحدى صديقاتها تسلم عليها وتبارك لها بالزيارة التي سمح لوالدتها فقط بالقيام بها، تقول:"لم أصدق، رحت أبكي وكل من كان معي من الأسيرات خاصة أنهن جميعاً في غرفتي ممنوعات من الزيارة، غسلت ملابسي واغتسلت وحضرت نفسي كأنني طفل ذاهب للعيد، لم أستطع النوم طيلة الليل، رحت أفكر كيف سأرتمي في أحضان والدتي، وكيف سألمس وجهها، وعندما أتت لم أستطع حتى سؤالها عن حال أهلي، رحت أبكي بدون انقطاع، ثم حاولت معرفة أحوال والدي، ذلك الرجل الصديق والأخ وكل ما هو جميل في حياتي... عن إخوتي وعن وجدي، أخبرتني أنهم أطلقوا سراحه.. فرحت كثيراً... ورغم أنه كان يفصل بيننا الزجاج والشبك إلا أنني كنت ومن خلال فتحت صغيرة أصرخ علّها تسمعني... وكانت أصعب اللحظات عندما أعلن الجندي انتهاء الزيارة... حينها شعرت أنني بدأت السجن من جديد...".

 

وما أدراك ما الإضراب؟!!

ورغم القصص المتراصة في ذهنها إلا أن ابتهال ومن بين أيام الاعتقال الطويلة استطاعت أن تروي تجربة خوض الإضراب عن الطعام والتي خاضها الأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال في آب الصيف الماضي، تقول:"أضربت الأسيرات في هذه المرة 13 يوماً... بلا سكر ولا ملح، حاولنا وضع عبوات من الماء والملح في الثلاجة إلا أنهم قاموا بمصادرتها، وكنا نرفض تناول أي طعام أو شراب.. إضراب شامل... وفي اليوم الخامس توقفنا عن شرب الماء والتزمنا الفراش جميعاً... هناك فتيات فقدن الذاكرة حتى لم تعد الواحدة تتعرف على زميلتها في الغرفة... كنت أحمد الله دوماً وأتمسك بالصبر وكنت حريصة على الخروج للفورة يومياً، بالرغم من أننا كنا نتحامل على بعضنا ونستند إلى الجدران.. فقط كي نطمئن على باقي الفتيات.. وعندما كنا نلجأ إلى شرب الماء كنت أستفرغ مباشرة إذ إن هذه العملية تصبح صعبة جداً، وفي أحد أيام الإضراب شاهدت فاطمة زايد الفتاة التي اعتقلت في نفس قضيتي وعندما اقتربت منها وسألتها عن وضعها لم تتعرف عليّº كانت قد فقدت ذاكرتها، وقد تأثرت كثيراً لمنظرها".

 

تضيف ابتهال:"كانوا يقتحمون الغرف يومياً لأكثر من ثلاث مرات ويقلبون كلّ شيء رأساً على عقب في محاولة للعثور على الملح... ولم نكن في وضعٍ, نستطيع من خلالها رفع الفراش، وفي الكثير من المرات كنا ننام عليه وهو ملقى على أرضية الغرفة... وفي الأيام الأولى للإضراب نفقد القدرة على الوصول إلى الأسِرَّة التي في الطابق العلوي... خفنا كثيراً على وضع البنات.. وبالنسبة لي بشكلٍ, خاص ساءت أوضاعي الصحية بشكلٍ, كبير حتى أنني فقدت الرؤية بشكل سليم، وأصابني ضعف في الذاكرة وشلّت قدرتي على الحركة، لكنني بقيت مصمّمة على رفض أخذ (إبرة الكيلو) التي يحاولون إعطاءها لنا من أجل فك الإضراب وإخلاء مسؤوليتهم.. في الأيام الأخيرة رحت أحرص على شرب الماء على الرغم من صعوبة نتائجه إلا أنه كان كفيلاً بإعادتي إلى الوعي...".

 

الكثيرات تشوهت أجسادهن:

ولكن انتهاء إضراب الأسيرات في الرملة لم يوقف حملات القمع واقتحام الغرف كما قالت ابتهال:"أتذكر حملات القمع المستمرة، حيث يأتي الجنود والمجندات بشكلٍ, وحشي ويشرعون بضرب الأسيرات بالهراوات دون رحمة... الكثير من الأسيرات تشوهت أجسادهن خاصة عندما كانوا يستخدمون خراطيم المياه الشديدة السخونة في الصيف والباردة جداً في الشتاء، وفي بعض المرات كانوا يرشون الغرف بالغاز ويغلقون كافة المنافذ كاملة مما يؤدي إلى إغماء كافة الأسيرات وتدهور أوضاع المريضات منهن...".

 

"وأنا لا زلت مصدومة"...

ومع اقتراب الأيام الأخيرة من العامين والنصف التي قضتها ابتهال في سجن الرملة صار مشهد الإفراج يرتسم بصورةٍ, أوضح في ذاكرتها، وصار حلم الخروج من قبر الرملة إلى جنة الحياة يقترب أكثر، ومعه أصبح كلّ شيء مختلفاً:"لم تكن الفترة التي جلست أنتظر فيها يوم الإفراج عني بالسهلةº كنت أشعر أنني لن أستطيع استيعاب الأمر والعودة إلى الحياة العادية، وكنت أتمنى لو أنني ألتقي أولاً بأسيرة محررة علني أعرف كيف يمكنني استيعاب الأمر. في الأسبوع الأخير فقدت القدرة على النوم، أقضي الليل وأنا أفكر كيف سأرى أهلي وإخوتي... وكيف سأحتضن والدي الذي ما اشتقت لأحد مثله، صورته لم تفارق خيالي حتى في لحظات فقدان الوعي كنت أراه، وأشتاق إليه... إخوتي الذين تزوجوا وأنجبوا أطفالاً في غيابي... وكذلك وجدي الذي أرهقني انتظاره في أيامٍ, لا تنتهي كنت أشعر بالدقائق تمرّ بطيئة وقاتلة أحياناً"، وتضيف ابتهال:"في الأسر يشعر الإنسان أنه أصبح شخصاً آخر، عامان ونصف تحت الأرض تجعل منا غرباء عن أنفسنا وأهلنا، وهذا ما أخافني، عمدت (إسرائيل) إلى قلب الواقع في السجون، لا شيء فيها يدلّ على حياة طبيعية وكأن الإنسان يعيش في خيال قاسٍ,، كل شيء في السجن غير شبيه بما هو عليه في الخارج: الغرف، الأسرّة، الحمام، حتى ما يسمى بغاز الطبخ ليس كما هو في الحياة الطبيعية، كل شيء غريب".

 

عندما أفرج عن ابتهال في الثالث من شباط الماضي كادت تلقي بنفسها من السيارة التي أقلتها من حاجز مودعين إلى رام الله عندما شاهدت والدها:"كنت أشعر أنهم جميعاً فرحون لكنني كنت في حالة من الذهول أفزعتني، حتى الآن لا أصدق أنني خرجت إلى الحياة أخيراً، وأنهم أمامي جميعاً.. وعندما التقيت وجدي كانت أصعب اللحظات، حتى اليوم لا أستطيع أن أعبّر له عن امتنانيº صبر وتحمل مدة طويلة، واختار أن ينتظرني، وها هو اليوم أمامي وكأن شيئاً لم يكن.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply