الحقائق الخفيّة لمسلمي الحبشة سابقاً - إثيوبيا حالياً -


 

بسم الله الرحمن الرحيم

يتعرض المسلمون وتتعرض العقيدة الإسلامية لانتقادات وحملات وتشويهات باستخدام مختلف الأساليب والوسائل والألفاظ والافتراتº فمرة يُتهم الإسلام بالرجعية، ومرة أخرى بالتشدّد والتطرّف، وأخيراً وليس آخراً بالإرهاب.

كان على مسلمي الحبشة وعلى عقيدتهم النصيب الأكبر من الضغط والقمع والاضطهاد والتنكيل والأذى والحرمان حتى من أبسط حقوقهم الإنسانية وذلك من خلال الأنظمة المختلفة التي تعاقبت على إدارة هذه البلاد، ومن خلفها الدول المسيحية الرأسمالية الغربية، وما سبقها من الحروب الصليبية، والاستعمار الغربي، والدول الشيوعية.

وقد ساعد هذه الأنظمة أعداءُ الإسلام والمسلمين على تحقيق أهدافها ومآربها، وقد لحق بالمسلمين في هذه البلاد من الجهل والتخلف والفقر من خلال ما فرضته عليهم الأنظمة المختلفة حتى تكون هذه صورتهم المطلوبة.

وقد مرّت على هذه البلاد عدة أنظمة وهي على النحو التالي:

1- أنظمة ملكية إقطاعية لفترة طويلة استمرت حتى عام 1967م، ومن خلالها (5) سنوات نظام استعماري إيطالي.

2- أنظمة شيوعية عسكرية من 1967- 1984م.

3- أنظمة ديمقراطية (علمانية) منذ عام 1984 ولا تزال.

ففي كل هذه الأنظمة المختلفة كيف كان وضع الإسلام والمسلمين في هذه البلاد؟

هذا ما سنتحدث عنه بالتفصيل على أن يُؤخذ في الاعتبار العوامل التالية:

1- إن ما أُشير إليه في هذا التقرير هو جزء بسيط جداً أو قطرة من الغيث من الواقع الحقيقي.

2- عند الحديث عن هذا الموضوع نضع أمامنا مراقبة الباري جلّت قدرته، ومن خلال قوله تعالى: ((ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)).

3- من خلال ما لديكم من الوسائل الإعلامية السمعية والبصرية والمقروءة - وبالذات الموقع الإعلامي -، ونحن حُرمنا من تملكها نظراً لقدراتنا المادية والعلمية والإدارية والنظامية رغبنا تزويدكم بهذه المعلومات على أن تقوموا بنقلها عبر هذه الوسائل لإخواننا في العقيدة الإسلاميةº حتى يكونوا على علم وبصيرة بما عليه إخوانهم المسلمون، وما كانوا عليه في الحبشة (إثيوبيا) في الماضي وفي الحاضر.

 

الحبشة:

هي البلاد التي أنجبت لقمان الحكيم، النجاشي، بلال، أم أيمن حاضنة سيد الخلق محمد بن عبد الله - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم -، ووالدة حِبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد، وأمثال مهجع الحبشي، وأبي بكر الحبشي، وشقران الحبشي، وذو مخمر الحبشي، وهلال الحبشي، ويسار الحبشي وغيرهم وكلهم كانوا من الصحابة الأجلاء الذين وقفوا بجواره - صلى الله عليه وسلم - في ساعة العسرة والمحنة، ولا شك أن العناية والاهتمام الذي ناله المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من أم أيمن - وبالذات بعد وفاة والدته وهو صغير - حتى قال فيها: "أم أيمن بعد أمي"، ومنه نال الأحباش حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قال فيهم: (من أدخل في بيته حبشياً أو حبشية أدخل الله في بيته بركة ).

ومن ناحية أخرى هي البلاد التي أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما كان وأصحابه الكرام في محنة ومشقة وحصار بأن يهاجروا إليها قائلاً: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه)، وكان نتيجة ذلك أن أصبحت الحبشة بلاد الهجرتين، ودخل الإسلام فيها قبل أن يدخل طيبة الطيبة، وكان نصيبها أن استقبلت أعظم وأفضل وخيرة وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأوائل أمثال: عبد الله بن جحش، عبد الرحمن بن عوف، جعفر بن أبي طالب، عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومصعب بن عمير، وأبو عبيدة بن الجراح، وعثمان بن مظعون، والزبير بن العوام، وخالد بن سعيد، وعتبة بن غزوان، وعبدالله بن مسعود وغيرهم.

وكان من الفضل والأولوية أن تكون هذه العوامل والظروف والمواقف وسائل لأن تنال الحبشة وبالذات المسلمون فيها جل الاهتمام والعناية من إخوانهم في العقيدة الإسلامية - وبالذات عرب الجزيرة العربية - من خلال توطيد وتطوير العلاقات المختلفة السياسية منها، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، إلا أن الذي حدث هو العكس للأسف الشديد، حيث كان التباعد والانفصال والانقطاع والتجاهل هو سيد الموقف خلال العصور المختلفة، حتى أصبح يُقال: "هل يوجد مسلمون في إثيوبيا (الحبشة) "، وحتى تم تسجيلهم في الهيئات والمنظمات الإسلامية العالمية كأقلية إسلامية، وتم التلفيق والتزوير والتضليل في نسبهم السكانية في أنهم يمثلون خمسة وعشرين في المئة من عدد السكان في البلاد، ويا ترى من كان السبب في ذلك؟ ومن يقف وراء هذا الظلم الشنيع؟ ولماذا تم اتخاذ ذلك من الأهداف والوسائل الخبيثة؟ ومن المستفيد من وراء ذلك؟

مسلمو الحبشة غالبية عظمى من عدد سكان إثيوبيا البالغ سبعين مليون نسمة حسب الإحصائية الأخيرة، ويمثل المسلمون فيها ستين في المئة فأكثر.

تعرض المسلمون في هذه البلاد إلى جميع وسائل التنكيل والقتل، والاضطهاد والتشريد، والحرمان من أبسط الحقوق، وتم إقفال البلاد أمام جميع وسائل الإعلام العالمية المختلفة السمعية منها والبصرية والمقروءة حتى لا تنكشف وتتضح هذه الجرائم البشعة.

مُنع المسلمون من الخروج من البلاد نهائياً، وتم منع دخول المسلمين من الخارج إليهم، فلا يُسمح لمسلم في البلاد الاتصال بأي وسيلة كانت بإخوانهم في العقيدة الإسلامية في العالم، ويُسمح لكبار السن من مسلمي إثيوبيا (وفي أضيق الحدود وبعد البحث والتحري والمراجعة) بالحج والعمرة، ويكون هؤلاء في أجواء من المراقبة والمتابعة لتحركاتهم ولقاءاتهم وتنقلاتهم أثناء تواجدهم في الأراضي المقدسة في مكة والمدينة.

أما الشباب المسلم فليس بالإمكان الخروج من البلاد نهائياً، ومن استطاع الخروج منهم من البلاد يُعدون على الأصابع استطاعوا استخدام طريق البر مشياً على الأقدام للوصول إلى السودان، ومن ثم الوصول إلى مصر، والالتحاق بالجامع الأزهر للدراسة، أو تغيير الاتجاه للوصول إلى السعودية، ومن ثم الالتحاق بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

وهذه الفئة القليلة حتى بعد نيلها الشهادة الجامعية لا تتوفر لها الوظائف المناسبة داخل البلاد للعمل فيهاº مما يضطرهم للبقاء خارج البلاد، والعيش في حياة الغربة بعيدين عن الأهل والوطن، ومن رجع منهم إلى البلاد (وبعدد محدود جداً) التحق - وبشق الأنفس - بالمحكمة الشرعية التي هي أصلاً محكمة صورية لا صلاحية لها، ولا مكانة لها في المجتمع. حيث من ينتسب إليها كموظف يعتمد له رواتب شهرية لا تزيد عن مئتي بر شهرياً، في حين ينال الموظف المعتمد في المحاكم المدنية الأخرى ما بين ستمائة وسبعمائة بر شهرياً، ناهيك أنه لا يتم اعتماد هذه الشهادات الجامعية المصرية والسعودية من قبل الجهات الرسمية الحكومية كشهادات معتبرة رسمية، مما اضطر المتخرجين من الجامعات العربية والإسلامية البسطاء أصلاً للبقاء خارج البلاد كمهاجرين.

وهنا نعود لننظر إلى أوضاع المسلمين في الأنظمة المختلفة التي مرت بهذه البلاد.

أولاً: المسلمون في عهد الأباطرة والملوك الذين حكموا هذه البلاد، واستمر حكمهم حتى عام 1967م، وهنا نذكر على سبيل المثال فقط عهد الإمبراطور تيدروس، ويوحنا، ومنليك، وهيلا سلاسي.

 

في عهد الإمبراطور تيدروس:

كان هذا الملك يعتبر الحبشة والمسيحية صنوان لا يفترقانº لذا عمل جاهداً على اعتناق المسلمين المسيحية، وعندما أصبح تيدروس في أوج قوته عمل على تحقيق ثلاثة أهداف هامة:

1- القضاء على سلطة الطبقة الأرستقراطية والإقطاعية في البلاد.

2- القضاء على قبيلة الجالا أو اعتناقهم المسيحية.

3- طرد جميع المسلمين الذين لا يعتنقون المسيحية من البلاد.

 

في عهد الإمبراطور يوحنا الرابع للفترة (1872- 1889م):

ولقد تميز عهده بشدته وقسوته على المسلمين، وحدد فترة أقصاها ثلاث سنوات حتى يتحول المسلمون إلى الدين المسيحي، وفرض على المسلمين أن يبنوا كنائس على نفقتهم بجوار مساكنهم، وأن يأكلوا اللحوم التي ذُبحت على أيدي المسيحيين، وأن يدفعوا عشوراً خاصة للقسيس والكنائس التي في منطقتهم، وأخذ يستعمل مختلف الوسائل لتعذيبهم، والحطّ من شأنهم، فلجأ كثيرون منهم إلى الفرار من الهضبة إلى المناطق البعيدة عن سلطانه، بينما اضطر الكثيرون إلى التظاهر باعتناق المسيحية حتى يأمنوا على أنفسهم وعلى أرزاقهم، لكنهم ظلوا في صميم قلوبهم مسلمين متسترين على إسلامهم، حتى إذا حانت ساعة وفاة أحدهم نطق بالشهادتين.

وفي سنة 1878م عقد الملك يوحنا مجمعاً يضم رجال الكنيسة الحبشية، ونادوا به حكماً أعلى في المسائل الدينية، وقرروا وجوب الاقتصار على دين واحد في كافة البلاد، وأعطى المسيحيين على اختلاف طوائفهم الذين لا يعتنقون مذهب اليعاقبة مهلة عامين ليصبحوا بعدها متفقين في الرأي مع كنيسة البلاد، وألزم المسلمين باعتناق المسيحية في خلال ثلاث سنين، وأذاع الملك مرسوماً بعد ذلك بأيام قليلة أوضح فيه أن مهلة ثلاث السنوات التي منحها للمسلمين ليست بذات أهميةº ولم يقتصر على إلزامهم ببناء كنائس مسيحية في مناطقهم كلما احتاج المسيحيون إليها، وكذلك دفع العشور للقساوسة الذين في مقاطعاتهم فحسبº بل إنه أنذر الموظفين المسلمين بأن يختاروا خلال ثلاثة شهور بين قبول التعميد واعتناق المسيحية أو التخلي عن وظائفهم.

ويقول (مساجأ) أحد الكتاب أن الملك (يوحنا) أرغم سنة 1880م ما يقرب من خمسين ألف من المسلمين على التعميد، ناهيك عمن قتلهم وأبادهم.

 

عهد منليك (1865-1913م):

تميّز حكم منليك بخواص ثلاث بالغة الأهمية وهي:

1- امتداد إمبراطوريته إلى الجنوب الغربي مستولياً على الممالك الإسلامية، والقضاء عليها.

2- احتفاظه باستقلال الحبشة، ودفاعه عنها ضد الحملة الإيطالية في سنة 1896م.

3- القضاء على سلطة الملوك والأمراء، وجعل الدولة وحده واحدة وبالذات الإسلامية منها، وكسر شوكة الإسلام، ولقد كان المبشرون ومن جلبهم من المندوبين العسكرين من أوروبا خير المستشارين لمنليك لتحقيق هذه الغاية.

 

العهد الأول للإمبراطور (هيلا سلاسي):

نال لقب الملك في عام 1928م، واعتبر نفسه ملكاً للملوك، وسمّى نفسه "الإمبراطور هيلا سلاسي" الأول في عام 1930م، ولهذا الملك صفة هامة استخدمها لتحقيق مآربه ومكائده ضد الإسلام والمسلمين أكثر من غيره من الملوك السابقين، فلم يشأ أن يستخدم عنصر القوة والقتل المباشر على المسلمين، بل استخدم أساليب ووسائل سياسية أكثر مكراً وحقداً، وطغينة وخداعاً.

فعندما وقف أمام عصبة الأمم في عام 1928م للدفاع عن حق بلاده واستقلالها من إيطاليا نطق بكلمة قال فيها:"إنه يريد وحدة الدين واللغة لبلاده، ويعمل جاهداً لتحقيق هذه الغاية" وحدة الدين المسيحية، وحدة اللغة اللغة الأمحرية.

وعليه بعد استلامه للسلطة لم يلجأ إلى الأساليب السافرة من الاضطهادات الدينية الإجبارية التي كانت سائدة في عهد الملوك الذين سبقوه في حكم البلاد، بل تظاهر بأن حرية الدين مكفولة، وألغى ما يتعارض مع ذلك من قوانين، لكنه اتبع نفس الإجراءات السابقة بالنسبة للمسلمين، وأقرها بطريقة مستترة بأن سمح للمسلمين بمزاولة النشاط التجاري على أن يبعدوا عن الوظائف والمناصب العامة، ومن جميع ما يتعلق بحياة البلاد السياسية، وجعل بين المسلمين وبين الطبقة الحاكمة فاصلاً واضحاً، وقد أخذت أساليب التفرقة طابعاً رسمياًº إذ إن الدستور الجديد الذي أصدره ربط بين الجنسية الحبشية والدين المسيحي ربطاً متيناً قضى على آمال المسلمين في تحسين مستواهمº فاعتبر المسلمين لاجئين لديه فليست لهم ولا عليهم الحقوق والواجبات الممنوحة للمواطن الحبشي، وما سمح للمسلمين من مجال فقط هو النشاط التجاري والزراعي والرعي فقط، لكن الضرائب والعلاوات والأتوات التي فرضت عليهم للحكام وأعوانهم وللكنيسة ومنسوبيها لم يُعط لهم المجال لتحقيق ما يصبون إليه من الرقي إلا ما يسد رمق عيشهم فقط.

 

المسلمون من خلال الاحتلال الإيطالي للبلاد:

منذ اللحظة الأولى أعلن الإيطاليون أنهم سيحمون الإسلام والمسلمين، وسيعاملونهم على قدم المساواة مع المسيحيين، وأعلن موسولوني أنه سيضمن لهم السلام والعدل والرفاهية، وسيعمل على احترام القوانين الإسلامية، ولم يكن مسموحاً للمسلمين في الحبشة أن يقيموا مساجد جيدة البناء، ولكن الإيطاليون صرحوا ببناء مساجد جديدة لهم في كل مكان يوجد به مسلمون، وقامت الحكومة بتعيين القضاة الشرعيين لتطبيق الشريعة الإسلامية، وأُدخل تدريس اللغة العربية في جميع المدارس التي أُنشئت للمسلمين، ولقد كتب الأمير شكيب أرسلان في هذا الموضوع مقدمة كتاب: (المسلمون في الحبشة) في إبان الاحتلال الإيطالي بهؤلاء الذين يتباكون على احتلال الحبشة يقول: "أفلا تذكرتم سلطنة هرر الإسلامية التي أغار عليها الملك منليك الثاني السابق، ونسف استقلالها، واستحلها وذبح من أهلها خمسة آلاف رجل في شوارع هرر، وضبط أملاك كثير من المسلمين، وجعل مسجدهم الأعظم كنيسة، ومنع استعمال اللغة العربية... الخ.

 

العهد الثاني للإمبراطور هيلا سلاسي يبدأ من عام 1942م:

قامت الحملات البريطانية بطرد الإيطاليين من شرق أفريقيا، وإعادة عرش إثيوبيا إلى الإمبراطور هيلا سلاسي، وقد سبق كلامنا عن حالة المسلمين في عهد هيلا سلاسي الأول، أما ونحن نتكلم عن عهده الثاني فإن أشياء كثيرة قد تغيّرت بين العهدين، وكان منها انتعاش المسلمين بفضل سياسة المساواة التي اتّبعها الطليان، فلقد وجد المسلمون في هذه المساواة فرصة نادرة للانطلاق حتى أصبح عماد البلاد متوقف عليهم لكثرة عددهم ونشاطهم، وإقبالهم على الزراعة والتجارة والصناعة الناشئة، ولكن ما إن عاد الإمبراطور إلى الحكم مرة أخرى حتى أخذ يعمل في هدوء وبراعة لكي يعيد المسلمين إلى ما كانوا عليه في السابق من حرمان وإهمال وظلم، ويرخي عليهم ستاراً كثيفاً من النسيان يحجبهم عن العالم ويحجب العالم عنهم.

ومما يؤسف له أن الإمبراطور استعمل هذا الدهاء النادر والخبرة التي لا تُجارى في محاربة المسلمين والإسلام، واستعمل نفس الخبرة في حجب أخبار المسلمين في بلاده عن العالم الخارجي، في الوقت الذي يعمل فيه على إظهار نفسه بمظهر الحاكم المتسامح، بل المفرط في تسامحه، وعاونته على ذلك أجهزة الإعلام الغربية التي تسيطر على إعلام العالم، حتى أصبح من المستحيل على من ليست له دراية بتلك البلاد معرفة الحقيقة، ولا يمكنه الاعتماد على ما تكتبه وتنشره وسائل الإعلام الزائفة التي تسيطر عليها الدولة، ولم يعد هناك سبيل للاطلاع على الأمور ومعرفة الأوضاع الصحيحة إلا بزيارة البلاد، وزيارة البلاد للمسلمين ليس بالأمر الهين.

سلاح رهيب يتقنه الأحباش، ويتفقون فيه في عهد الإمبراطور هيلا سلاسي وهو سلاح الإهمال والنسيان سددوه إلى المسلمين، فسرعان ما فقد المسلمون جميع ما كسبوه في عهد المساواة الذي ساد في عهد الطليان، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه، وأصبح محرّماً على المسلم مرة أخرى تولي الوظائف الهامة، أو الالتحاق في الجيش، أو الخدمة في الشرطة، أو التمتع بوسائل التعليم الحديثة التي تعتني بها الدولة غاية العناية، وتنفق عليها جانباً هاماً من أموال الدولة، الذي تحصل على أغلبه من الضرائب التي يدفعها المسلمون، وإنك لا تجد مسلماً موفداً في بعثة من تلك البعثات التي تعلق الدولة عليها آمالها للمستقبل، وخلاصة القول هو أن ما يمكن أن يتصوره القارئ من وسائل الظلم والإهمال وسوء المعاملة يجده مطبقاً في أسوأ حالاته في هذا الحكم، في هدوء وبرود وبراءة، والوضع الذي كان سائداً في الحبشة في هذه الفترة هو طبقة متميزة حاكمة تتألف من المسيحيين، فمنها الحاكم والموظفون في جميع الدرجات ومنها الجيش والشرطة ورجال الأمن، وقليل منهم يعملون في الزراعة، والباقون لا يزالون يعيشون في حالة مذهلة من التخلف والبداوة، وتبذل الحكومة أقصى جهدها لرفع شأنهم وتخصهم بعنايتها حتى تغير من أحوالهم في أقصر وقت لتزداد قوة المسيحيين تمكّناً وثباتاً، هذا بالإضافة إلى رجال الكنيسة الذين بلغ عددهم حوالي ثلث عدد المسيحيين، ويعيشون على موارد ثلث أراضي الحبشة الموقوفة لهمº إذ بلغ عدد كنائسهم أكثر من ثلاثين ألف في طول البلاد وعرضها، وبلغ عدد الكهنة أكثر من أربعين ألفاً يقومون بالإشراف على إدارة الكنيسة، والتنصير ونشر الإلحاد والضلال، بجانب أنه تم تعميم بناء الكنائس في الأرياف والقرى والمدن وبالذات في المناطق الإسلامية حتى ولو لم يكن فيها مسيحيّ، أما الطبقة الأخرى فهي من المسلمين الذين هم غالبية أهل البلاد، وتتكون منهم الطبقة المحكومة، تُطبّق عليهم أساليب التفرقة التي سادت منذ أقصى عصور التاريخ، وكذلك في العصور الوسطى، من تقسيم الشعب إلى سادة وعبيد، فالمسيحيون هم السادة والمسلمون هم العبيد، عليهم حراثة الأرض، ومزاولة الحرف والتجارة، ودفع عملية الحياة في البلاد تسوقهم الطبقة الحاكمة إلى ذلك سوقاً، وتجبي منهم الضرائب والعشور، وتفرض عليهم أداءها عدة مرات كل ما شاء حكام المناطق ورجال الأمن الحصول عليها، ثم بعد ذلك كله يُحرم المسلمون من التمتع بحقوقهم كمواطنين، بل تُطبق عليهم قوانين مستوردة تكسر من شوكتهم، وتحيطهم بسياج لا يمكن تخطيه، وتضغط عليهم للبقاء في أوضاعهم بحيث لا يتمكنون من أن تقوم لهم قائمة.

ومن أهم الأساليب التي تدفع الحكام المسيحيين إلى الإمعان في الضغط والظلم وتضييق الخناق على المسلمين في هذا الفترة معرفتهم التامة بالحقيقة الخافية عن العالم، وهي أن المسلمين أصبحوا غالبية بين أهل البلاد، ويتمّيزون بصفات لا تتوفر لدى المسيحيين، ولقد أجمع جميع الكتاب والمؤرخين والرحالة الأجانب على أن المسلمين يتميزون بالنشاط والذكاء، والدأب على العمل، ويُعرفون بنظافتهم وتفوقهم في مجال المدنية، وتفتح الذهن والاستعداد الطبيعي لسرعة التقدم إذا أُتيحت لهم سبل العلم والمعرفة، لذلك اتفقت كلمة حكام الأحباش على الإمعان والإصرار والعناد على ما يفرضونه على المسلمين من حرمان وإهمال، ويعلم الحكام أيضاً من حوادث تاريخهم القريب إلى الأذهان أن المسلمين إذا تجمعت كلمتهم أصبحوا خطراً لا قبل لهم بمواجهتهº لذلك يعتمد الحكام في استمرار الوضع الراهن بتقطيع أوصال المسلمين، والمقاطعات الإسلامية، ومواجهة ومحاربة كل بادرة من بوادر الاتصال بينهم في الداخل، وفيما بينهم وبين إخوانهم في العقيدة بالخارج، بل يعمد المسؤولون على إثارة الخلافات والنعرات القبلية والطائفية والعنصرية بين المسلمين، ويعملون على توسيع أسباب الشقاق والخلاف بينهم، والحكام في هذا السبيل لا يعدمون الوسائل المتعددة، فهم يضربون فريقاً بفريق، ويشترون ذمم بعض ضعاف النفوس، ويخصون بوظائف الأئمة وقضاة الشريعة من يدين لهم بالطاعة والولاء، وإذا لمسوا من أي مسلم نزعة إلى التحرر أو الاحتجاج نزلت به أقسى أنواع المعاملة من تشريد وحرمان وسجن، ثم اغتيال إذا استدعى الأمر ذلك، وهذا هو الواجب الأول المناط على الحكام الذين يعيّنهم الإمبراطور على مختلف مقاطعات الدولة.

فقد ظل الإمبراطور يعمل جاهداً للاستمرار في استخدام هذه الأساليب طوال خمسين سنة، وتحت شعار هام كان ينادي به وبمباركة الكنيسة (إثيوبيا جزيرة مسيحية)، وخلاصة القول في هذه المرحلة إنّ ما سُمح للمسلمين من المهن المُناطة بهم هي: الزراعة والرعي والتجارة فقط، ولكل منهم القيام بتسديد الضرائب والأتاوات، والعلاوات والعشورات للحكام وللكنيسةº فكما سبق أن قلنا: إنه تم توظيف ثلث أرض البلاد للكنيسة، وما تبقى من الأراضي للحكام وأتباعهم، وعليه فإن على المزارع والراعي المسلم (المحروم أصلاً تملّكه لآلية ووسائل الإنتاج) أن يعمل جاهداً على تسديد هذه الضرائب والأتاوات والعلاوات للحكام والكنيسة، ويتمثل ذلك مادياً وعينياً، فمثلاً لو قلنا: إن مزارعاً مسلماً قام بمزاولة مهنة الزراعة فعند حصد محصولاته الزراعية في نهاية السنة، وقبل أن يأخذ شيئاً لبيته لإعالة أبنائه أو أسرته يقوم بشحن جزء من هذا المحصول على دابته قاطعاً المسافات الطويلة ماشياً على الأقدام للحكام أو للكنيسة التي تملك هذه الأرض، أو لمن يتم تفويضه من قبلهمº لتسليمها لهم عينة من هذا الإنتاج الزراعي موضحاً الكمية التي حصل عليها، ويأتي بعد ذلك تسديد الضرائب مادياً، أي أن الفلاح المسلم يضطر لدفع الضرائب والأتاوات مرتين في السنة على الأقل عينياً ومادياً، وإذا لم يقم أو يتأخر بتنفيذ ذلك يتم سحب الأرض منه وطرده، ناهيك عما يدفعه من الرشاوي والعلاوات لرجال الأمن ومنسوبي الحكام المعتمدين في هذه الأقاليم والمحيطين بموقعه وموقع سكنه ومزارعه، والغريب في الأمر أن من يرتد عن عقيدته الإسلامية بإمكانه الحصول والتملك على قطعة أرض إن كان فلاحاً، أو الانضمام إلى الوظائف في الدولة وبالذات في الميادين العسكرية والشرطة والأمن، وبالتالي التمتع بميزة الترقية والحصول على المنح والعلاوة المختلفة.

 

المسلمون في عهد الحكومة الشيوعية العسكرية (1967-1984م):

كان لهذا النظام جانب إيجابي وجانب سلبي بالنسبة للمسلمين والإسلام في هذه البلاد.

أما الجانب الإيجابي: عندما أعلن النظام المبادئ الشيوعية في البلاد كان عليه أن يضرب بالدرجة الأولى الفكرة الإقطاعية، والملكية الخاصةº فإذا عرفنا أن ملكية الأرض كانت مقسمة بين النظام الحاكم الملكي وأعوانه ومنسوبي الحكام من الجيوش والحاشية، وبين الكنيسة المرشد الروحي العالي للحكام المستبدينº فإن المتضررين والمتأثرين من النظام الشيوعي كانت الطبقة الحاكمة وأتباعها والكنيسة بالدرجة الأولى، فلم يكتف النظام بالتأميم على الأراضي ووسائل الإنتاج، بل تطور الأمر إلى تأميم المباني الخاصة في المدن، وكانت غالبيتها تعود ملكيتها للأطراف المذكورة آنفاً. بالإضافة إلى ذلك فإنه ونظراً لقلقه

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply