بسم الله الرحمن الرحيم
سألوها: الحزن يملأ عينيك، يسكنهما ويرفض أن يغادر ورغم ذلك تأبى الدموع أن تسقط، فَلِم يا سيدتي إصرارك على الحزن؟!
وصمتت ولم تجب!
سألوها: لكل شيء نهاية، وحزنك كالبحر العظيم ليس له نهاية..
ربما لو سقطت الدموع ينتهي حزنك ويزول..
ربما يهدأ القلب ويستكين لو بكت العين وبللت الخدود..
ونظرت إليهم ولم تجب!
قالوا لها: حزن الناس يتناقص، ووحده حزنك يتزايد ويتوالد!
أغمضي عينيك حتى لا تذكرك الأماكن بالأحبة والفراق وبالحزن والاشتياق.
تناسي آلامك مثلنا، افرضي الفرح على نفسك كما فرضت عليه الحزن، هيا ارقصي معنا، تشاغلي عن الهموم مثلما فعلنا، لا زلت شابة، الدنيا كلها ملك يديكِ.
وأعرضت عنهم بوجهها ولم تجب!
وعادوا يسألونها: ماذا تفعلين وأنتِ مطمئنة العينين؟ ارسمي المستقبل مزهوًّا بالورود، ارسميه راقصًا باسمًا، ستنقشع كآبتك!
وأغمضت عينيها وسألتهم: أحين أغمض عينيي لن أرى الدماء و..؟
وقاطعوها: نعم، فقط جَرَّبي!
وعادت تسأل: ألن أشعر بالنيران والألم يلتهم جوانحي؟
ألن أسمع صوت البريء الصغير يقتل وهو يستغيث بأمه وأبيه؟!
ألن أسمع الصرخات والعويل والصياح؟
ألن أسمع الأنين وأكتوي به حتى بلوغ الروح مشارف السماء؟!
وأسرعوا يصرخون: اصمتي فقط عن الحديث، فقط تجاهلي، لا تذكرينا ما بذلنا من جهد لننساه، ألا تدركين؟!
فتحت عينيها، نظرت إلى وجوههم همست لهم:
انظروا، أسفل أحذيتكم دماء الصغير حمراء لم تجف!
حولكم أشلاء الشاب والمرأة لم تتآكل بعد، وأيضًا لم تُدفن بعد!
وأخذهم الهلع والحزن، فنظروا أسفل أحذيتهم، تلفتوا حولهم، ثم ابتسموا في شفقة ورأفة بها، وانصرفوا عنها إلى عالمهم الصاخب العَبق برائحة الحياة والمباهج والملذات!
وشعرت هي بالراحة أن خلّوا بينها وبين حزنها الحبيب، ولكنهم عادوا إليها بعد حين.
قالوا لها: يجب أن تفكي أسرك من هذا الحزن القاتل... إنه يغتال شبابك الغض ويقتل مستقبل أيامك.
وقاطعتهم: مهلاً، إن ابتساماتكم واهنة وفرحكم مزيف لا يشبع الروح ولا يملأ القلب، تمامًا كشمس الشتاء تسطع حقًّا بالضياءº لكنها واهنة ضعيفة لا تدفئ الروح ولا تُفرح الفؤاد!
إنّ حزني راحة لفؤاديº فهو حقًّا شعور بسيط لكنه عميق ودائم، إنه يتسلل إلى نفسي ويسكن قرارها البعيد ويرفض أن يغادر تمامًا كما يرفض الصغير ترك غنيمة من الحلوى وقع عليها...
لقد صادقتُ حزني حتى تنفّس الهواء معي، وأكل معيº فحوَّل مذاق كل شيء إلى عدم..، وشرب معيº فحوَّل كل شراب إلى علقم، لكنه لا يغتالني ولا يقتلني إنه وقود ناري وطاقة حياتي القادمة.. إنه في فؤادي صديق دائم وفيّ لن أخونه أبدًا، أوَ ينكرُ عليَّ أحد هذا الحزن العميق القابع في عيني؟!
لقد تلاءمتُ معه.. أعطيته من نفسي كل ما نال عن رضا وعن طيب خاطر، إنني أتقرب إلى الله بهذا الحزن الذي ترون.
إن الحزن على الدم الموحد مسؤول بلا حساب ولا ضجيج ولا حتى عتاب أو عزاء أو أنين.
ورفعت بصرها إلى السماء يخاطبها في رجاء..
يا إلهي! كم آسى الحال المسلمين اليوم!
أرى في عيني طفلتي شهيدة تحتضر..
وأرى في عيني طفلي شهيد نزف حتى الموت..
أوَ أملك يا رب أن أمرح أو ابتسم ودماء المسلمين حولي أنهارًا لا تنضب أوَ أملك أن أصادق أحدًا غير الحزن؟!
إنني قد أبتسم لطفليº فإذا ما ابتعد عني مسحتُ دمعاتي المتقافزات حزنًا على أمٍّ, تحتضن أشلاء طفلها الممزق، وقد كان يمرح منذ لحظات!
إنني قد أضحكº لكني أضحك كذبًا، وأبكي صدقًا.
لقد أغلق قلبي بابه في وجه الضحك بلا أسف!
لقد فقدنا الكثير الكثير، واسألوا مخيم جنين، ونابلس واسألوا الأقصى الحزين..
أيها الحزن يا صديقي، كن صديقي فإنني أتقرب إلى الله بك.
فكلما كنت عميقًا.. قويًّا.. تشغل مساحات الحنايا والنفس كلما أحسست براحة أكثر، فأنت أيها الحزن أبسط ضريبة، وأقل ضريبة يجب أن يدفعها أحد على هذا الدم المسكوب بلا حساب.
فلتعتصر قلبي إذًا أيها الحزن لأستمد منك قوة وقدرة على الاستمرار والمواجهةº فبداية النصر الحزين العميق، وبداية الهزيمة النسيان ثم الفرح المزيف اللئيم!
أيها الحزن أيمكن أن تكون طاقة؟!
نعم.. إنك طاقة جبارة تنمو في الأعماق، تنضج في بطء ولكن بهدوء وعمق.
إنك أيها الحزن، وحدك القادر على حفر المآسي والكوارث في الذاكرة حتى تستعصي على النسيان، وبذا نستعصي نحن على الهزيمة والفناء!
فلتبق إذًا في حناياي ترتوي من دمي.. حتى نثأر لهذه الدماء!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد