ولكنكم غثاء


بسم الله الرحمن الرحيم

 

عندما أتدبر كلمات الوحي قرآناً وسنّة أرى أن واقع الأمة الإسلاميّة محفورٌ بحروف بارزة لا تخفى على من نظر إلى بواطن الأمور ولم يخدعه سراب الظاهر النَّفاذ، ولم يعشه تباين الألوان الممزوجة الأخاذ، فقد دبَّ الوهن إلى أوصال هذه الأمة.

 

وهذه الحالة وردت الإشارة إليها، والتنبيه عليها صريحة دون لبس، واضحةً دون غموض، مدوية دون ضجيج - يُثير النَّقع فيحجب الرؤية - في حديث ثوبان - رضي الله عنه - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يوشك أن تداعى([1]) عليكم الأمم كما تداعى الأكلة([2]) إلى قصعتها([3]).

فقال قائل: أومن قلّة نحن يومئذ؟

قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء([4]) كغثاء السيل، ولينزعنَّ([5]) الله من صدور عدوكم المهابة([6]) منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن([7])).

قالوا يا رسول الله! وما الوهن؟

قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) ([8]).

وهذا الحديث - الذي يشخِّص حالة الوهن- يُلقي بظلال ظليلة، ويوحي بدلالات ثقيلة على واقع الأمة الإسلاميّة.

أولها: أنَّ أعداء الله من جند إبليس وأعوان الشيطان يرصدون نمو أمة الإسلام ودولتها حيثُ رأوا أنَّ الوهن دبَّ إليها، والمرض نخر جسمهاº فوثبوا عليها وكتموا البقيَّة الباقية من أنفاسها.

 

ولم يزل الكفار ومشركو أهل الكتاب يقومون بذلك منذ فجر الإسلام، حيث دولة الإسلام الفتيّة التي أرسى أركانها وأشاد بنيانها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة النبوية وما حولها.

 

وقد جاء هذا الأمر صريحاً في حديث ((الثلاثة الذين خُلِّفوا([9]))) كما قال كعب بن مالك - رضي الله عنه -: ((… بينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطيُّ([10]) من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلٌّ على كعب بن مالك؟

فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً، فقرأته فإذا فيه: ((أمّا بعدº فإنه قد بلغنا أنَّ صاحبك قد جفاك، ولم يَجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نُواسكَ)).

 

فتأمل أيها المسلم اللبيب، وتدبَّر أيها الأخ الحبيب، كيف يرصد الكفار المحيطون بدولة الإسلام أخبارها، حتى إذا سنحت فرصةٌ تواثبوا عليها من أقطارها، يوضحه:

 

الثانية: أنَّ أمم الكفر يدعو بعضها بعضاً وتجتمع للتآمر على الإسلام ودولته، وأهله، ودعاته.

 

ومن قرأ تاريخ الحملات الصليبيّة، وعرف خبايا الحرب الكونيّة الأولىº حيث جيَّش بنو الأصفر جيوشهم للقضاء على دولة الخلافة، استبانت له هذه الدلالة وضوح الشمس في رائعة النهار.

 

وحتى يتم لهم ذلك فقد أسسوا ((عُصبة)) ثمّ ((هيئة)) و ((مجلساً)) ثم ((نظاماً عالمياً جديداً))، يلهب سعارهم طمع وجشع، يوضِّحه:

 

الثالثة: أنَّ ديار المسلمين منبع خيراتٍ, وبركاتٍ,، تُحاول أمم الكفر الاستيلاء عليها، ولذلك شبهها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقصعة المملوءة بالطيِّب من الطعام التي أغرت الأكلة، فتواثبوا عليها، كلُّ يريد نصيب الأسد.

 

الرابعة: أنَّ أمم الكفر أكلت خيرات المسلمين، وسرقت ثرواتهم بلا مانع ولا منازع، وتناولتها عفواً وصفواً.

 

الخامسة: أنَّ أمم الكفر صيَّروا بلاد المسلمين جنوداً مجنَّدة، ودويلات متقاطعة، كما في حديث عبد الله بن حوالة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ستجندون أجناداًº جنداً بالشام، وجنداً بالعراق، وجنداً باليمن)).

فقلت: خر لي يا رسول الله!

قال: ((عليكم بالشام، فمن أبى فليلحق بيمنه وليستق من غُدره([11])، فإنّ الله - عز وجل - تكفل لي بالشام وأهلها)).

 

قال ربيعة: فسمعت أبا إدريس الخولاني يُحدث بهذا الحديث ويقول: ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه([12]).

 

أليس هذا واقع الأمة الإسلاميّةº دويلات ليس لها من الأمر شيء، وليس لها في توجيه شؤونها الداخلية أو الخارجيّة أمر أو نهي، وإنَّما تستمد قوتها وحمايتها وسياستها من أمم الكفر، فالله المستعان وعليه التكلان.

 

السادسة: أنَّ أمم الكفر لم تعد تهاب المسلمينº لأنهم فقدوا مهابتهم بين الأمم، والتي كانت ترجف لها أوصال أمم الكفر، وترتعد منها فرائص حزب الشيطانº لان سلاح الرٌّعب الفتَّاك لم يعد يملأ قلوب الكافرين، ويزلزل حصونهم.

قال الله - تعالى -:}سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً{.

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)) ([13]).

وهذه الخصوصيّة تتعدّى إلى الأمّة الإسلاميّة بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ثوبان الآنف: ((ولينزعنَّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم)).

 

السابعة: عناصر القوة الإسلاميّة ليس في عددها وعُددها، وخيلها وخيلائها، ورجلها ورجالها، بل في عقيدتها ومنهجها، لأنّه أمة العقيدة وحاملة لواء التوحيد.

ألم تسمع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُجيب السائل عن العدد: ((بل أنتم يومئذ كثير))؟

 

وتأمل درس حنين تجده مائلاً في كلَّ عصر:}ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً{.

 

الثامنة: أنَّ الأمّة الإسلاميّة لم يعد لها وزنٌ بين أمم الأرض كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((غُثاء كغثاء السيل)).

 

وهذه الدلالة القاطعة تُلقي بظلالها الآتية:

 

1- أنَّ الغثاء الذي يحمله السيل العرم يسير معه محمولاً مع تياره، وهكذا أمة الإسلام تَجري مع تيار أمم الكفر حتى لو نعق بهيئة ((اللمم)) غُراب، أو طنَّ في مجلس ((الفتن)) ذُباب لخروا على ذلك صمَّاً وعمياناً، وجعلوه كتاباً محكماً وتبياناً.

 

2- أنّ السيل يحمل زبداً رابياً لا ينفع الناس، وكذلك أمة الإسلام لم تعد تؤدي دورها الذي به تبوأت مقدمة الأمم، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

3- أن الزبد سيذهب جفاءً، لذلك سيبدِّل الله من تولى، ويُمكن للطائفة التي تنفع الناس في الأرض.

 

4- أن الغثاء الذي يحمله السيل خليط من قاذورات الأرض وفتات الأشياء، وكذلك أفكار كثير من المسلمين تقميش من زبالة الفلسفات وحُثالة الحضارات، وقلامة المدنيَّات.

 

5- أنَّ الغثاء الذي يحمله السيل لا يدري مصيره الذي يجري إليه باختياره، فهو كمن حفر قبره بظفره، وكذلك أمة الإسلام لا تدري ما يُخطط لها أعداؤها، ومع ذلك فهي تتبع كل ناعق، وتميل مع كل ريح.

 

الثامنة: أنَّ أمة الإسلام جعلت الدنيا أكبر همها، ومبلغ علمها، فلذلك كرهوا الموت، وأحبوا الحياة، لأنهم عمروا الدنيا، ولم يتزوَّدوا للآخرة.

 

ولقد خاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمته أن تبلغ هذه الحالة.

 

عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا فتحت عليكم فارس والروم، أيٌّ قوم أنتم؟)).

 

قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله([14]).

 

قال: ((أو غير ذلكº تتنافسون، ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون –أو نحو ذلك- ثم تنطلقون في مساكين المهاجرينº فتجعلون بعضهم على رقاب بعض)) ([15]).

 

ولذلك لما فُتحت كنوز كسرى بكى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- وقال: ((إنَّ هذا لم يفتح على قوم قط إلا جعل الله بأسهم بينهم)).

 

التاسعة: أنَّ أمم الكفر لن تستطيع استئصال أمة الإسلام ولو اجتمعوا عليها من أقطارها –وقد اجتمعوا- كما جاء صريحاً في حديث ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله زوى([16]) لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنَّ أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض([17]) وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة([18])، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم([19])، وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع علهم من بأقطارها([20]) –أو قال: من بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً)) ([21]).

 

فما الذي جعل الشجرة الباسقة التي أصلها ثابت وفروعها في السماء غُثاء أحوى؟!

 

----------

(1) جمع آكل.

(1) وعاء ضخم يؤكل فيه، ويثرد، ويشبع العشرة.

(1) ما يحف فوق السيل مما يحمله الزبد من الوسخ وفُتات الأشياء التي على وجه الأرض.

(1) يُخرج، وأصل النزع: الجذب والقلع.

(1) الإجلال.

(1) الضعف في العمل والأمر

(1) أخرجه أبو داود (4297)، وأحمد (5/278)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/182)من طريقتين عنه، وهو بهما صحيح.

(1) متفق عليه.

(1) هو الفلاح، سمي بذلك، لأنّه يستنبط الماء.

(1) جمع غدير، وهو القطعة من الماء يغادرها السيل، والمراد: أن يشرب من مائه.

(1) صحيح وله عدة طرق بينها شيخنا أبو عبد الرحمن الألباني -رحمه الله - في ((تخريج أحاديث الشام ودمشق)) (2)

(1) متفق عليه في حديث جابر –رضي الله عنه-.

(1) نحمده، ونشكره، ونسأله المزيد من فضله (نووي 18/96).

(1) أخرجه مسلم (2962).

(1) جمع وضمَّ.

(1) المراد الذهب والفضة، وهما كنزا كسرى وقيصر ملكي فارس والروم.

(1) هو القحط الذي يعمهم.

(1) يستأصل جماعتهم وأصلهم.

(1) هم أهل الأرض جميعاً.

(1) أخرجه مسلم (2889).

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply