ولد الشهيد عبد العزيز الرنتيسي (23-10-1947م 17-4-2004م) في قرية (يبنا) بين يافا وأشدود، التي طرد أهلها منها سنة 1948م، سكن وأهله أحد مخيمات اللاجئين في خان يونس، ودرس الابتدائية والإعدادية والثانوية، وأهَّله تفوقه إلى الالتحاق بكلية الطب في الإسكندرية بمصر، وتخرج فيها سنة 1970م، وعاد إلى فلسطين، وعمل طبيباً، وتزوَّج سنة 1973، وكان واحداً من مؤسسي حركة حماس سنة 1987م.
قضى في سجون الاحتلال سبع سنين متفرقة، كما أُبعد لمدة عام مع مئات من إخوانه إلى مرج الزهور بجنوب لبنان سنة 1992م، وكان من أنشط رجال حماسº لذلك حاول الكيان الصهيوني اغتياله، ولكن المحاولة لم يُكتب لها النجاح، وبعد اغتيال الشيخ أحمد ياسين في 22-3-2004م أصبح الرنتيسي قائد حماس الجديد في القطاع، والمطلوب الأول لقوات الاحتلال الصهيوني، ثم فاز بالشهادة في 17-4-2004م.
عاش الشهيد الرنتيسي يحب الأدب والشعر من صغره، وكان خطيباً مفوَّهاً، لا يخلو بيانه من الطوابع الإسلامية، فقد عاش متأثراً بالتيار الإسلامي، مخلص الودِّ والولاء له، وكان شاعراً.. نظَّم عدداً طيِّباً من القصائد التي انعكست فيها روحه وملامحه الفكرية وأبعاده العقدية والوطنية، وفي السطور الآتية نحاول أن نلقي إضاءات على هذا الجانب من شخصية الرنتيسي، وهو جانب قد يغفله الدارسون أمام كفاحه البطولي، وشخصيته القيادية الشامخة.
أشهر شاعر فلسطيني شهيد هو أبو الطيب عبد الرحيم محمود (1913- 1947م)، الذي استُشهد في معركة الشجرة ضدَّ العصابات الصهيونية، وبين عبد الرحيم محمود وعبد العزيز الرنتيسي من ملامح الشبه ما يأتي:
1- كلاهما كان قسَّامياً يؤمن بالخط الجهادي العملي لعزِّ الدين القسام، الذي كان يردد في خطبه: "إن فلسطين لن يحررها الأفندية، ولكن يحررها رجال وقفوا أنفسهم لله، يحمل كل منهم البندقية بيد وكتاب الله باليد الأخرى"، وهو المبدأ الأساسي الذي اجتمعت وأجمعت عليه حماس، وإن زاد الرنتيسي أن كان أحد قيادات الإخوان في فلسطين.
2- كلاهما شاعر وظَّف شعره في خدمة القضية الفلسطينية.. داعياً للجهاد، محمِّساً القلوب، مُلهباً المشاعر، مُزرياً بالخنوع والاستسلام، فاضحاً حقيقة أعداء الدين والعروبة وفلسطين.
3 - كلاهما فاز ب"الشهادة" التي حرص عليها طيلة حياته، ومن الطبيعي أن يكون بين الشاعرين الشهيدين ملامح فارقة، أهمها:
1 - كان الرنتيسي أوسع عِلماً وثقافةً والتصاقاً بالتيار الإسلامي فكراً ووجداناً من عبد الرحيم، الذي عاش شطراً من شبابه يطارده الإنجليز، فتسلَّل إلى العراق وقضى فيه بضع سنين.
2 - كان عبد الرحيم "مقاتلاً بنفسه"، يواجه الأعداء في ميادين مفتوحة، حتى أصيب بشظية في معركة الشجرة ففاضت روحه على إثرها، أما الرنتيسي فكان شخصيةً قياديةً سياسيةً، وقد آلَ إليه أمر قيادة حماس بعد استشهاد أحمد ياسين - رحمه الله -.
3- ومن ناحية الكم كان عبد الرحيم مكثراً فيما ينظم، كما كان أكثر تنويعاً من الناحية الموضوعية.. هذا طبعاً عدا الفوارق الفنية والأسلوبية بين الشاعرين.
وبعد هذا المدخل نقترب من الرنتيسي في "عالمه الشعري"، وباستقراء هذا الشعر نرى أنه يدور حول عدد من المحاور، أهمها:
1- الدعوة إلى حب الوطن، وإخلاص الولاء له، والجهاد في سبيله جهاداً عملياً متواصلاًº حتى يتحقق النصر، وعدم الاستسلام للتخاذل والحزن، ورفض الدعوات للسلام ومعايشة الأعداء.
2- الحملة الضارية على القيادات المتخاذلة اليائسة اللاهية التي تمالئ الأعداء، وتستجيب للقوى الكبرى التي تساندهم.
3- الإيمان القوي الصادق بالقيم الإنسانية العليا، والحرص على أن تكون هي منار حياتنا في طريقنا لتحقيق النصر.
4- الحرص على تحرير فلسطين يجب ألا يشغلنا عن المساهمة بقدر ما نستطيع عن مناصرة الشعوب الإسلامية التي تواجه مِحَناً عاتيةً، وهي تواجه أعداء الإسلام والحق والعدل، وأظهرُ هذه الشعوب الشعب الأفغاني.
مفهوم الوطنية
والوطنية في نظر الرنتيسي تعني الفداء بمفهومه الواسع والشامل، الذي يتسق مع القيمة المُثلى للشهادة، وهي أسمى أمنية في الحياة.. يقول الرنتيسي:
قم للوطن وانثر دماك له ثمن
واخلع فديتك كل أسباب الوهن
فإذا قُتلت فلست أنت بميت
فانعم بعيش لا يبيد مع الزمن
أفمن يذوق القتل في ساح الوغى
يجلو كما الترياق أوصاب البدن
أمن يعيش العمر ميتاً يشتهي
طعم البلى فيرد: كلا، لا ولن؟!
الكبار الصغار
ويحمل الرنتيسي حملةً شعواءَ على القيادات المتخاذلة التي فرطت واستسلمت للصلف الصهيوني، في قصيدة تُعد أشد قصائده وأشحنها بوجدانه الملتهب الصارخ، فيستهلها بقوله:
أحيوا ضمائركم أما بقيت ضمائر؟! *** فتجارة الأوطان من كبرى الكبائر
عودوا إلى أطفال غزة تسمعوا *** عن مولد الإصباح من رحم الدياجر
عودوا إلى القسام يسلخ من *** ظلام الليل بالأكفاء مجداً للأواخر
ويدعو الشاعر هؤلاء إلى العودة بالنظر والبصيرة إلى شخصيات شامخة للتمثيل والاقتداء، ويذكرهم بميراث الأجداد من قرى ونجوع ومدن استولى عليها الأعداء، وقتلوا أبناءها أو طردوهم وشردوهم.. يقول الرنتيسي:
عودوا إلى المشلول ياسين العلا *** بحماسه دارت على البغي الدوائر
عودوا إلى الخنساء تكظم غيظها *** لتثور بركاناً يزلزل كل خائر
عودوا إلى الرشاش تخضله اللحى *** بخنادق ومواقع في صور باهر
عودوا إلى آثارنا.. آبارنا *** أشجارنا الخضراء تنتظر الحرائر
عودوا إلى مرج الزهور لتعلموا *** أن المبادئ لا تذل إلى مكابر
ويختم الشاعر قصيدته المتوهجة باستشراف النصر والتعلق بالأمل، فالمؤمن لا يعرف اليأس والقنوط:
لكنني والحق يشهد أنني *** آبَى القنوط فذاك من شيم الكوافر
فغداً تعود لنا الديار تبثنا *** أشواقها ونقيل في ظل البيادر
وهذه العودة التي دعا إليها شاعرنا الشهيد ليست من قبيل التراجع أو التجمد على موقف يضاد النهوض والتقدم، ويحرص على القديم لذاتهº وإنما هي عودة للتعلم والاعتبار وشحن القلب والنفس بطاقات الإيمان والثبات والشجاعة في التصدي للأعداء لجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
فهي دعوة للعودة النفسية والروحية والعقلية لنحقق الهدف الذي ذكرناه آنفاًº عودة إلى أطفال غزة، وإلى رائد الجهاد والفداء عز الدين القسام، وإلى شيخ المجاهدين أحمد ياسين، وإلى الخنساء التي شرفت وسعدت باستشهاد أبنائها الأربعة، وإلى منطق القوة الذي رمز إليه الشاعر بآلية من أهم آلياتها وهي المدفع الرشاش، وحتى يثير النخوة والحماسة في قلوب أبناء الوطن يذكِّرهم بقطع من الأرض الحبيبة السليبة ذكرها على سبيل التمثيل لا الحصر، وهي "يبنا" القرية التي ولد فيها، و"يافا" و"بيسان" و"المجدل".
الإسلام.. الدين الجامع
ولأن شاعرنا الشهيد يؤمن إيماناً وثيقاً أن الإسلام دين ووطن، وقومية وجنسية نراه يؤمن بوحدة المعركة على اختلاف ميادينها، ووحدة العدو على اختلاف جنسياته، ووحدة الوسيلة ووحدة الهدف، فالمعركة واحدة ممتدة، وهي ضد العرب والمسلمين في كل مكان، والأعداء هم الصليبيون والصهيونيون والملاحدة، والوسيلة التي يجب أن نتصدى بها هي الجهاد بمفهومه الشامل.. بالنفس والمال، وكل وسيلة مستحدَثة تقوِّي جهادَنا في مواجهة أعدائنا.. أما الهدف الذي نجمع ونجتمع عليه فهو تحقيق الحرية، والانتصار لدين اللهº حتى تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
وكل أولئك دفع الشاعر إلى أن يمتد ببصره وروحه إلى أفغانستان التي صمدت بقوة وإيمان وعزيمة في وجه الروس وأذنابهم، ولم تشغله جراح فلسطين عن جراح أفغانستان البلد المسلم.. يقول شاعرنا الشهيد:
رغم الجراح الداميات بغزة *** رغم العذاب من اليهود صلاني
بالرغم من بيتي المدمر إنني *** أهدي التحية شعبنا الأفغاني
وعن وحدة النضال يقول الشاعر:
وحماس يا إخواننا رفعت هنا *** نفس اللواء على ربا الأوطان
روح الشهيد بأرضكم وشهيدنا *** عند المسا في العرس يلتقيان
لله باعوا مالهم ودماءهم *** ليُمتَّعوا بالروح والريحان
ويتحدث عن بطولة عبد الله عزام في أفغانستان، وهو فلسطيني، وواحد من مؤسسي حماس، ويسخر من الروس الذين كسرهم المجاهدون وهزموهم هزيمةً نكراء، انتهت بخروجهم من أفغانستان:
هذي جيوش الروس جرت عارها *** خسئت جيوش الكفر والطغيان
يا جند جورباتشوف أين مطارق *** ومناجل آلت إلى النسيان!
ولت كما وليتمو هرباً فلا *** نصرت ولا سلمت من الخذلان
حرباً على الله العزيز أقمتمو *** فأصابكم بالخزي والخسران
وحماسنا إخواننا قد أعلنت *** تأييدها للشعب والربان
ويختتم قصيدته بالأمل في نصر الله لبناء دولة الإسلام:
وإلى اللقا في القدس يا إخواننا *** لعمارة البنيان والأركان.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد