لم يكن أشد المتفائلين في إسرائيل يتوقع كل هذا السخاء من الرئيس الأمريكي "جورج بوش" خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي" أريل شارون" في البيت الأبيض يوم الأربعاء، وليس أدل على ذلك من الأقوال التي أدلى بها المعلق السياسي للقناة الثانية للتليفزيون الإسرائيلي الذي قال: "بوش هو أعظم الرؤساء الأمريكيين بالنسبة لكل يهودي"، ونفس الوصف تبناه العديد من الكتاب الإسرائيليين ومنهم "اليائيل شحر" الذي كتب في صحيفة معاريف العبرية: إن الرئيس الأمريكي ركع أمام تهديدات شارون وضغوط اللوبي اليهودي.
من التصريح الأخير يمكننا فهم هذا التحول المفاجئ مما تناقلته وسائل الإعلام الأمريكية والإسرائيلية قبل لقاء بوش بشارون من وجود خلافات عديدة في الآراء خاصة فيما يتعلق بخطة "فك الارتباط" الخاصة بالانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، حيث قالت تقارير عبرية نشرتها صحيفتي معاريف ويديعوت أحرونوت الإسرائيليتين: أن رئيس الوزراء الإسرائيلي "اريل شارون" بعث برسالة إلى الرئيس الأمريكي بوش مفادها أنه سيلغي زيارته المقررة لواشنطن ما لم يتحصل على مسودة للبيان النهائي للرئيس الأمريكي قبل صعوده للطائرة في طريقه إلى واشنطن، وهو ما حدث بالفعل وفقاً لتأكيدات معاريف – 15-4-2004م-.
فما حقيقة خضوع الرئيس الأمريكي لمطالب شارون؟
هناك حقيقة لا خلاف حولها وهي أن الرئيس بوش يعاني الآن أزمة حقيقية على مستوى شعبيته باتت نتائجها واضحة للعيان في استطلاعات الرأي العام الأمريكية التي أكدت في آخر استطلاع لها الثلاثاء 13-4-2004م أنه لو أُجريت الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الفترة الحالية، فإن المرشح الديمقراطي "جون كيري" سيحظى بأصوات تفوق الـ 53%، مما يعني فوزه بالانتخابات، وأرجع المعلقون الأمريكيون هذه النتائج إلى "المستنقع العراقي" الذي ألقى فيه بوش الجيش الأمريكي، وباتت الضغوط تحيط به على مستوى الشارع الأمريكي وضغوط الشعوب التي تؤيد حكوماتها الوجود الاحتلالي في العراق مثل أسبانيا واليابان وبريطانيا والسلفادرو وبولندا وإيطاليا ودول أخرى.
وحول هذه المسألة يقول المعلق السياسي الإسرائيلي الشهير "ألوف بن" في صحيفة هاأرتس الإسرائيلية تحت عنوان "قمة الضعفاء" 14-4-2004م:"إن الرئيس الأمريكي يحاول التعتيم على فشله في إدارة الحرب على العراق خاصة بعد المقاومة العنيفة التي أبدتها مدينة الفلوجة في الأيام الأخيرة، والتي أزهقت فيها عشرات القتلى من الجيش الأمريكي، ويضيف بن: "وتحقيق أي إنجاز في قضية الشرق الأوسط هي الأمل الوحيد المتبقي لبوش في الوقت الراهن لمواصلة التنافس على الرئاسة الأمريكية في ظل ارتفاع شعبية كيري"، ومع هذا الكاتب - المقرب من شارون - نكتشف أيضاً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه يسعى إلى إنجاز هو الآخر للتعتيم على فساده الشخصي، وقضايا الرشوة التي ينتظر الإسرائيليون حكم المستشار القضائي للحكومة فيها بعد أيام بتحويل شارون للمحاكمة أم لا.
صكوك العربدة:
منح بوش شارون فيما تعارف عليه باسم "خطابات الضمانات" صكوكاً يمكن أن تكون مدخلاً لمزيد من الممارسات الوحشية وبسط الهيمنة الإسرائيلية على مجريات الأمور في منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة في السنوات القادمة، دليل ذلك ما قالته صحيفة هاارتس في تحليلها لنتائج قمة بوش - شارون من أن خطابات الضمانات الأمريكية وجهت رسالتين في آن واحد:
الأولى: للشعب الإسرائيلي ومفادها أن الرئيس بوش يقف مع الإسرائيليين ويؤيد خطة فك الارتباط.
الثانية: للدول العربية ومفادها أن إسرائيل هي القوة الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط.
أما أهم هذه الصكوك فكانت في بيان الرئيس بوش من عدم حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم وأرضهم، حيث اعتبر بوش هذا الآمر"عودة اللاجئين" بأنه غير واقعي!
وأكد بوش - ثلاثاً - أنه والولايات المتحدة ملتزمون بتحقيق أمن إسرائيل كدولة يهودية، والحفاظ على قدرتها الدفاعية بما في ذلك حقها في الدفاع عن نفسها ضد ما أسماه بالإرهاب، مشيراً إلى أن الجدار الفاصل الذي بنته إسرائيل هو جزء من جهودها الأمنية، ويجب أن يظل أمنياً وليس سياسياً، وحول هذه المسألة قال المعلق الإسرائيلي "ايلي سمحان": "حاول بوش حفظ ماء الوجه أمام التنازلات بمحاولة انتزاع اعتراف من شارون بأن الجدار أمني إلا أن شارون لم يمنحه ذلك الاعتراف خلال المؤتمر الصحفي"، ومنح بوش إسرائيل ما لم تكن تتوقعه حسب صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، بتصريحه: "من غير الواقعي أن نتوقع أن تكون مفاوضات الوضع النهائي هي العودة الكاملة والتامة لخطوط هدنة عام 1949م".
وشدد للمرة الأولى منذ بداية الصراع العربي - الإسرائيلي على رفضه اعتبار المستوطنات اليهودية عملاً غير مشروع، ليكون بذلك أول رئيس أمريكي يدلي بهذه التصريحات المنحازة كلية لإسرائيل، إلى درجة كتبت فيها صحيفة معاريف في افتتاحيتها 15-4-2004م تقول: "ما سمعناه في البيت الأبيض أمس لم نسمعه على مدار 56 سنة كاملة، فشكراً بوش.
بالطبع لم يخلو خطاب بوش أو ضمانات بوش بمعنى أدق من ضرورة قيام الفلسطينيين بمنح المقابل للإسرائيليين نظير الانسحاب من غزة (وهو انسحاب لا يخدم مصلحة الفلسطينيين في المقام الأول، بل يخدم أهدافاً إسرائيلية ستتضح في السنوات القادمة وربما في الأشهر القادمة)، ومن أهم ما يطالب به بوش الفلسطينيون وقف ما يسميه بالإرهاب المتمثل في المقاومة الفلسطينية.
ولحفظ ماء الوجه أمام العرب قال بوش: إن الولايات المتحدة تساند إقامة دولة فلسطينية مجاورة مستقلة ذات سيادة قابلة للحياة.
ولعل المتابع لوقائع المؤتمر الصحفي بين شارون وبوش في البيت الأبيض قد انتبه إلى مقولة بوش لأحد الصحفيين تعليقاً على سياسات رئيس الحكومة الإسرائيلي: "إن شارون رجل شجاع، وأنا أؤيد سياسة هذا الرجل، وهذا لا يعني أني أقوم بالضغط على الشعب الإسرائيلي لانتخابه"، وهنا ضحك بوش في إشارة وصفها مراقبون بأنها بالفعل "ضغطاً مقنعاً" و"تأييداً مبكراً" من الرئيس الأمريكي لشارون في الانتخابات القادمة، كما أوضح مراقبون أن بوش ينتظر بهذه الإشارة الدعم اليهودي خاصة من أنصار شارون اليمنيين الذين يسيطرون على غالبية الأصوات الأمريكية اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية.
خلاصة القول: إن قمة بوش - شارون وهي القمة العاشرة منذ تولي كلا الشخصين مقاليد الحكم في الدولتين، كانت قمة تاريخية بحق للإسرائيليين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد