في تاريخ كل أمة رجال تحتفي بهم، وتخلد ذكراهم على مدى الأجيال، وفي المكانة العالية من العظماء يأتي رسل الله - تعالى -وأنبياؤه الكرام فهم الذين اجتباهم ربهم ليكونوا سفراء بينه وبين خلقه يدعون الناس إلى الحق ويهدونهم إلى الصراط المستقيم، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الذي بلغ في كل مناحي العظمة ذروة الذرى وقمة القمم التي لا يطمح أن يقاربها أحد سواه:
كيف ترقى رقيك الأنبياء * يا سماء ما طاولتها سماء
وإن المرء ليتحرج كثيراً من استعمال أفعل التفضيل عند الحديث عن شخصٍ, ما كالقول بأن فلاناً أعلم الناس في عصره أو أشجع قومه أو أحكم أهل ملته، لكن الشأن مع محمد - صلى الله عليه وسلم - يختلف اختلافاً كلياً، فالإنسان لا يجد أدنى حرج في أن يصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه أفضل خلق الله في كل شيء، فهو - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس وأحكم الناس وأشجع الناس وأعدل الناس...إلخ
وليس هذا القول منا مجرد تعصب لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، فنحن وإن كنا لا ننكر أن هذا الذي قلناه إنما هو جزء من عقيدتنا وإيماننا، إلا أنه حتى لو غضضنا الطرف عن هذه الناحية العقدية، فإن أي باحث متجرد يدرس سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمانة وإنصاف فإنه لا بد أن يصل إلى هذه النتيجة التي وصلنا إليها، ويكفي الباحث المدقق أن يدرس ما تركه صلى الله من الآثار العظيمة في البشرية جمعاء ليصل إلى ما وصلنا إليه، فعظمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في التاريخ مكانها ما يقول العقاد: ((أن التاريخ كله بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - متصل به، مرهون بعمله، وأن حادثاً واحداً من أحداثه الباقية لم يكن ليقع في الدنيا كما وقع لولا ظهور محمد - صلى الله عليه وسلم - وظهور عمله، فلا فتوح الشرق والغرب ولا حركات أوربا في العصور الوسطى، ولا الحروب الصليبية، ولا نهضة العلوم بعد تلك الحروب، ولا كشف القارة الأمريكية، ولا مساجلة الصراع بين الأوربيين والآسيويين والإفريقيين، ولا الثورة الفرنسية وما تلاها من ثورات، ولا الحرب العظمى التي شهدناها قبل بضع وعشرين سنة (يقصد الحرب العالمية الأولى)، ولا الحرب الحاضرة التي نشهدها هذه الأيام (يقصد الحرب العالمية الثانية)، ولا حادثة قومية أو عالمية مما يتخلل ذلك جميعه كانت واقعة في الدنيا كما وقعت لولا ذلك اليتيم الذي ولد في شبه الجزيرة العربية بعد خمسمائة وإحدى وسبعين سنة من مولد المسيح))(1).
ومن أجل ذلك لم يكن مستغرباً بالنسبة لنا أن نجد بين الحين والآخر مِن بين الكتاب الغربيين مَن ينصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيعترف له بهذا الأثر العظيم الذي تركه في التاريخ الإنساني كله، فها هو الكاتب الأمريكي مايكل هارت يستعرض تاريخ البشرية في القديم والحديث، ويختار من بين عظماء العالم مئة شخصية هم في نظره أكثر الناس أثراً على مدى التاريخ الإنساني كله، ثم يختار على رأس أولئك المئة محمداً - صلى الله عليه وسلم -، ويقول في ذلك: ((لقد اخترت محمداً (- صلى الله عليه وسلم -) في أول هذه القائمة، ولابد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار ومعهم حق في ذلك، ولكن محمداً - عليه السلام - هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحاً مطلقاً على المستوى الديني والدنيوي، وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائداً سياسياً وعسكرياً ودينياً، وبعد ثلاثة عشر قرناً من وفاته فإن أثر محمد (- عليه السلام -) لا يزال قوياً متجدداً))(2).
ثم يقول: ((وإذا استعرضنا التاريخ فإننا نجد أحداثاً كثيرة من الممكن أن تقع دون أبطالها المعروفينºمثلاً كان من الممكن أن تستقل مستعمرات أمريكا الجنوبية عن أسبانيا دون أن يتزعم حركاتها الاستقلالية رجل مثل سيمون بوليفار، هذا ممكن جداً، على أن يجيء بعد ذلك أي إنسان ويقوم بنفس العمل، ولكن من المستحيل أن يقال ذلك عن البدو، وعن العرب عموماً، وعن إمبراطوريتهم الواسعة دون أن يكون هناك محمد (- صلى الله عليه وسلم -) فلم يعرف العالم كله رجلاً بهذه العظمة قبل ذلك، وما كان من الممكن أن تتحقق كل هذه الانتصارات الباهرة بغير زعامته، وهدايته، وإيمان الجميع به))(3).
ولا شك أن ما ذكره ذلك الكاتب حول عظمة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وتأثيره صحيح مئة بالمئة، ولكنا لا بد أن ننبه إلى أن عقيدتنا نحن المسلمين، في رسولنا وفي غيره من أنبياء الله الكرام، أن عظمتهم مرتبطة بقضية النبوة والرسالة، وأن أعظم جوانب العظمة في حياتهم أنهم جاؤوا للناس بالشرائع الإلهية التي هم أحوج إليها من حاجتهم إلى الطعام والشراب، بل لا فلاح لهم في الدنيا والآخرة إلا بها.
ولذا فإنه من المحال في عقيدة المسلمين أن يكون في البشر من هو أعظم أثراً من الأنبياء والمرسلين، وإن بدا الأمر غير ذلك لأصحاب النظرة المادية التي تقوم على أساسها الحضارة الغربية المعاصرة.
وقد قال رسولنا - صلى الله عليه وسلم -: (عُرضت عليَّ الأمم، فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد)(4).
وهذا النبي الذي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد هو بمقياس مايكل هارت شخص لا تأثير له في التاريخ الإنسانيºلذا لا يستحق أن يوضع عنده في قائمة الخالدين، بينما هو عندنا معاشر المسلمين مقدَّم على أعظم من عرفتهم البشرية من العلماء والساسة والمفكرين وغيرهم.
ومن أجل ذلك لا يقر مسلم بحال ما فعله مايكل هارت من تقديمه العالم الرياضي إسحق نيوتن في الأهمية على المسيح - عليه السلام -، ولا تأخيره موسى - عليه السلام - إلى المرتبة السادسة عشرة في قائمة العظماء، بعد أينشتين وماركس ولينين وغيرهم.
أما هذا الكاتب الأمريكي ابن الحضارة الغربية المعاصرة فلكونه يركز فقط على الأثر المادي الملموس في حياة الناس، فإنه لا يجد غضاضة في أن يفعل ذلك، وهو يبرر تأخيره للمسيح - عليه السلام - إلى المرتبة الثالثة -بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - وإسحاق نيوتن - بأن المسيح - عليه السلام - لم ينفرد بتأسيس الديانة المسيحية، وإنما شاركه في ذلك القديس بولس الذي جاء بعده، وهو الذي وضع مبادئ اللاهوت بما فيها عبادة المسيح - عليه السلام -، وعلى يديه تحولت المسيحية كما يقول ما يكل هارت من فئة يهودية صغيرة إلى ديانة كبيرة(5).
ونحن نوافق بكل تأكيد على أن النصرانية التي عرفتها أوربا ومن بعدها أمريكا ليست هي الديانة التي جاء بها المسيح - عليه السلام -، وأن اليهودي شاؤول الذي تنصر وسمي بولس الرسول هو المسؤول عن أهم ما يدين به النصارى اليوم، وأن يد التحريف لم تتوقف عن إفساد ديانة المسيح منذ عهد بولس هذا وحتى اليوم، لكننا نرى أن هذا الأثر الذي تركه بولس لما كان مخالفاً لدين الأنبياء فإنه لا قيمة له ولا عبرة به.
وإذن فنقطة خلافٍ, جوهريةٍ, أخرى مع ذلك الكاتب تكمن في أن مقياس العظمة عنده هو ما تركه الشخص من أثر في تاريخ البشرية دون نظر لطبيعة ذلك الأثر، من حيث كونه أثراً حسناً أو قبيحاً، وهو يعترف بذلك في مواضع من كتابه، فإنه يقول عن هتلر مثلاً: ((يجب أن أعترف أني مع القرف الشديد قد وضعت اسم أدولف هتلر ضمن هذه القائمة... وليس عندي أدنى رغبة في أن أكرم رجلاً ترجع أهميته إلى أنه تسبب في قتل خمسة وثلاثين مليوناً من البشر، ولكن لا بد من أن أقول إن هتلر كان له أثر عظيم على عدد كير من الناس))(6).
ويقول عن المكتشف الإيطالي كريستوفر كولمبوس: ((ولو كنا نرتب هؤلاء العظماء حسب سلوكهم الأخلاقي لجاء مكانه قرب النهاية، ولكنا نتحدث عن أبعد الناس أثراً في التاريخ الإنساني، ولذلك فمكانه ولا شك عند القمة))(7).
هذا منهجه وتلك نظرته، أما نحن المسلمين فإن أعظم الناس عندنا هم الذين جاؤوا للناس بالهدى ودين الحق، وهم فيما بينهم يتفاوتون بحسب ما اقتضته حكمة العليم الخبير، كما قال - تعالى -: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات). [البقرة: 253].
ونبينا - صلى الله عليه وسلم - هو بين إخوانه من النبيين واسطة عقدهم، وهو اللبنة التي اكتمل بها صرحهم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا، وأنا خاتم النبيين)(8)
ودون انتقاص من قدر أيٍ, من هؤلاء المرسلين فإنه لا بد من التسليم بأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو أعظمهم قدراً وأعلاهم شأناً، وقد شاركهم فيما اختصوا به من الفضلºفهو قد شارك إبراهيم - عليه السلام - في مقام الخلة، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت ابن أبي قحافة خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله)(9).
كما شارك - صلى الله عليه وسلم - أخاه موسى في مقام الكلام، كما هو معلوم من حديث الإسراء والمعراج، وهكذا الحال في غير إبراهيم وموسى - عليهما السلام -.
ومع مشاركته - صلى الله عليه وسلم - لهم في ما اختصوا به، فقد اختص - صلى الله عليه وسلم - بما لم يختص به غيرهºكما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة)(10).
وغير ذلك مما هو جزء من عقيدتنا وإيماننا، وما هو مبثوث في مواضعه من كتب الحديث وأصول الدين، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد