سخافة التعلل بحرية التعبير


 

بسم الله الرحمن الرحيم

رد الفعل الإسلامي العنيف ضد الرسومات الدانماركية المسيئة لنبيهم أثارت عدة قضايا بيننا وبين الثقافة الغربية العلمانية الليبرالية، من هذه القضايا:

 

أولاً: قضية الحرية:

لم يجد الغربيون الموافقون على نشر تلك الرسومات المسيئة ما يتعللون به إلا حرية التعبير. فهم يقولون لنا بلسان الحال بل والمقال أحياناً: إننا قوم متحضرون، حرية التعبير عندنا أمر أساس، وهذا شيء لا تفهمونه أنتم ولا تقدرونه.

نقول: لو أن حرية التعبير كانت عندكم حرية مطلقة، تبيحون لكل إنسان أن يقول ما شاء كيف شاءº فلربما فهمنا تعللكم بها، وإن لم نوافقكم على الفعل الذي عللتموه بها. أما وأنكم تقيدون هذه الحرية، فتجعلون بعض التعبير جريمة يعاقب عليها القانون، كتجريمكم لمن يفشي سراً للدولة اؤتمن عليه، أو من يُقسِم كاذباً أمام قاضٍ,، أو من يصيح في مكان مزدحم بالناس: الحريقَ الحريقَ، فيضطرب أمر الناس فيموت بعض ويصاب آخرون، نقول: أما وأنكم تستثنون أشياء من التعبير فلا تبيحونها بل تجرِّمون من يُقدِم عليها، فإن حجتكم لا تكون مقبولةº لأن الخلاف بيننا وبينكم لم يكن في مبدأ حرية التعبير. إننا لم نحتج ونتظاهر ونقاطع احتجاجاً على مبدأ حرية التعبير، وإنما فعلنا ما فعلناº لأنكم أبحتم شيئاً كان أولى بالمنع من تلك الأشياء التي منعتموها.

إن تحويل القضية إلى قضية عن حرية التعبير هو إذن وضـعٌ لها في غيـر موضـعها. إنه لا يـوجـد مجـتمع بشري، ولا يمكن أن يوجد، تكون فيه حرية التعبير مطلقة، مهما بلغ من الليبرالية والدمقراطيةº لأنه يتحول بهذا ـ لا محالة ـ إلى فوضى لا يـكون معها مجتـمعاً. ولا يـوجـد مجـتمع بشري، ولا يمكن أن يوجد، يكون فيه التعبير ممنوعاً منعاً مطلقاً، مهما بلغ من الدكتاتورية والاستبداد.

الخلاف بين المجتمعات ليس إذن في مبدأ حرية التعبير وإنما هو في مداها، وفي نوع ما يباح من التعبير وما يُمنع. والتفاضل بينها ليس في القدر أو المدى، وإلا كان أفضل المجتمعات مجتمع لا قانون فيهº لأن كل قانون هو بالضرورة قيد على الحرية. وإنما تتفاضل المجتمعات في نوع ما تبيحه وما تمنعه. ففي المجتعات الغربية الدمقراطية الليبرالية قدر من الحرية السياسية لا يوجد في غيرها، وهذا قد يكون شيئاً حسناً، لكن فيها أيضاً من حرية البذاءة وسوء الخلق ما ليس في غيـرها. وهـذا أمـر سيـئ حتى بشهادة كثير من الغربيين ولا سيما المتدينين منهم.

إننا لم نقل ولا نستطيع أن نقول للناس كلهم: لا تنتقدوا ديننا، وإنما قلنا: لا تسبوا نبيناº وفرق كبير بين النقد والسب. إننا مأمورون بأن نجادل من لا يؤمن بديننا، والمجادلة إنما تكون بالاستماع إليه والرد على اعتراضاته وشبهاته. لكن الآية الكريمة التي أمرت بالمجادلة فرقت بين مجادل ظالم ومجادل غير ظالم، قال الله - تعالى - : {وَلا تُجَادِلُوا أَهلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ} [العنكبوت: 46]، ثم استثنى من ذلك من كان ظالماً، فقال - سبحانه - : {إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهُم} [العنكبوت: 46].

 

ثانياً: ما الحل؟

رأيُ بعضهم ـ حتى من غير المسلمين ـ أن يُسَنَّ قانون عالمي يجعل للأديان قدسية. نقول: إذا كان المقصود بالقدسية أن يُمنع نقد الدين أياً كانº فهذا أمر يستحيل تطبيقهº لأنه لا يكاد يوجد ديـن إلا وهو ينتقد غيره من الأديان. وهذا كتاب ربنا مليء بنـقد النصرانية واليهودية المعاصرتين، ومليء بنقد الشرك والإلحـاد والماديةº فهل تحذف أمثال هذه الآيات الناقدة، أم ما ذا؟

 

الذي أراه هو أمرٌ دعا إليه القرآن يمكن تعميمه وجعله قانوناً عالمياً. قال - تعالى - :

{وَلا تَسُبٌّوا الَّذِينَ يَدعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبٌّوا اللَّهَ عَدوًا بِغَيرِ عِلمٍ, كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ, عَمَلَهُم} [الأنعام: 108].

فالآية تأمرنا بأن لا نسب ما يعبدون من دون الله، وتعلل هذا بعلتين: أولاهما: أنهم سيسبون الله - تعالى - فنكون نحن الذين تسببنا في سبهم له - سبحانه -. وثانيهما: أن الله  - تعالى -  زين لكل أمة عملها فجعلها تراه حسناً. إن كثيراً من الذين يدعون إلى التسامح في البلاد الغربية يعللون دعوتهم إليه باللجوء إلى القول بنسبية الحقيقة. فيقولون إنه يجب على كل من يرى رأياً أو يعتقد اعتقاداً أن يكون متسامحاً مع مخالفهº لأن ما تعتقد أنت أنه هو الحقيقة، إنما هو الحقيقة كما تراها أنت، وما يعتقده هو إنما هو الحقيقة كما يراها هو، وليس هـنالك حقيـقة مطـلقة غير مضـافـة إلـى مـن يـراها. لـكن الآيـة القرآنية تقول إنهم فعلاً يرون أن ما يؤمنون به شيء حسـنº لذلك يـجب أن نعـامـلهم بالتـي هـي أحــسن، لـكنـها لا تقول إن ما يرونه حسناً هو حسن في نفس الأمرº لذلك يجب أن نجادلهم بالتي هي أحسن كي نبين لهم الحق ونعينهم على أن يـروه ـ كما هو ـ حقاً، وأن يروا الباطل ـ كما هو في الحقيقة ـ باطلاً.

 

ثالثاً: المقاطعة:

المقاطعة سلاح يُلجَأ إليه متى كان ذا تأثير في إلحاق الأذى بمن يقاطَع. أما إذا لم يكن له تأثير، أو كان ضرره على من يقاطِع أكثر من ضرره على مرتكب الجرمº فليس من العقل اللجوء إليه. وبمثل ما قلنا في المقاطعة قال علماؤنا في هجر الأشخاص. فإذا كان مرتكب المخالفة في مجتمع غالبيته من الصالحين، فإن الهجر يؤذيه فيكون سلاحاً مؤثراً. أما إذا كانت الأغلبية من مرتكبي تلك المخالفةº فإن هجر الرجل الصالح لهم يكون مضراً به لا بهم، ولذلك لا يُلجَأ إليه.

ثم إن الإنصاف يدعونا أن نفرق في هذه القضية بين معاملتنا للدنمارك ولغيرها من الدول التي أعادت بعض صحفها نشر الرسومات. فالدنمارك هي التي بدأت الأمر وتولت كبره. والأمر في الدنمارك لم يكن أمر صحيفة فقط، بل إن معاملة رئيس الوزراء لوفد سفراء الدول الإسلامية، وموقف الملكة، حوَّلا الأمر إلى موقف شبه رسمي من الإسلام تقف وراءه الدولة، لذلك كانت مقاطعتها رد فعل مناسب، وكان بحمد الله مؤثراً تأثيراً موجعاً.

أما أمر الدول الغربية الأخرى فمختلف. فالصحيفة الفرنسية التي كانت أول من أعاد نشر الصور عوقب محررها بالفصل، وتبرأ من عملها رئيس الدولة. وأما الدول الأخرى التي أعاد بعض صحفها نشر الصورº فإن حكوماتها إن لم تعتذر فهي لم تظهر موافقة لصحفها. ونحن لا نستطيع أن نقاطع كل دولة أساءت بعض صحفها إلينا، لكننا نستطيع أن نحتج على فعلها بالطرق المناسبة.

 

رابعاً: بل هو خير:

ثم إننا نقول في هذه الحادثة كما قلنا في ما حدث بعد حوادث سبتمبر: لا تحسبوه شراً لكم، بل هو خير. فما أكثر الخير الذي ساقه الله - تعالى - إلى دينه وإلى عباده بسبب هذا الفعل الظالم.

فقد اظهر المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها من حبهم العظيم لنبيهم وإجلالهم له، ومن سخطهم وإنكارهم على من سب نبيهم ما أذهل العالمº وهذا خير لهم يرجون به حُسن الثواب من ربهم، بل هو عمل صالح نرجو أن يكون خيراً للعالمين كلهم.

وقد كان سبباً في تذكير المسلمين بسيرة نبيهم العطرة وخُلُقِهِ العظيمº فما من خطبة جمعة أعقبت إطلاع المسلمين على نبأ تلك الصور إلا كانت عن حبيبهم المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.

وكانت أيضاً سبباً في تعريف المسلمين للناس في الدول الغربية بسيرة نبيهم المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.

 

وكانت سبباً في إثارة فضول الكثيرين من غير المسلمين ليعرفوا شيئاً عن هذا الرجل الذي رأوا من حب الناس له وتضحيتهم في سبيل ما لا بد أن يكون قد أثار فضول الكثيرين منهم لمعرفة شيء من سيرته.

كل هذا من بركات المصطفى - صلى الله عليه وسلم - التي تستمر متتالية حتى بعد مماته ولحوقه بالرفيق الأعلى.

فاللهم صلِّ عليه وعلى آله وأزواجه وذريته وسلِّم تسليماً كثيراً.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply