قل موتوا بغيظكم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

سمع العالم كله بالإساءة لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، والتي تولى كبرها الرسام الدنماركي، وهذا أمر ليس بغريب، فكم أسيء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وكم أوذي!

وليس ببدع من الرسل في ذلك، فقد كذبت الرسل وأُوذيت، واستهزئ بهم وسُخِر منهم، وهم أعلى الخلق قدرًا، وأرفعهم منزلة، فصبروا على ما كُذِّبُوا وأُوذوا، ثم كانت العاقبة لهم بأن نصرهم اللَّه وأهلك أعداءهم، كما قال - تعالى -: ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون، وقال - تعالى -: ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب؟ كان والله عقابًا شديدًا، كما قال - تعالى -: إن بطش ربك لشديد، وقال - تعالى -: إن أخذه أليم شديد.

وقد بيّن ربنا - سبحانه - كيف أخذهم فقال: فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا، فلئن أوذيت يا رسول اللَّه في اللَّه، وكذبك قومك، وسخروا منك، فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، فهذه سنة اللَّه في الأولين والآخرين، وسيأتيك النصر المبين كما أتى إخوانك المرسلين، ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين، كما قال - تعالى -: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنهم لهم المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون، وقال - تعالى -: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز، وقال - تعالى -: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وقد يكون النصر في الدنيا بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم، كما فعل بقتلة يحيى وزكريا - عليهما السلام -، سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم، وقد ذكر أن النمرود أخذه اللَّه أخذ عزيز مقتدر، وأما الذين راموا صلب المسيح - عليه السلام - من اليهود، فقد سلط اللَّه عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم وأظهرهم اللَّه - تعالى - عليهم، ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى ابن مريم - عليه السلام - إمامًا عادلاً، وحكمًا مقسطًا، فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، فلا يقبل إلا الإسلام، وهذه نصرة عظيمة، وهذه سنة اللَّه - تعالى - في خلقه في قديم الدهر وحديثه، أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقرّ أعينهم ممن آذاهم، ولهذا أهلك اللَّه - عز وجل - قوم نوح وعادًا وثمود وأصحابَ الرس وقومَ لوط وأهلَ مدين وأشباهَهم وأضرابهَم ممن كذَّب الرسلَ وخالف الحق.

وهكذا نصر اللَّه نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على من خالفه وكذَّبه وعاداه، فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية، وجعل له فيها أنصارًا وأعوانًا، ومنحه أكتاف المشركين يوم بدر فنصره عليهم وخذلهم وقتل صناديدهم وأسر سراتهم فاستاقهم مقرنين في الأصفاد، ثم منّ عليهم بأخذه الفداء منهم، ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة فقرّت عينه ببلده، وهو البلد المحرم الحرام، المشرف المعظم، فأنقذه اللَّه - تعالى - مما كان فيه من الكفر والشرك، وفتح له اليمن ودانت له جزيرة العرب بكاملها، ودخل الناس في دين اللَّه أفواجًا، ثم قبضه اللَّه - تعالى - إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة، فأقام اللَّه- تبارك وتعالى - أصحابه خلفاء بعده، فبلَّغُوا عنه دين اللَّه - عز وجل -، ودَعَوا عبادَ اللَّه - تعالى -إلى اللَّه - جل وعلا -، وفتحوا البلاد والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب، حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها، ثم لا يزال هذا الدين قائمًا منصورًا ظاهرًا إلى قيام الساعة، ولهذا قال - تعالى -: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (51) يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.

ومعنى ذلك أنهم سيعتذرون - رغم أنوفهم - يوم القيامة، بعد أن رفضوا الاعتذار في الدنيا، ولن تنفعهم معذرتهم، ولهم اللعنة، وهي الطرد من رحمة اللَّه، ولهم سوء الدار، جهنم يصلونها وبئس القرار، كما قال - تعالى -: إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا.

وهكذا نصر اللَّهُ رسولَه في حياته، وهو ناصره بعد مماته، ومنتقم من الذين أساءوا إليه، ولو بعد حين، فإن اللَّه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

وكيف لا؟ وهو - سبحانه - القائل في الحديث القدسي: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب». أي أعلمته بالحرب مني عليه، والوليّ هو كل مؤمن تقي، فإذا آذن اللَّه بالحرب من آذى وليّه، فكيف بمن آذى رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟!

ولقد علم اللَّه - تعالى - أن من الناس من يغيظهم نصر اللَّه لرسوله، فقال - تعالى -: من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ، «والمعنى: أنه - تعالى - ناصر رسولَه في الدنيا والآخرة لا محالة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، فمن كان يغيظه ذلك من أعاديه وحُسّاده، ويظن أن لن يفعله - تعالى - بسبب مدافعته ببعض الأمور ومباشرة ما يرده من المكايد، فليبالغ في استفراغ المجهود وليجاوز في الجد كل حدّ معهود، فقصارى أمره، وعاقبة مكره، أن يختنق خنقًا مما يرى من ضلال مساعيه، وعدم إنتاج مقدّماته ومباديه، فليمدد بسبب إلى السماء أي: فليمدد حبلاً إلى سقف بيته (ثم ليقطع) أي ليختنق، فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ أي: فليصوّر في نفسه النظر هل يذهبن كيدُه ذلك الذي هو أقصى ما انتهى إليه قدرته في باب المضادّة والمضارّة ما بيته من النصر؟ كلا».

[تفسير أبي السعود 373/4]

فموتوا بغيظكم فإن اللَّه ناصر رسوله، وقال السعدي: «معنى الآية: يا أيها المعادي للرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، الساعي في إطفاء دينه، الذي يظن بجهله أن سعيه سيفيده شيئًا. اعلم أنك مهما فعلت من الأسباب، وسعيت في كيد الرسول، فإن ذلك لا يذهب غيظك، ولا يشفي كمدك، فليس لك قدرة في ذلك، ولكن سنشير عليك برأي تتمكن به من شفاء غيظك، ومن قطع النصر عن الرسول، إن كان ممكنًا، ائت الأمر من بابه، وارتق إليه بأسبابه، اعمد إلى حبل من ليف أو غيره، ثم علّقه في السماء، ثم اصعد به، حتى تصل إلى الأبواب التي ينزل منها النصر فسدّها، وأغلقها، واقطعها، فبهذه الحال تشفي غيظك، فهذا هو الرأي والمكيدة، وما سوى هذه الحال، فلا يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك، ولو ساعدك من ساعدك من الخلق». [تيسير الكريم الرحمن 282/5]

 

فموتوا بغيظكم، فإن اللَّه ناصر رسوله - صلى الله عليه وسلم -

وبعد: فإن مما يثلج الصدور، ويقرّ العيون، هذه الغضبة الشديدة التي غضبتها الجماهير المسلمة في العالم الإسلامي كله بسبب هذه الرسوم التي أساءت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مستقرة في نفوس المسلمين، وأنهم على استعداد تام لفداء الرسول الكريم بالنفس والمال والولد، ولكننا نريد أن نغتنم الفرصة ونقول لهذه الجماهير: هذا الحبيب الذي غضبتم له، كم من سنته تركتم، وكم في دينه أحدثتم؟ وهذا ينافي المحبة التي ظهرت منكم لحبيبكم، فهلا تركتم ما أحدثتم؟ وأحييتم من السنن ما تركتم، فتلك هي حقيقة المحبة، فليست المحبة مجرد كلمات تُقال، ولا شعارات تُرفع، وإنما المحبة طاعة واتباع، كما قال اللَّه - تعالى -لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم.

فهيّا بنا نتعلم سنة نبينا ونعمل بها ونطبقها، حتى نتوضأ كما كان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، ونصلي كما كان يصلي، ونأكل كما كان يأكل، ونشرب كما كان يشرب، ونعامل ربنا - سبحانه وتعالى - كما كان يعامله نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ويعامل بعضنا بعضًا كما علمنا نبينا، والأمر سهل ويسير على من يسّره اللَّه عليه، فها هو ذاك الكتاب القيم: «زاد المعاد في هدي خير العباد» لابن القيم - رحمه الله -، فلنقبل على دراسته بنية التأسي بنبينا كما أمرنا ربنا: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا.

وفّق اللَّه المسلمين لما يحبه ويرضاه.آمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply