أعلم كم أرهقتُكم بالكتابة حول الأزمة الإسلامية الدنمركية..وأعلم بالمقابل أنها حديث الساعة الذي لايكاد يخلو مطبوعة ولا منتدى إنترنت منه.. لدرجة قد (ملّ) الأغلب من الحديث عنها وحولها..
أنا شخصياً لا أريد الحديث عن شيء آخر غير الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وسلم... ليس فقط لأنه موضوع جاهز للكسالى أمثالي.. ولكن أيضاً لأنه حدث (متواصل) قد فتح شهيتي للثرثرة والتعليق والتفكير، كما لم لم تكن مفتوحة من قبل..
البارحة فقط كنت أقرأ خبراً مفرحاً ومبهجاً نشره موقع (إسلام أون لاين) حول موجة استنكار لإهانة الحبيب - عليه أفضل الصلاة والسلام -.. لا تبدأ هذه المرة من دولنا الإسلامية، وإنما من ممثلي الكنائس المسيحية على اختلافها في العالم أجمع... ليقولوا: إن ما حصل ضد الإسلام لم يكن إلا وصمة عار في جبين الشانئين والمتعصبين..
فقد أصدر المجلس الاوروبي لزعماء الأديان بياناً (رسمياً) عبّر فيه عن استيائه مما حصل جاء فيه: "ونشجب إساءة استخدام حرية التعبير لسبّ كل ما هو مقدس لدى المؤمنين.. إن سلسلة الرسومات الهجومية على النبي محمد هي إهانة بالغة لحوالي (1.3) مليار مسلم.. نحن نسلم بحق حرية التعبير كركيزة أساسية للديموقراطية، وحقوق الإنسان دون مثل هذه الإساءات".
وأبلغ منه ما نقله الموقع عن نائب بطريرك الكاثوليك في مصر (يوحنا قلته) قوله: "إن مسيحيي الشرق يعرفون جيدًا حجم ومكانة الرسول الكريم". وأكد على أن الرسومات المسيئة للرسول هي إهانة وُجّهت للمسيحيين في العالم وليس للمسلمين فقط، مشيرًا إلى وجود تيار إلحادي في الغرب "يدعو إلى قيام حضارته بسقوط المقدسات وإهانة الأديان".
إضافة إلى عاصفة من الاحتجاجات والبيانات وقّع عليها رجال الدين المسيحي في نابلس وتركيا.. تثير ليس فقط إعجابنا وحماسنا للروح النزيهة والشريفة التي دفعتهم لمثل هذا الموقف النبيل... ولكن تثير مزيداً من التساؤلات حول توقّف كثير من (ربعنا) المسلمين عند مثل هذه الحادثة وحديثهم عنها بأنها واقعة يجب ألاّ تُعطى أكبر من حجمها، وألاّ يتعامل معها المسلمون بهذه الحساسية!!
المسألة حين ترى (مسلماً) يتعامل مع حادثة استفزاز للحميّة الدينية بهذا القدر من اللامبالاة فإنك تدرك وجود خلل مؤسف في تصوّر بعض المسلمين لقيم الحرية وقيم العالم الجديد..
لست بحاجة لتكرار ما تحدّثت عنه في مقالات سابقة من أن اللادينيّة هي ما يمكن أن يفسد علينا صفو عالمنا القادم.. وأن البهتان الذي تقوم به حين تتعدى على المقدّسات أمر سيجر ويلات لا طاقة لنا بها..
اللادينية حين تتوشح رداء عربياً كما في بعض سخافات القوم هنا وهناك، وحين تريد أن تستحيل إلى حركة سياسية تستبعد الدين من أجندتها، وتريد أن تتحرر من الدين ومن تخلّفه وويلاته التي جرها على الشعوب (زعمت)..
حين تفعل اللادينية ذلك فإنها تصبح أمراً يستدر السخرية بشكل لا يُطاق..
ليس فقط لأن الشعوب العربية والإسلامية شعوب متدينة بالفطرة، ولا يمكن تخيّلها بمعزل عن دين الله - تعالى -الذي ارتضاه لها... ولكن أيضاً لأن وجود اللادينيين في الأغلب مرتبط ببرنامج كوميدي متكوّن من التهكّم والهجوم على المقدّسات والتشكيك اللاواعي في جذور المقدّس في العقل المسلم...
أي إنه موقف حاقد... أو مهووس يريد الظهور والتمرّد بطريقة مفلسة.. والإفلاس بهذا الشكل موقف يستدر الشفقة... ليس موقفاً فكرياً معتدلاً يستحق الاحترام..
إن هذه الوقفة التي يقفها المسيحيون معنا هي التي لابد أن يفقه اللادينيون منها أن الخلفية الدينية في عقل كل الشعوب (والإسلامية منها خاصة) أمر لا يمكن تجاهله.. وأن فطرة الله التي فطر الناس عليها ليست جيناً وراثياً يمكن تعديله في مختبر علمي ملحد.. !!
أمر آخر يمكننا قراءته وهو كيف أمكن للآخر المسيحي الذي طالما ارتبط تعصّبه (الديني الصريح) في عقل المسلم بملايين الضحايا بامتداد تاريخنا الإسلامي كان آخرها في حرب البلقان الطويلة.. كيف أمكنه أن يكون نزيهاً ومتسامحاً في النهاية ليعلن موقفاً فكرياً استثنائياً جداً وواضحاً؟!
لم يكن الأمر صعباً هذه المرة أن يعلنوا مبدأهم حول الاحترام وحول التعايش... للدرجة التي تضمن إحدى البيانات التعبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه (نبي الإسلام)..
جاء في البيان الذي أصدره ممثلو ست كنائس رئيسة في تركيا: "كأبناء النبي إبراهيم، نشجب عدم احترام محمد نبي الإسلام الذي نحبه ونتعاون معه، ونحن نصلي مع إخواننا المسلمين ليحكم الحب الإلهي الأرض".
هل ستكون حملة البيانات النزيهة هذه المرة بداية لعهد جديد يبدؤه المسلمون مع المسيحيين، وموقفاً جديداً تماماً هو نفسه موقف: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله... )[آل عمران: 64]؟
هل سيبدأ السلام والحوار الديني.. يبدؤه المسلمون من داخلهم في طوائفهم المتعددة... يبدؤونه مع الآخرين لتكون كلمة الله هي العليا.. ؟ هل ستبدأ حملة للسلام والتحاور الديني أخيراً من أزمة أثارها الشانئ الأبتر (اللاديني) ليؤدي إلى آخر ما كان يتمناه؟ وهو حوار ديني متسامح؟
بأبي أنت وأمي يا رسول الله... أرادوا أن ينتقصوك ويزدروا دينك وإيمانك، فلم يزد ذلك أمتك إلا رشداً.. !
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد