زعموا أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليس برسول. وبنوا هذا الزعم على أربع شعب هي:
1- إن العهد والنبوة والكتاب محصورة في نسل إسحاق لا إسماعيل. ؟!
2- إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يأت بمعجزات. ؟!
3- إن القرآن من نوادر الأعمال الإنسانية، فليس هو معجزاً (1). ؟!
4- إن الكتب السابقة - التوراة وملحقاتها والأناجيل - خلت من البشارة برسول الإسلام. ؟!
الرد على الشبهة:
ولكن قبل أن نواجهها مواجهة مباشرة أريد أن أقدم كلمة موجزة بين يدى هذه المواجهة، رأيت أن تقديمها من أوجب الواجبات في هذا المجال.
وجود " البشارات " وعدمها سواء..؟
أجل: إن وجود البشارات وعدمها في الكتب المشار إليها آنفا سواء، وجودها مثل عدمها، وعدمها مثل وجودها.
فرسالة رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - ليست في حاجة إلى دليل يقام عليها من خارجها، بحيث إذا لم يوجد ذلك الدليل " الخارجي " بطلت - لا سمح الله - تلك الرسالةº فهي رسالة دليلها فيها، ووجود البشارات بها في كتب متقدمة - زمنا - عليها لا يضيف إليها جديداً، وعدم وجود تلك البشارات لا ينال منها شيئاً قط.
فهي حقيقة قائمة بذاتها لها سلطانها الغنى عما سواها. ودليلها قائم خالد صالح للفحص في كل زمان ومكان، باق بقاء رسالته أبد الدهر أشرق ولم يغب، ظهر ولم يختف، قوى ولم يضعف. علا ولم يهبط، إنه دليل صدق الأنبياء كلهم. فكل الأنبياء مضوا ولم يبق من أدلة صدقهم إلا ما جاء في هذا الدليل " القرآن العظيم " حيث شهد لهم بالصدق والوفاء وأنهم رسل الله المكرمون..
فلا يظنن أحدُ أننا حين نتحدث عن بشارات الكتب السابقة برسول الإسلام إنما نتلمس أدلة نحن في حاجة إليها لإثبات صدق رسول الإسلام في دعواه الرسالة. فرسول الإسلام ليس في حاجة إلى " تلك البشارات " حتى ولو سلم لنا الخصوم بوجودها فله من أدلة الصدق ما لم يحظ به رسول غيره.
وستعالج البشارة به - صلى الله عليه وسلم - على قسمين:
1- بشاراته - صلى الله عليه وسلم - في التوراة.
2- بشاراته - صلى الله عليه وسلم - في الإنجيل.
أولاً: البشارات في التوراة
تعددت البشارات برسول الإسلام في التوراة وملحقاتها، ولكن اليهود أزالوا عنها كل معنى صريح، وصيروها نصوصاً احتمالية تسمح لهم بصرفها عنه - صلى الله عليه وسلم - ومع هذا فقد بقيت بعد تعديلها وتحريفها قوية الدلالة على معناها " الأصلي " من حملها على رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - لأن حملها على غيره متعذر أو متعسر أو محال.
فهي أشبه ما تكون برسالة مغلقة مُحي " عنوانها " ولكن صاحب الرسالة قادر - بعد فضها - أن يثبت اختصاصها به، لأن الكلام " الداخلي " الذي فيها يقطع بأنها " له " دون سواهº لما فيها من " قرائن " وبينات واضحة ونعرض - فيما يلي - بعضاً منها:
" وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بنى إسرائيل قبل موته ".
فقال: " جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من ساعير، وتلألأ من جبل فاران " (2). في هذا النص إشارة إلى ثلاث نبوات:
الأولى: نبوة موسى - عليه السلام - التي تلقاها على جبل سيناء.
الثانية: نبوة عيسى - عليه السلام - وساعير هي قرية مجاورة لبيت المقدس، حيث تلقى عيسى - عليه السلام - أمر رسالته.
الثالثة: نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وجبل فاران هو المكان الذي تلقى فيه - عليه الصلاة والسلام - أول ما نزل عليه من الوحي وفاران هي مكة المكرمة مولد ومنشأ ومبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وهذه العبارة - مرة أخرى - تضمنت خبراً وبشارتين:
فالخبر هو تذكير موسى بفضل الله عليه حيث أرسله إليهم رسولاً.
والبشارتان:
الأولى: خاصة بعيسى - عليه السلام -. والثانية خاصة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
وموقف اليهود منهما النفي: فلا الأولى بشارة بعيسى ابن مريم ولا الثانية بشارة برسول الإسلام.
أما موقف النصارى فإن النفي - عندهم - خاص ببشارة رسول الإسلام. ولهم في ذلك مغالطات عجيبة، حيث قالوا إن " فاران " هي " إيلات " وليست مكة. وأجمع على هذا " الباطل " واضعو كتاب: قاموس الكتاب المقدس. وهدفهم منه واضح إذ لو سَلَّمُوا بأن " فاران " هي مكة المكرمة، للزمهم إما التصديق برسالة رسول الإسلام، وهذا عندهم قطع الرقاب أسهل عليهم من الإذعان له.. ؟!، أو يلزمهم مخالفة كتابهم المقدس، ولم يقتصر ورود ذكر " فاران " على هذا الموضع من كتب العهد القديم، فقد ورد في قصة إسماعيل - عليه السلام - مع أمه هاجر حيث تقول التوراة: إن إبراهيم - عليه السلام - استجاب لسارة بعد ولادة هاجر ابنها إسماعيل وطردها هي وابنها فنزلت وسكنت في " برية فاران " (3). على أنه يلزم من دعوى واضعي قاموس الكتاب المقدس من تفسيرهم فاران بإيلات أن الكذب باعترافهم وارد في التوراة. لأنه لم يبعث نبي من " إيلات " حتى تكون البشارة صادقة. ومستحيل أن يكون هو عيسى - عليه السلام -º لأن العبارة تتحدث عن بدء الرسالات وعيسى تلقى الإنجيل بساعير وليس بإيلات.
فليست " فاران " إلا " مكة المكرمة " وباعتراف الكثير منهم، وجبل فاران هو جبل " النور " الذي به غار حراء، الذي تلقى فيه رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - بدء الوحي.
وهجرة إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة المكرمة " فاران " أشهر من الشمس.
وترتيب الأحداث الثلاثة في العبارة المذكورة:
جاء من سيناء
وأشرق من ساعير
وتلألأ من فاران. هذا الترتيب الزمني دليل ثالث على أن " تلألأ من جبل فاران " تبشير قطعي برسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم -.
وفى بعض " النسخ " كانت العبارة: " واستعلن من جبل فاران " بدل " تلألأ ".
وأياً كان اللفظ فإن " تلألأ " و " استعلن " أقوى دلالة من " جاء " و " أشرق " وقوة الدلالة هنا ترجع إلى " المدلولات " الثلاثة. فالإشراق جزء من مفهوم " المجيء " وهكذا كانت رسالة عيسى بالنسبة لرسالة موسى - عليهما السلام -.
أما تلألأ واستعلن فهذا هو واقع الإسلام، رسولا ورسالة وأمة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هذه المغالطة (فاران هي إيلات) لها مثيل حيث تزعم التوراة أن هاجر أم إسماعيل عندما أجهدها العطش هي وابنها إسماعيل بعد أن طردا من وجه " سارة " طلبت الماء فلم تجده إلا بعد أن لقيا ملاك " الرب " في المكان المعروف الآن " ببئر سبع "؟! وأنها سميت بذلك لذلك.. ؟! وكما كذبت فاران دعوى " إيلات " كذَّبت " زمزم الطهور " دعوى " بئر سبع "؟ ž
وستظل فاران - مكة المكرمة - وزمزم الطهور " عملاقين " تتحطم على صخورهما كل مزاعم الحقد والهوى.
ويجئ نص آخر في التوراة لا محمل له إلا البشارة برسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - مهما غالط المغالطون. وهو قول الله لموسى حسب ما تروى التوراة:
" أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه " (4).
حدث هذا حسب روايات التوراة وعداً من الله لموسى في آخر عهده بالرسالة، وكان يهمه أمر بنى إسرائيل من بعده، فأعلمه الله - حسب هذه الرواية التوراتية - أنه سيبعث فيهم رسولا مثل موسى - عليه السلام -.
ولقوة دلالة النص على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد وقف أهل الكتابين - اليهود والنصارى - موقفين مختلفين هدفهما واحد، وهو أن النص ليس بشارة برسول الإسلام.
أما اليهود فلهم فيه رأيان:
الأول: أن العبارة نفسها ليست خبراً بل هي نفى، ويقدرون قبل الفعل " أقيم " همزة استفهام يكون الاستفهام معها " إنكارياً " وتقدير النص عندهم هكذا " أأقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك.. ؟!
بطلان هذا الرأي
وهذا الرأي باطل ولن نذهب في بيان بطلانه إلى أكثر من كلام التوراة نفسها. وذلكº لأنه لو كان النص كما ذكروا بهمزة استفهام إنكاري محذوفة هي في قوة المذكور لكان الكلام نفياً فعلاً.. ولو كان الكلام نفياً لما صح أن يعطف عليه قوله بعد ذلك:
" ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه "؟! فهذا المقطع إثبات قطعاً فهو مرتب على إقامة النبي الذي وعد به المقطع الذي قبله. فدل هذا " العطف " على أن المقطع السابق وعد خبري ثابت لا نفى. ويترتب على ذلك بطلان القول الذاهب إلى تقدير الاستفهام.. ؟!
الثاني: وقد أحس اليهود ببطلان القول بالاستفهام فاحتاطوا للأمر وقالوا لا مانع أن يكون النص خبراً ووعداً مثبتاً، ولكنه ليس المقصود به عيسى ابن مريم - عليه السلام - ولا محمد بن عبد الله رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، بل المراد به نبي من أنبياء إسرائيل يوشع بن نون فتى موسى، أو صموئيل.. ؟!
موقف النصارى:
أما النصارى فيحملون البشارة في النص على عيسى - عليه السلام - وينفون أن يكون المراد بها رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، وقد علمنا قبلا أن اليهود ينفون أن تكون لعيسى - عليه السلام -.
وللنصارى مغالطات عجيبة في ذلك إذ يقولون إن النبي الموعود به ليس من بنى إسماعيل بل من بنى إسرائيل. ومحمد إسماعيلي فكيف يرسل الله إلى بنى إسرائيل رجلاً ليس منهم. ؟! كما قالوا إن موسى أتى بمعجزات ومحمد لم يأت بمعجزات فكيف يكون مثله. وقد رددنا على هذه الفرية فيما تقدم.
الحق الذي لا جدال فيه:
والواقع أن كل ما ذهب إليه اليهود والنصارى باطل. باطل. ولن نذهب في بيان بطلانه إلى أبعد من دلالة النص المتنازع عليه نفسه. أما الحق الذي لا جدال فيه فإن هذا النص ليس له محمل مقبول إلا البشارة برسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وإليكم البيان:
إن النص المتنازع عليه يقيد البشارة بالنبي الموعود به فيه بشرطين:
أحدهما: أنه من وسط إخوة بنى إسرائيل.
وثانيهما: أنه مثل موسى - عليه السلام - صاحب شريعة وجهاد لأعداء الله وهذان الشرطان لا وجود لهما لا في يوشع بن نون، ولا في صموئيل كما يدعى اليهود في أحد قوليهم.
ولا في عيسى - عليه السلام - كما يدعى النصارى.
أما انتفاء الشرط الأول فلأن يوشع وصموئيل وعيسى من بنى إسرائيل وليسو من وسط إخوة بنى إسرائيل. ولو كان المراد واحداً منهم لقال في الوعد: أقيم لهم نبياً منهم.. ؟! هذا هو منهج الوحي في مثل هذه الأمور كما قال في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم... ) (5). وكما جاء على لسان إبراهيم وإسماعيل (- عليهما السلام -) (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم... ) (6).
وأما انتفاء الشرط الثاني، فلأن: لا صموئيل ولا يوشع ولا عيسى ابن مريم كانوا مثل " موسى " - عليه السلام -.
فموسى كان صاحب شريعة، ويوشع وصموئيل وعيسى وجميع الرسل الذين جاءوا بعد موسى - عليه السلام - من بنى إسرائيل لم يكن واحداً منهم صاحب شريعة، وإنما كانوا على شريعة موسى- عليه السلام -. وحتى عيسى ما جاء بشريعة ولكن جاء متمماً ومعدلاً فشريعة موسى هى الأصل. إن عيسى كان مذكراً لبنى إسرائيل ومجدداً الدعوة إلى الله على هدى من شريعة موسى - عليه السلام -!! فالمثلية بين هؤلاء - وهى أحد شرطي البشارة - وبين موسى - عليه السلام - لا وجود لها. ؟!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد