تهميش الأمة : عطل مشاريع النهضة


 

المختار الاسلامي 

هل التخلف هو قدر العرب المحتوم؟ أليس هناك أمل في نهضة عربية تنفض غبار قرون الانحطاط عن هذه الأمة التي ذاقت عز المجد من قبل؟ وإذا كان مشروع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده قد فشل في تحقيق النهضة على الأساس الإسلامي، وإذا كان كذلك مشروع النهضة "التنويري" الذي بدأه رموز العلمانية والتغريب في بداية القرن الحالي قد فشل أيضاً في تحقيق النهضة المنشودة، ومن قبل هذين المشروعين فشل مشروع محمد علي في تحقيق النهضة لمصر، كما فشل مشروع جمال عبد الناصر بعد ذلك في تحقيق الشيء نفسه، فهل هناك أمل في النجاح بعد كل هذا الفشل والإخفاق؟ وما هي ملامح مشروع النهضة المنتظر؟ وكيف يمكن أن يحظى هذا المشروع بقبول مختلف ألوان الطيف السياسي والفكري في أمتنا العربية؟ ورغم أن تقرير "التنمية الإنسانية العربية" لسنة 2002، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي في يوليو الماضي يلاحظ أن الدول العربية حققت تقدماً كبيراً في التنمية البشرية، على مدى العقود الثلاثة الماضية، يتمثل بارتفاع العمر المتوقع عند الميلاد بمعدل 15 عاماً، وانخفاض معدلات وفيات الأطفال، وازدياد نسبة الملمين بالقراءة والكتابة، وارتفاع نصيب الفرد من السعرات الحرارية الغذائية، ومن الماء الصالح للشرب يومياً، وتراجع نسبة حالات الفقر المدقع، إلا أن الأرقام تدلل أيضا، على حجم الهوة التي تفصل العرب عن إنجازات التقدم المتحققة في العالم، في مختلف المجالات. وبحسب التقرير، فقد كان معدل نمو دخل الفرد العربي، خلال العقدين الماضيين، هو الأقل في العالم باستثناء إفريقيا جنوب الصحراء، إذ إنه لم يتجاوز نصف في المائة سنوياً، واستمرار هذه المعدل يعني بأن المواطن العربي يحتاج إلى 140 عاماً ليضاعف دخله، بينما يستطيع المواطن في مناطق أخرى مضاعفة دخله مرة كل عشر سنوات، وبحسب التقرير فقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي لكل البلدان العربية في العام 1999 ما مقداره 5312 مليار دولار أميركي، أي ما يشكل أقل من دخل دولة أوروبية واحدة مثل إسبانيا والتي يقدر ناتجها المحلي الإجمالي بحوالي 5955 مليار دولار، أما إنتاجية العامل الصناعي العربي فهي منخفضة ويترافق ذلك مع تدهور الأجور ما يفاقم من حدة الفقر، ويقدر التقرير حجم البطالة في الدول العربية بحوالي 12 مليون عاطل من العمل عام 1995، أي ما يوازي 15 في المائة من قوة العمل، ويتوقع أن يصل عدد العاطلين إلى نحو 25 مليوناً سنة 2010. ويشير التقرير بأن كل واحد من بين خمسة أفراد عرب يقل دخله عن دولارين في اليوم، وثمة 65 مليون أمي ثلثهم من النساء، كما لوحظ انحسار في فرص التعليم والتعلم. ويبدي التقرير قلقاً تجاه الشباب العربي الذين يشغلهم تأمين فرص العمل والتعلم، ومما يزيد القلق أن 51% من المراهقين صرحوا برغبتهم في الهجرة لعدم رضاهم عن الأوضاع الحالية والفرص المستقبلية في بلدهم الأم. ويعد تمويل البحث العلمي في العالم العربي من أكثر المستويات تدنياً في العالم، إذ يبلغ معدل الإنفاق العلمي نسبة إلى الناتج المحلي 014 في المائة فقط في العالم العربي عام 1996 في حين أنه يبلغ 253 في المائة عام 1994 في إسرائيل، و29 في اليابان، أما الاستثمار في البحث والتطوير فهو أقل من سبع المعدل العالمي، كما أن استخدام المعلوماتية في الدول العربية أقل من أي منطقة أخرى في العالم، إذ لا تتجاوز نسبة مستخدمي الإنترنت 06 في المائة ويملك 12 في المائة فقط من المواطنين العرب حاسوباً شخصياً، ويبلغ النقص في الإنتاج الفكري والإبداع في العالم العربي حدا كبيرا، فمجموع ما يترجمه العرب من الكتب 330 كتاباً سنوياً، وهو خُمس ما تترجمه اليونان، وخلال الألف سنة الماضية، ترجم العرب من الكتب بقدر ما ترجمته إسبانيا في سنة واحدة؟. ويصل التقرير إلى حقيقة مفادها أن النقص في المعرفة والحريات يكبل الطاقة الإبداعية للعقول وأن الثقافة والقيم هما روح التنمية، وأن التنمية الإنسانية هي تنمية الناس ومن أجل الناس ومن قِبَل الناس، وفي هذا الصدد تبدو المقارنة مع إسرائيل ليست في صالح العرب، من مختلف الوجوه، إذا تجنبنا العوامل المتعلقة بالمساحة وعدد السكان والتاريخ والثقافة وأيضا الثروة النفطية، وهي عوامل تؤكد من الجهة الأخرى، حجم الإخفاق العربي في مقابل النجاح الذي حققته إسرائيل: قليلة العدد صغيرة المساحة والتي تفتقد للعمق الحضاري ـ الثقافي.

هل عطّلت الدولة العربية الحديثة نهضة الأمّة؟ توصّل الإنسان بعد تجاربه الطويلة في الحياة الجماعية إلى اتّخاذ نظام الدولة نظاما اجتماعيا يشرف على الحياة العامّة ويرتّب شؤونها، ويكفّ الأفراد والجماعات عن الصراعات المهلكة، ويوجّههم إلى التعاون المثمر، وقد أصبحت المهمّة الأساسية للدولة هي أن توفّر للمجتمع الشروط الأساسية للنموّ الحضاري، من أمن داخلي وخارجي، وتنظيم إداري، وتخطيط مستقبلي، وتيسير لسبل الريادة في التفكير والتدبير والإنجاز. ولكنّ التاريخ عرف نماذج من الدول انحرفت فيها الدولة عن القيام بهذه المهمّة الأساسية، التي من أجلها وجدت، بل لم يقف انحرافها أحيانا عند عجزها عن توفير شروط النهضة، وإنّما تحوّلت إلى عوامل مضادّة، تعطّل المجتمع عن حركة النموّ الحضاري، وتعطّل طاقاته الذاتية عن النهضة، ونحسب أنّ الدولة العربية الحديثة ليست ببعيدة عن أن تمثّل هذا الأنموذج المعطّل للنموّ الحضاري للأمّة العربية. لمّا نشأت الدولة العربية الحديثة كان أمام صانعيها أنموذجان للدولة مرشّحان للاقتباس منهما، والاستفادة من التجربة الحضارية فيهما: أنموذج الدولة الإسلامية، كما رسمت معالمها التوجيهات الدينية، وكما تحقّقت في التجربة التاريخية، وأنموذج الدولة الغربية الحديثة، كما هي قائمة بالفعل في البلاد الأوروبية، على وجه الخصوص. ولم تكن الدولة الإسلامية محلّ نظر ودرس من قِبل أولئك الصّنّاع، بنيّة الاقتباس منها، بالرغم من أنّها تمثّل مخزونا حضاريا ثريّا للأمّة، في شأن الحكم والبناء الحضاري، بل صُرف عنها النظر بصفة شبه مطلقة، واستدارت الأنظار كلّية إلى الدولة الغربية الحديثة، التي أعشى بهرجها الأبصار، لتكون محلّ الاقتباس بل المحاكاة والاحتذاء. وقد كان لهذا الموقف غير المنطقي من الناحية المنهجية، وغير الوفيّ من الناحية الثقافية والحضارية، أثر بالغ السوء في بناء الدولة العربية الحديثة، وفي علاقتها بالمجتمع، وفي نتائج إدارتها للأمّة من أجل النهضة. ربّما كانت بعض سلبيات الدولة الإسلامية، كما تحقّقت في واقع التاريخ، مثل ما فشا فيها من استبداد سياسي، ومثل قصورها في بناء المؤسّسات السياسية الثابتة، صارفا حاسما عن النظر فيها، من أجل الاقتباس، ولكنّ ذلك كما أنه خطأ منهجي، كان أيضا صارفا عن استفادة قيّمة من جوانب إيجابية كثيرة في تلك الدولة، أثبتت التجربة نجاعتها في إدارة المجتمع، وفي تحقيق النموّ الحضاري، فخسرت الدولة العربية الحديثة بذلك مصدرا مهمّا من مصادر البناء المثمر، وحصدت نتيجة خطئها فشلا في إدارة المجتمع، واستنهاض قواه الفاعلة. نتائج استبعاد الخبرة الإسلامية ولعلّ من أهمّ إيجابيات الدولة الإسلامية، التي حرمت منها الدولة العربية الحديثة، فباءت في شأنها بالخسران، ما كانت تلك الدولة تتيحه للمجتمع من هامش واسع لحرّية التصرّف في الشؤون العامّة، ومن المسؤولية في البناء الحضاري، إذ لم تكن الدولة الإسلامية تقبض من السلطات بصفة قويّة مباشرة، إلاّ على سلطة الأمن، بالمعنى الموسّع، الذي يشمل دفع العدوان الخارجي، وإقامة العدل بين الناس، وإشاعة الطمأنينة فيهم، وذلك من خلال مؤسّسات الجيش والشرطة والحسبة والقضاء وما في حكمها، وأمّا المهامّ البنائيّة فهي في مجملها تركت في إنجازها للأمّة، ولم يكن للدولة إلاّ دور الإشراف العامّ، وتوفير الشروط الممكّنة من الابتكار ومن الإنجاز. لقد كان المجتمع الإسلامي، هو الذي يمارس مهمّة التربية والتعليم، من خلال المؤسّسات التعليمية الأهلية، ويمارس مهمّة البناء الاقتصادي، من خلال مؤسّسة الأوقاف، ويمارس مهمّة الرّعاية الاجتماعية، من خلال مؤسّسات التكافل، في دوائر اجتماعية متعدّدة، ولمّا كانت هذه المهامّ ذات البعد الاستراتيجي في البناء الحضاري قد تكفّلت بها الأمّة، فإنّها لم تتأثّر كثيرا بما تعرّضت له الدولة من اضطرابات سياسية، بل ومن انكسارات عسكرية مدمّرة، فقد ظلّت الحضارة الإسلامية تنمو في شتّى المجالات، بالرغم ممّا أصاب الدولة من انتكاسات، وما تعرّضت له من أحداث طامّة. وعلى سبيل المثال فإنّ الدولة الإسلامية لمّا كانت تتعرّض للاضطراب الشديد بالانتقال من الأمويين إلى العبّاسيين، وبالفتنة بين المأمون العباّسي وأخيه الأمين، فإنّها كانت في الوقت ذاته تشهد أزهى عصورها في البناء الحضاري العام، فقد كان الحكم منهمكا في الفتنة، وكانت الأمّة بما لها من استقلالية منهمكة في البناء. وقد لا يجد المؤرّخون تفسيرا غير هذا التفسير لحقيقة استمرارية الحضارة الإسلامية، بالرغم من تعرّض الدولة الإسلامية لطامّات، عرف التاريخ سقوط حضارات عاتية، بسبب ما هو دونها من الخطوب بكثير. والدولة الحديثة في الغرب حينما اتجه ناحيتها بُناة الدولة العربية للنسج على منوالها، كانت قد انتهجت في إدارة الحياة نهج الإشراف المباشر على المرافق العامّة، التي كانت تضطلع بها الأمّة في الدولة الإسلامية، فتولّت هي التخطيط والتنفيذ، بصفة كاملة لشؤون التربية والاقتصاد والرعاية الاجتماعية وغيرها من المهامّ الاستراتيجية، ولكنّ هذا التولّي المباشر لتلك الشؤون، كان بتفويض من الأمّة، ونيابة عنها، وفق عقد مراضاة بين الطرفين، تقرّر فيه الأمّة ما تشاء، وتنفّذ فيه الدولة تلك القرارات، تحت المراقبة والمحاسبة من الوكيل المفوّض، فصار ذلك يشبه أن يكون وجها آخر لتولّي الأمّة لشؤونها الاستراتيجية، كما انتهجته الدولة الإسلامية بصفة مباشرة، ولكنّه وجه مبنيّ على قواعد من المؤسّسات الثابتة والقوانين الملزمة. ولكنّ الدولة العربية الحديثة لمّا نسخت منهج الدولة الغربية في الإدارة الشاملة لحياة الأمّة، أسقطت منه أهمّ عناصره، وهو التفويض الشعبي، فإذا هي تستولي على جميع مقاليد الحياة العامّة، وتدّعي لنفسها القدرة على النهوض بهذا العبء الثقيل، ثمّ هي تسلب من الأمّة في ذلك الاستيلاء، وبذلك الادّعاء، حقّ القيام المباشر على شؤونها، وحقّ الإنابة عنها، وحقّ الاختيار لنمط ما تريد جميعا، ومضت هي بمعزل عن الأمّة تقرّر في كلّ شيء، وتنفّذ في كلّ شيء، متجاوزة الدولة الغربية في أصل ما انتهت إليه من مبدأ التفويض والنيابة، ومتجاوزة إيّاها في حجم ومساحة ما تعهّدت به من النيابة عن الشعب في إدارة حياته. خطورة تهميش دور الأمة ولمّا كانت المهمّة، التي ادّعتها الدولة العربية الحديثة لنفسها غير قائمة على أساس من الحقّ في أصلها، وغير مقدور عليها في الواقع من قِبل الدولة عموما، ومن قبل الدولة العربية الحديثة التكوين خصوصا، فإنّ الفشل في أدائها كان محتوما، ولمّا استشعرت الدولة ذلك الفشل، أصبحت في سبيل إخفائه، والتنصّل من تبعاته، تخبط خبط عشواء، على غير محجّة بيّنة، وإلى غير هدف معلوم، فإذا هي تردّ على المجتمع كثيرا من المهامّ، التي سلبته إيّاها، ولكن على مستوى التنفيذ فقط، حتى انتهت أحيانا، لمّا عجزت عن أداء مهمّتها الأساسية، وهي حفظ الأمن، إلى أن تعهد بهذه المهمّة لهيئات شعبية تسلّحها لتقوم بحفظ الأمن بدلا منها، وأماّ الاختيار والقرار، الذي هو من الحقّ المطلق للأمّة، فقد احتفظت به لنفسها، واستماتت في الاستئثار به والدفاع عنه. لقد انتهى أمر الدولة العربية الحديثة في هذا الشأن إلى ضرب من الكاريكاتير المضحك المحزن في آن معا، فهي قد استدارت عن تجربة الدولة الإسلامية في إفساحها مجالا واسعا من حرّية الإنجاز الحضاري للأمّة، والحال أنّ تلك الدولة هي الأنموذج الأقرب منها روحيا وثقافيا، ثمّ ذهبت تنسخ تجربة الدولة الغربية الحديثة، ولكنّه نسخ ممسوخ، إذ قد أصبحت فيه شمولية الدولة، تضمّ شمولية الاختيار إلى شمولية التنفيذ، فأُلغي دور الأمّة قرارا اختياريا وتنفيذا عمليا، ثمّ انتهى الأمر إلى أن استبدّت الدولة بالاختيار، وتقاعست في مستلزمات التنفيذ، ملقية بالكثير من أحمالها على عاتق الأمّة، التي أصبح عليها أن تنفّذ ما تختاره لها الدولة، وبذلك أصبحت هذه الدولة تطّرح في كلّ مرحلة أحسن الأوضاع، وتأخذ بأسوئها، حتى تمحّضت لها السيّئات. ولا شكّ أنّ هذا المنتهى، الذي انتهت إليه الدولة العربية الحديثة، كانت له آثاره البالغة السوء على حركة النهضة، إذ النهضة لا تقوم بها إلاّ الأمّة، التي منها يكون الاختيار، ومن خصوبتها ينشأ الابتكار، وبيدها أو على عينها يتمّ الإنجاز، وما مهمّة الدولة إلاّ توفير الأسباب الدافعة إلى ذلك، والمساعدة عليه، وانتهاج الطرق الإدارية المفعّلة له والميسّرة لمسالكه. وإذا ادّعت الدولة العربية الحديثة أنّها ستقوم بديلا من الأمّة بإنجاز كلّ تلك المهامّ، ومنعت المجتمع من أن ينتظم في مؤسّسات سياسية واقتصادية وتربوية، يقوم من خلالها بمهامّه الحضارية، وإن هي سمحت بشيء من ذلك، فبشرط أن تطبّق اختياراتها هي لا اختياراته هو، ثمّ هي قابلت بالقمع كلّ الاحتجاجات الصادرة عن المجتمع، ناقدة لهذا الوضع، ومطالبة بتصحيحه، وكانت خلاصة ذلك كلّه كبت قوى الأمّة أن تنطلق، وإعاقة خصوبتها أن تثمر، والحجر على قدراتها أن تأخذ طريق الابتكار والإبداع، فانكفأت على ذاتها تجترّ انكسارها، وتراوح مكانها في ميدان التقدّم، إن لم تكن تقهقرت في أكثر من مجال من مجالات الحياة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply