بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فريضة الحج تشتمل على حِكم جليلة وعظات وفيرة، ففي الحج إظهار للتذلل لله -عز وجل -لأن الحاج يترك أسباب الترف والتزيّن ويرتدي ملابس الإحرام، مُظهراً فقره لربه، ويتجرد في هذا السفر عن الدنيا وشواغلها التي تصرفه عن الله -سبحانه-، فيتعرض بذلك لمغفرة الله -تعالى- ورحمته.
قال -تعالى-: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير}[(27) (28) (الحج)[.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه أبو هريرة: "مَن حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"(رواه البخاري ومسلم).
روح الجندية: يقف الحاج في عرفات ضارعاً لربه، حامداً شاكراً نعمة الله مستغفراً لذنوبه وعثراته.
فأداء فريضة الحج يؤدي شكر نعمة المال وسلامة البدن، وهما أعظم ما يتمتع به الإنسان من نعم الدنيا.
وفي الحج شكر لهاتين النعمتين العظيمتين، حيث يجهد الإنسان نفسه، وينفق ماله في طاعة ربه والتقرب إليه..
عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله -تعالى- فيه عبداً من النار من يوم عرفة وإنه يباهي بهم الملائكة"(رواه مسلم).
وقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "أي العمل أفضل"؟ قال: "إيمان بالله ورسوله، ثم: الجهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور"(رواه البخاري).
والحج يربِّي النفس على روح الجندية، بكل ما تحتاج إليه من صبر جميل وتحمّل الأذى، فهو أشبه بنظام عسكري منظَّم يتعاون فيه المرء مع الناس، ألا ترى الحاج يتكبد مشقات الأسفار حتى يتجمع الحجاج كلهم في "مكة" حرم الله، ثم ينطلقون جميعاً لأداء المناسك، ويقيمون ويتحركون جميعاً مسرورين، إنها تنقّلات كشافة روحانية.
لا فوارق في الحج: وهناك تزول الفوارق بين الناس.. فوارق الغنى والفقر، فوارق الجنس واللون، فوارق اللسان واللغة، تتحد كلمة الإنسان في مؤتمر كله خير وبركة وتشاور وتناصح وتعاون على البر وتآزر، مؤتمر عظيم.
مؤتمر الحج تجتمع فيه الكلمة على البر والتقوى، وعلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر والسهر على مصلحة الأمة، وهدف هذا المجتمع والتجمع العظيم ربط أسباب الحياة بأسباب السماء. ففي الحج ذكريات غالية، تغرس في النفس روح العبودية الكاملة، والخضوع الذي لا يتناهى لأوامر الله وشريعته.
لعلهم يشكرون: ففي البقاع المقدسة والأماكن الشريفة تنبثق العبرة، فعند البيت العتيق حطَّ أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- رحله بزوجته هاجر وولده إسماعيل. كما أخرج البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في حديث طويل قال فيه: جاء بها "هاجر" إبراهيم -عليه السلام- وابنها "إسماعيل" وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت، عند دوحة فوق "زمزم" في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضع الأم وابنها الصغير، هناك بواد غير ذي زرع، ووضع عندها جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم -عليه السلام- منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل قائلة: أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه حيوان ولا إنسان؟. فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال الخليل: نعم، قالت: إذاً لا يُضيِّعنا. ثم رجعت حيث طفلها الصغير، وانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند ثنية الوداع، حيث لا تراه زوجه، استقبل البيت بوجهه ثم دعا بهؤلاء الكلمات: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}[37 (إبراهيم)[.
هناك في ذاك القَفر الأجرد نبعت "زمزم" بين يدي إسماعيل، وكانت هذه الماء له ولأمه آية يعتبر بها الناس. فقد أصبحت تلك الأسرة الصغيرة نواة الحياة، وبذرة العمران في ذلك المكان، وجاءت لصحراء جزيرة العرب بشرف النبوة والرسالة، وحُقّ لمن خضع لأمر الله ذلك الخضوع أن يكون أهلاً لذلك التكريم، وأن يقيموا بناء البيت الذي تهوي إليه أفئدة أهل الإيمان.. فسيروا معشر من آمن بالله على طريقهم، واحفظوا أمر الله ودينه فيكم، يحفظكم ربكم وينصركم.
من آداب الحج:
ولحج بيت الله آداب إذا روعيت وقام الحاج بها، عاد بإذن الله موفور الحسنات، مقبول الأعمال.
منها: البدء بالتوبة النصوح عن جميع المعاصي والذنوب، والخروج من مظالم العباد بردّ الحقوق لأهلها مع قضائه لديونه، وردّ الودائع والأمانات لأهلها، ويستحلّ كل مَن له معه معاملة غير صحيحة ويكتب وصيته ويشهد عليها، ويوكل مَن يقضي عنه ديونه، إذا لم يتمكن هو من قضائها، ويترك لأهله ومَن تلزمه نفقته من زوجة ووالد وولد شيئاً من المال إلى حين رجوعه.
ومن الآداب المستحبة: أن يجتهد الحاج في إرضاء والديه ومن يتوجّب عليه بره وطاعته من أستاذ ومعلم ورحم قريب. ومنها أن تكون نفقته حلالاً خالصة من الشبهة، فإن خالف وحجّ بما فيه حرام لا يكون حجاً مبروراً، ويبعد كل البعد أن يكون مقبولاً، ولله در القائل:
إذا حججت بمالٍ, أصلُه سحتٌ *** فما حججت ولكن حجّت العيرُ
لا يقبلُ اللهُ إلا كلَّ خالصةٍ, *** ما كلٌّ من حجّ بيتَ اللهِ مبرورُ
الزاد والنفقة: وعلى الحاج أن يستكثر من الزاد، والنفقة من المال، ليواسي من كان محتاجاً من القاطنين في تلك البقاع المباركة، ويأخذ بيد البائسين.
وعلى الحاج أن يترك المماحكة والمشاحة فيما يشتريه، بأن يكون سمحاً في البيع والشراء، سمحاً في الأخذ والعطاء، فإن أهالي تلك البقاع ينتظرون موسم الحج ليغتنموا منافع الحج، وليفيدوا الحجيج بتوفير المأكولات اللازمة والملبوسات المناسبة، والأدوات الضرورية مقابل ربح معقول مقبول.
ومن الآداب في الحج: أن يتعلم الحاج كيفية الحج وأحكامه وما يحرم عليه وما يحل له، وما يجب وما يُسن، وهذا فرض قد فرضه الله على مريد الحج، إذ لا تصح العبادة ممن يجهلها.. وأن يأخذ معه كتاباً واضحاً في مناسك الحج، جامعاً لأحكامه ومقاصده، يُديم مطالعته، مع سؤاله لأهل العلم والفتوى في جميع أعمال الحج. ويؤكد الأستاذ محمد الحجار في كتابه "صوت المنبر" ذلك بقوله: "ومن أخلّ بهذا وتساهل، خفنا عليه أن يرجع بغير حج، لإخلاله بشرط من شروط الحج أو ركن من أركانه، وربما قلد كثير من الحجاج بعض عوام أهل مكة.
الرفيق الصالح: ومن تلك الآداب أن يستعمل الحاج الرفق وحسن الخلق مع الرفقة والأصحاب، ويتجنب المخاصمة مع الناس والمشاحنة والمزاحمة في الطريق وموارد الماء.
وعلى الحاج أن يصون لسانه من الشتم والغيبة والألفاظ القبيحة. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "مَن حجّ فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
ومن ذلك: أن يطلب الحاج له رفيقاً صالحاً موافقاً راغباً في الخير، كارهاً للشر، إن نسي ذكَّره، وإن ذكر أعانه، وإن كان من أهل العلم والصلاح فليتمسك به، فإنه يعينه على مبار الحج، ومكارم الخُلُق، ويمنعه بعلمه وخلقه من سوء ما يطرأ على راحته في جميع الطريق، ويتحمل كل واحد منهما صاحبه.
يقول الأستاذ محمد الحجار: "من الأمر العجيب أننا نرى كثيراً من المسلمين ممن أغدقت الدنيا عليهم، ممن لا علم لهم بأحكام الحج ومناسكه، نرى الواحد منهم ينفق الأموال الباهظة والدراهم الكثيرة في سفر الحج من غير حاجة ماسة إلى هذا، مع السرف المذموم والتبذير الممقوت، ولا يسهل عليهم إنفاق اليسير في سفر من يصحبهم ويعلّمهم ما يحتاجون في سفرهم لحجهم، ليحصل لهم ثواب التعلم والأجر، ويعودوا بحج صحيح مبرور"..إن الحج حقاً، أعظم مؤتمر بشري جامع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد