بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فَقدْ سَألَني أَحَدُهم غَافَلاً، أو مُتغافلاً، وجَاهِلاً، أَوْ متُجاهلِاً: هَلْ ثَمَّ مَكْرٌ في عَالمِ المسلمينَ اليومَ؟
فَأَجَبْتُهُ وَرِيحُ الأَسْى َتكادُ تَعْصِفُ بِمَا في نَفْسِي، وَأَمْواجُ الأَلمِ تَتَلاطَمُ في سُويداءِ قَلْبي:
دَعْنَا نَتَّفقُ أَوَّلاً وَقبلَ كُلِّ شَيْءٍ على حَقيقةِ المَكرِ وَلُبِّهِ وَجوهرهِ، لِيكونَ ذَلكَ هُوَ المنطلقَ في تَوصيفِ مَا أَلمَّ بِنا مِنْ وَاقعٍ أَليمٍ مريرٍ هُو كَالعلقمِ مَرارةً أَوْ أَشدَّ.
إَنَّ المَكرَ في حَقيقتهِ الوَاضحةِ البَيِّنةِ هُو إِلحاقُ الأَذى بِالغيرِ، وإِيصالُ الضَّررِ إِليهِم بِصُورةٍ خَفِيَّةٍ غَيرِ مُباشرةٍ، فِيها التَّلطُّفُ في الحِيلةِ والغَدرِ وَالخَديعةِ [1]، أتُرى أَخي بِعد هَذا الوصفِ والبيانِ أَنَّ عَالمَنا اليومَ هُو في عَافيةٍ مِنْ هَذَا البَلاءِ الخَطيرِ والشَّرِّ المستطيرِ؟!
إِنَّنا وَبِكُلِّ أَسفٍ ومَرارةٍ نَدورُ في فَلكِ المَكرِ والخَديعةِ -إلا مَنْ رَحِمَ اللهُ-، وَإِنَّنا مَغْموسُونَ في ذَلكَ المُستنقعِ الآسنِ غَمْساً لا تَكادُ تُخْطِئهُ عَينٌ ولا بَصيرةٌ.
وَسيأتي الوقتُ المُناسبُ في عِلْمِ اللهِ، لِتتكَشَّفَ كَثيرٌ مِنَ الحقَائقِ الَّتي لَطالمَا حَاول كَثيرٌ مِنْ أُولئكِ الجُبناءِ الضُّعفاءِ مِمَّنْ تَسفَّلُوا في دَركاتِ المَكرِ والخَديعةِ مِنْ أَصْحابِ النُّفوسِ المريضةِ الَّذينَ لا هَمَّ لَهُم في دُنياهم سِوى مَصْلحتِهم الذَّاتيةِ، أَوْ أَنْ يُصفِّقَ لهم الجَماهيرُ، أو تُفتَّحَ لَهْم الأَبوابُ على مِصْراعيها، أَوْ تُسلَّطَ عَليهم الأَضواءُ، أَن ُيكتِّموا عَليها، أَوْ يُخْفُوا وَجْهها في صُورةٍ مُتَردِّيةٍ قَبيحةٍ مِنَ (الأنا) الَّتي تَعملُ عَمَلها الآثِمَ البَغيضَ في نُفوسِهم، لَترى بَعدَ ذلكَ أَجساداً تَسرحُ بِلا أَرواحٍ، وأَجْساماً تَمْضِي بِلا أَخْلاقٍ.
أَلا مَا أَحَطَّ الإِنسانَ وَمَا أَبْشَعه حِينما يَكونُ حُطامُ الدُّنيا الرَّخيصُ هُو مُنتهى آمالِه وَغَايةَ أُمنياتِه!![2] حِينها يَتَجرَّدُ مِنْ كُلِّ خُلقٍ وَقِيمةٍ، وَمِنْ كُلِّ رَحمةٍ وَسَكينةٍ، وَيَغْدُو وَحْشاً كَاسراً، لا قِيمةَ للإِنسانِ في ذَاتِه وَضَميرِه، فَيا لَيتَ قُبورَ الدُّنيا كُلَّها فُتِّحتْ، لِتَبْتَلِعَ هُؤلاءِ الموتى الَّذينَ يَتراءَوْنَ للنَّاسِ في دُنياهُم وَكأَنَّهم أَشْباحُ لَيلٍ يُثيرونَ القَلقَ، ويُنغصِّون الحيَاةَ، وَلا حَولَ ولا قُوَّةَ إلا بِاللهِ، وَحَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ.
إِنَّنا إلى اللهِ صَائرونَ، وَعَمَّا قَريبٍ سَتُطْوى صَفحةُ هَذهِ الحياةِ الفَانيةِ، وَيَمْضِي الخَلائِقُ كُلُّهم إلى تَلكَ الحَياةِ السَّرمديةِ البَاقيةِ... هُناكَ وَمَا أَدْرى مَا هُنالك؟!! يَضعُ الرَّبُّ جَلَّ جَلالَه كُرْسِيَّهَ العَظيمَ [3]، حَكَمَاً عَدْلاً، يَفْصلُ بَينَ الخَلائقِ كُلِّهم بِميزانِ العَدلِ الإِلِهيِّ الَّذِي لا يُجاملُ أَحداً، ولا يُحابِي أَحداً[4]... وَقتئذٍ تَكُونُ الحَسْرةُ وَالنَّدامةُ، وَتُبْلى السَّرائرُ، وَيَنطقُ الشُّهودُ، وَيَنْكشفُ المَاكِرونَ الغَادِرونَ، وَتَبرزُ صُورُهم عَلى رُؤوسِ الأَشْهادِ[5]، لِيراهُمُ النَّاسُ عَلى حَقيقتِهم الحَقيقيةِ، بِلا خَفاءٍ، أَو تَمويهٍ، وِليقضِيَ فيهم رَبُّ العَالمينَ بِالقِسطاسِ المستقيمِ، وَلا حَولَ وَلا قُوَّةِ إلا بِالعَلِيِّ العَظيمِ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
*هذا العنوان مستفادٌ منْ قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}[التين: 5].
[1] انظر: ((مفردات ألفاظ القرآن)): (2/381) للراغب الأصفهاني، و((تفسير القرآن العظيم)): (3/334) لابن كثير، و((التحرير والتنوير)): (2/381) لابن عاشور.
[2] جَاءَ هذا المعنى مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه، كما في ((صحيح البخاري)) برقم 2887: ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ)).
[3] ثَبَتَ هذا في حديثِ مُهَاجِرَةِ الْبَحْرِ، كما أخرجه ابن ماجه في ((سننه)) بإسنادٍ قوي، برقم 4010، وفيه قولهم:
((بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ، تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ دَفَعَهَا، فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللهُ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتْ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)).
[4] كَمَا قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[الأنبياء: 47].
[5] جَاءَ هذا المعنى مِنْ حديثِ ابنِ عَمرَ رضي الله عنه،كما في ((صحيح البخاري)) برقم7111: (يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد