بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بوأ من عمل بكتابه منازل الكرامة، وجعله في ظل عرشه يوم القيامة. أحمده أوردنا منازل الاستقامة ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(الأنعام 153)، وأشهد أن لا اله إلا الله حفظنا مما يوجب في الآخرة الحسرة والندامة، وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله أفضلُ من حمل أعباء الرسالة وأنقذ من الضلالة ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾(115 النساء)، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والمهتدين بأعماله وأقواله
أمّا بعد، فيا أيّها المؤمنون الكرام، ممّا جاء في حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه لا يقوم بهذا الدين إلا من أحاطه من جميع جوانبه» (البيهقي). فماذا أراد أن يعلّمنا الرسول صلى الله عليه وسلم؟
إنّه أراد أن يعلّمنا أنّ الإسلام نظام شامل، لا يقوم إلا شاملاً، الإسلام كلّ لا يتجزّأ، والإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وحدة لا تنفصم عراها ولا يمكن تفتيتها أو القبولُ بعزل بعضها عن بعض.. قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين﴾النحل 89 و"تبيانا": تفيد البيان.. و"لكل شيء" يفيد العموم، إلا أنه عموم عرفي في دائرة ما لمثله تجيء الأديان والشرائع: من إصلاح النفوس، وإكمال الأخلاق، وتقويم المجتمع المدني، وتبين الحقوق... وهذا دالّ على أنّه ما من شيء في حياة الإنسان إلاّ وله صلة بالدين وقواعده، فلا نقول هذا ممّا يتجاوز الإسلامَ أو ممّا لا يدخل في دائرة التشريع الإسلامي، وإنّما هناك تأكيد من خلال المبالغة في البيان التي في لفظ تبيان. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنهما: «القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي ، وحكم كل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ، ومعاشهم ومعادهم... » فهل يجوز بعد ذلك أن نقوم باجتزاء الإسلام وفصل قضايا الحياة والمعاش عن أوامر الله؟ هل يعقل أن يقتصر أمر الدين على العبادة وأداء الشعائر ولا شأن له بعد ذلك بأمور الحياة والمعاش؟ عنْ شَيْخٍ مِنْ كَلْبٍ يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مَكْحُول يُحَدِّثُ، أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ أَنْتَ يَا عُوَيْمِرُ إِذَا قِيلَ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَعَلِمْتَ أَمْ جَهِلْتَ؟ فَإِنْ قُلْتَ:عَلِمْتُ، قِيلَ لَكَ:فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ وَإِنْ قُلْتَ:جَهِلْتُ، قِيلَ لَكَ: فَمَا كَانَ عُذْرُكَ فِيمَا جَهِلْتَ؟ أَلا تَعَلَّمْتَ؟»(اقتضاء العلم العمل:الخطيب البغدادي تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني قال: وفي إسناده ضعف)
هل يصحّ الإسلام دون صلاة وهل يصحّ دون صيام؟ طبعا لا! هل يصحّ الإسلام دون عمل بقواعده وسننه وتشريعاته في المعاملات وفي التجارة والاقتصاد وفي المواريث والقضاء وفي التربية وفي السياسة؟ طبعا لا! قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن دين الله لن يقيمه إلا من حاطه من جميع جوانبه» فكيف يُزْعمْ حينئذ أنّه لا دخل للإسلام ولا علاقة للإيمان بالله ورسوله بما يجري خارج مساجد الله؟ ما عسى الردّ يكون على السؤال: ما الذي منعكم من تطبيق شرع الله؟ ما الذي يجعلنا نقبل بالفصل بين ديننا ودنيانا؟
أيّها المؤمنون الكرام، إقامة دين الله لن تكون إلاّ متى أحطنا بالإسلام من جميع جوانبه: الإحاطة بالإسلام من جميع جوانبه، في العقيدة والعبادة، في الأخلاق والمعاملات، في السياسة والسلطة، في الرحمة والعدل، في العلم والقضاء، في التجارة والاقتصاد.. لا فصل بين الإسلام والسياسة (فالسياسة من الإسلام)، ولا فصل بين الإسلام والاقتصاد (فالاقتصاد من الإسلام كذلك)، ولا فصل بين الإسلام والتربية (فالتربية من الإسلام أيضًا)... فهل يُعْقل بعد ذلك أن نفصل الإسلام عن الحياة، أو الحياة عن الإسلام؟ أليس الإسلام منهج الحياة؟﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ [طه: 124-126]. فما الذي يدفع البعض اليوم إلى التجزئة بحجّة تحييد المساجد أو الفصل بين الإسلام والسياسة؟ وماذا فعلت هذه الدعوات الجزئية؟ هل أحاطت بالإسلام من جميع جوانبه؟ وماذا حقّقت الدعوة التي جعلت من الإسلام مجرد طقوس وعبادات مفصولة عن الحياة؟ فيم تسبّبت الدعوة الأخرى التي صوّرت الإسلام انقلابًا، وتكفيرًا وتفسيقًا؟ وأين وصلت تلك التي جعلت من الإسلام متونًا تُحفظ، وكتبًا تُدرس، ولا اجتهاد ولا اعتبار لواقع المسلمين ومتغيرات أوضاعهم؟ ما عساها جنت على الأمّة حين جعلت الإسلام فِرَقًا ومذاهب، وليس لنا من الأمر شيء في عالم يموج بفتن عمياء، وحرب صماء، وقصور مشيدة وآبار معطلة، ونساء عاريات، وليال ماجنات؟ أي والله! أليس كلّ ذلك ما نرى مظاهره ونسجّل آثاره في واقعنا اليوم؟ فإن وقع تحييد المسجد عن الخوض في ذلك، وإن صمت الإمام الخطيب عن التنبيه إلى جسامة أخطار هذا الطريق، وإن لم تذكّر الخطب الجُمعية المسلمين بحدود الله وشرعه وبسنّة رسول الله ومنهجه... فكيف سيكون أمر مجتمعنا بعد ذلك؟ وأيّ وضع سيكون عليه ديننا؟ وكيف ستصبح علاقاتنا وقيمنا وتربية أجيالنا القادمة؟ بل عسانا نلاحظ في كلّ ما نراه اليوم؟ ألا يبدو الإسلام غريبا؟ صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء» مسلم. فهل هناك ما هو أكثر غرابة اليوم من دعوات التفرقة بين الإسلام والسياسة تحت غطاء التحييد وغطاء الإسلام الحداثي والإسلام التونسي؟ ألم يعد المتشبّث بدينه اليوم غريبا في نظر الكثير من الناس؟...
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كلّ ذنب فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله عز وجل، أمر بالعدل في الأقوال كما أوجبه في الأحكام والأفعال، فبه ينجو العبد يوم يقف للسؤال﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ﴾(152 الأنعام) أحمده على نعمه الكثيرة، وأستغفره من الذنوب الموبقة الكبيرة، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، جعل كلمة الحق تثمر عملا هاديا، وفقها واعيا، وصلاحا باقيا،وأشهد أنّ سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله خير من دعا إلى الصدق وقول الحق. صلى الله وسلم عليه وعلى آله و أصحابه.
أمّا بعد، فياأيّها المؤمنون الكرام، يقول تعالى في كتابه المبين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾(محمد:8) وقال عزّ من قائل: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ فصلت 33 وماذا تعني الدعوة إلى الله تعالى إن لم تكن هي نفسها الدعوة إلى الالتزام بشرعه وبتعاليم الإسلام ﴿إنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾آل عمران 19؟
توجد الكثير من الدعوات، كما ذكرنا في الخطبة الأولى، وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم السبيل إلى الله حين رسم بيده الكريمة خطوطًا يمنة ويسرة، ثم وضع يده الطاهرة على الخط الأوسط قائلا: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ!!» ثم تلا هذه الآية الكريمة: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه﴾ الأنعام: 153
وتذكّروا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة بمنتهى الدقّة وهي قانون رئيس في بناء أمة الإسلام: "فَإنَّ دِينَ اللَّهِ لَنْ يقيمه إِلاَّ مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ". يعطينا القانون ويعلّمنا قواعد تطبيقه: دين الله نظام شامل، الإسلام عقيدة وعمل وسياسة واقتصاد وتربية...هكذا ينبغي أن يكون بناء الأمّة ومن غير هذه القواعد يستحيل علينا أن نبني الأمة، وبدونها لا تستقيم الدعوة إلى الله وإنّ كلّ دعوة إلى ما يسمّى تحييدا بالمعنى الذي تسوّقه هذه الأطراف أو تلك هي أقرب إلى التفرقة منها إلى التوحيد وباعثة على تجزئة الإسلام والحياد عن السبيل الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه سبيل الله" فهل علينا أن نخالف أوامر الله تعالى من أجل أن يرضى هؤلاء الذين لا همّ لهم سوى إرضاء أهوائهم؟ وكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على درب الحبيب المصطفى غريبًا بين هؤلاء الذين حكّموا أهواءهم؟ لماذا باتت مقولة تحييد المساجد مدخلا للخطابات السياسية اليوم؟ ولماذا تصرّ بعض الأطراف من هذه الجهة أو تلك على اعتبار رأيها الأصوب والأحقّ فأين سبيل الله في كلّ هذا؟ أفلا يجدر بنا الاحتكام إلى أوامر الله تعالى وسنّة نبيّه عليه الصلاة والسلام؟ ففي سنن أبي داود والترمذي -من حديث أبي ثعلبة الخشني- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) (المائدة: 105)، فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوًى متبعًا، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام، فإن من وراءكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله" قلت: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: "أجر خمسين منكم". وهذا الأجر العظيم إنما هو لغربته بين الناس والتمسك بالسنة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم. فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم، غريب في حياته لالتزامه بحدود الله مقابل طاعتهم للهوى، غريب في معاشرته لهم لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم. اسمعوا ما جاء في صحيح مسلم، عن أبي ذرّ في الحديث القدسي: "لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا"مسلم.
عباد الله، أمركم الله بأمر بدأ به بنفسه وثَنّى بملائكته المسبِّحة بقدسه وأيّه بكم أيها المؤمنون فقال جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(56 الأحزاب) اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة وعن صحابته وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين،ويسّر لهم سبل النصر والتمكين وأذلّ الكفرة والمشركين، اللهمّ فرّج عن أمّة محمّد، وأصلح أمّة محمّد، وارحم أمّة محمّد رحمة عامّة، واغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهمّ اشف مرضانا وارحم بفضلك موتانا، اللهم يا ذا الحبل الشديد والأمر الرشيد نسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود، مع المقربين الشهود، الركع السجود الموفين بالعهود. اللهم فرج همّ المهمومين من المسلمين ونفس كرب المكروبين، واقض الدّيْن عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم آمنا في أوطاننا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهمّ انصر الإسلام والمسلمين في كل أرض يذكر فيها اسمك يا ربّ العالمين، وأظهرهم على أعدائك وأعداء الدّين. وقوّهم فيك حتّى لا يروا قويّا غيرك يا قوي يا متين يا ربّ العالمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
تخريج حديث
22:47:35 2018-06-01