بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين أبان الحقائق وأوضح الطرائق فكان صراحة مستقيما وكان هديه قويما ﴿قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾(104 آل عمران). أحمده حمدا لائقا بجلاله.وأشكره شكرا يستدر غزير أفضاله.وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له دعا إلى الالتزام بالحق والعدل في الأقوال والأعمال ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ﴾الشورى 15 وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله التزم العدل في كلّ وقت وحال، وجعله في الفعال والمقال فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾(الحج 41.)
أمّا بعد فيا أيّها المؤمنون الكرام، يقول الحقّ تبارك وتعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾الأعراف181 فما هي الأمّة المقصودة في هذه الآية؟ ولم استحقت التّكريم الإلهي؟... إنّ الأمّة المقصودة في الآية هي أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهي الأمّة الّتي تدين بعقيدة التوحيد (لا إله إلاّ الله) وتتجمّع على آصرتها، وتعتصم بحبل الله.وهي الّتي أثنى القرآن عليها وجعلها خير أمّة فقال عزّ من قائل: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾(آل عمران110)
وما استحقّت هذه الأمّة التكريم الإلهي إلاّ لاتصافها بالحق والعدل ﴿يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ ومن باب أولى وأحرى أن يكون خطاب الحقّ هنا متّجها صوب كلّ المظاهر التي تضرّرت منها الشريعة الإسلامية، حتّى وإن استوجب ذلك مراجعة شاملة لأخطائنا وأخطاء من سبقونا ممّن تولوّا تسيير شؤون المسلمين في مجتمعنا، وفي مجتمعاتنا العربية الإسلامية، ولم يعدلوا بقدر ما عملوا على تحقيق أهداف أساءت إلى الإسلام. ألم يكف ما تعرّض إليه الإسلام قديما، وما يتعرّض إليه في زماننا هذا من تشويه وافتراء في الخارج، ومن أطراف ناقمة وحاقدة من الدّاخل؟ هل قدرنا أن نستسلم لما يمليه أهل السياسة علينا على نحو يلبّي أهواء الجاه والسلطان والمصالح الظرفية الموقوتة، ولا يهمّ بعد ذلك أيّ شيء؟ أصبح الجميع يتحدّثون عن الشأن الديني،وما يجوز في مجاله وما لا يجوز، بل ذهب البعض إلى حدّ تحديد مهام الإمام معتبرا إيّاها داخل حدود المسجد، ولا شأن له بما يجري في الحياة العامّة، مع أنّه لا يفقه للمسجد دورا وأبعد ما يكون عن معرفة دور الإمام ، بل إنّه بصدد نقل صورة الكنيسة كي يلبسها للمسجد وصورة كاهن المعبد ليشخّص من خلاله الإمام. نقول لهؤلاء أخطأتم التقدير وانحرفتم عن الطريق فالإمام ليس بكاهن معبد والمسجد ليس كنيسة، نقول لهؤلاء اسمعوا كلام الله وعُوا، يقول عزّ من قائل:﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران:104).
نقول لهؤلاء: اسمعوا ما جاء في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، اسمعوا وتحقّقوا من موقعكم في المجتمع، تبيّنوا مكانتكم التي وصفها من لا ينطق عن الهوى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ, وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ, وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يَنْطِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ" (ابن ماجه).
ألا نرى اليوم الرويبضة في مجتمعنا؟ ألا ترون أنّ عدد هؤلاء يتزايد إذْ يجد الأرضية مؤاتية ويجد من يسمعه وينخدع بخطابه؟ فيؤلّبون الأوضاع ويشحنون النفوس، كلّ ذلك من أجل ماذا؟ التكالب على السلطان والصراع من أجل مصالح الدنيا الفانية. عباد الله إذا كان من واجب كلّ مسلم ومسلمة أن يقول ويعمل ويحثّ على ما يرضي الله ويضمن طاعته، فلا يخشى في ذلك إلاّ الله سبحانه، وإذا كان هذا شأن المسلم عموما، فما بالكم بالإمام الخطيب وبالواعظ الديني وغيرهما؟ هل ينبغي عليه لزوم الصمت حتى وإن كان قادرا على تنبيه الناس وإرشادهم؟ هل كان الإسلام يوما مفصولا عن عموم الناس؟ الإسلام دين متكامل لا يقبل التجزئة، الإسلام عقيدة وشريعة،يقول الحقّ تبارك وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ الأنعام:162-163 فلماذا يريد البعض أن يبعده عن الحياة العامّة؟ لماذا يعمل هؤلاء على حصر الإسلام داخل جدران المسجد ويعتبر أن لا تأثير لتعاليمه في معاش الناس وفي تدبير شؤونهم العامّة وحياتهم الاجتماعية؟ خرج الأئمّة الخطباء لتنبيه الناس إلى الخطر الذي يهدّد البلاد والعباد، فقال بعض الناس: وما دخل الأئمّة؟ ما الذي جعلهم يغادرون المساجد؟ وما دخلهم في الشأن العام؟
يا أمّة الإسلامِ إنيّ قائـــلٌ ** شيئاً يجـول بخاطـرِ الكتمانِ
هاذي مواطنكم يريدُ خرابهـا ** فريق يكيـدُ مكيدةَ الثعـبانِ
جمعوا سموماً من مكامن حقدهمْ ** متآمريـن تآمـر الشيطـانِ
فإضاعة الحقِّ العظيم خطيئــةٌ ** تُردي إلى الإهلاكِ والخسرانِ
هل على الأئمّة أن يصمتوا عن الحقّ وهو جليّ؟ هل ينحصر دورهم في تقديم دروس حول العبادات وخطب حول الشعائر الدينية؟ هل الخوض في الشأن العام ممنوع على الإمام؟ هل يتكلّم الرويبضة في أمر العامّة ويحجّر ذلك على الأئمّة؟ أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فآستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله عز وجل،أمر بالعدل في الأقوال كما أوجبه في الأحكام والأفعال، فبه ينجو العبد يوم يقف للسؤال ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ﴾(152 الأنعام) أحمده على نعمه الكثيرة،وأستغفره من الذنوب الموبقة الكبيرة،وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له،جعل كلمة الحق تثمر عملا هاديا،وفقها واعيا،وصلاحا باقيا،وأشهد أنّ سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله خير من دعا إلى الصدق وقول الحق ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾الشورى:52-53. صلى الله وسلم عليه وعلى آله و أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد، فيا أيّها المؤمنون الكرام، يقول تعالى في كتابه المبين ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ فصّلت:33 وماذا تعني الدعوة إلى الله تعالى إن لم تكن هي نفسها الدعوة إلى الالتزام بشرعه وبتعاليم الإسلام﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ (آل عمران 19) ؟ هل علينا أن نخالف أوامر الله تعالى من أجل أن يرضى هؤلاء الذين لا همّ لهم سوى إرضاء أهوائهم؟
فلتعلموا عباد الله أنّ من أوكد واجبات الإمام الخطيب التذكير والوعظ وتوعية الناس بما ينفعهم، وبما يتهدد هويتهم ودينهم واستقرارهم، ومن واجبه أيضا الدعوة إلى إقامة العدل بين العباد وفي ربوع البلاد، ومن واجبه أن يشهد على الحقّ وبالحقّ، ومن واجبه أن يوجّه الناس سلوكا وعلاقة وأعمالا وسياسة واقتصادا واجتماعا وممارسات ملتزما في ذلك بشرع الله وبتعاليم الإسلام، هكذا هي الدعوة إلى الله، وهكذا علّمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.اسمعوا غفر الله لي ولكم جميعا قوله تعالى:﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾الأنفال:24 فإلام يدعونا الرسول صلى الله عليه وسلم حسب رأيكم؟ ألا يدعونا إلى شريعة من عند الله، لا تكــــرّس حالة التسلط على أتباعها، ولا تؤسّس للاستبداد والديكتاتورية، بل تعلن تحررَ الإنسان وتكريمَه، ومساواتَه لأخيه الإنسان في القيمة الإنسانيّة؟ ألا تدعونا شريعتنا الإسلامية إلى الالتزام بأوامر الله ونواهيه؟ هل هناك أيّ شريعة وضعية ترقى إلى المعاني الراسخة في شريعتنا الإسلامية التي تدعو الإنسان إلى تحمّل المسؤولية الجزائيّة مثوبةً وعقوبة، وتعلنُ جدارتَه بممارسة الحرية في التعبير والرأي، والمشاركة ِفي الشأن العام، فلا يتحكم فرد في شعب، ولا طبقةٌ في أمة، ولا جنس في جنس، ولكن ينطلق الناس كلهُم أحرارًا متساويين، في ظل شريعة الله ربّ الناس أجمعين. يدعونا الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى منهج كامل للحياة والتفكير والتصور، يتوافق مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً﴾ (الجاثية: 18-19)، هل بعد سماع ذلك يخرج علينا من يتوهّم أنّه يملي على الأئمّة ما يقولون ويفرض عليهم ما لا يرضاه الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم؟ وما الداعي لمطالبة الأئمة بعدم الخوض في مشاكل الحياة الفعلية وفي مشاغل الناس الخاصّة والعامّة؟ فليعلم هؤلاء أنّ ديننا ليس دين كنائس، ولم يكن الإسلام يوما محصورا في المساجد أو بعيدا عن حياة الناس. الإسلام في قلوب الناس وفي سلوكهم وفي معاملاتهم وفي عملهم وفي أفراحهم وفي أحزانهم، الإسلام كلّ لا يتجزّأ ولا يتناقص، هكذا يعيش المؤمن إسلامه وهكذا تكون حياة المسلم، قال تعالى:﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾(آل عمران 173)
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنّ تقوى الله سبيل الخلاص، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾. [الأعراف:201]
عباد الله، أمركم الله بأمر بدأ به بنفسه وثَنََّى بملائكته المسبِّحة بقدسه وأيّه بكم أيها المؤمنون فقال جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(56 الأحزاب) اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر،وارض اللهم عن خلفائه الأربعة وعن صحابته وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين،ويسّر لهم سبل النصر والتمكين وأذلّ الكفرة والمشركين، اللهمّ فرّج عن أمّة محمّد، وأصلح أمّة محمّد،وارحم أمّة محمّد رحمة عامّة،واغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهمّ اشف مرضانا وارحم بفضلك موتانا، اللهم يا ذا الحبل الشديد والأمر الرشيد نسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود، مع المقربين الشهود، الركع السجود الموفين بالعهود. اللهم فرج همّ المهمومين من المسلمين ونفس كرب المكروبين، واقض الدّيْن عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين .اللهم آمنا في أوطاننا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهمّ آنصر الإسلام والمسلمين في كل أرض يذكر فيها اسمك يا ربّ العالمين، وأظهرهم على أعدائك وأعداء الدّين. وقوّهم فيك حتّى لا يروا قويّا غيرك يا قوي يا متين يا ربّ العالمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد