بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يتحدث كتاب التراجم والسير عن صفات بعض مَنْ يترجمون لهم، فيذكرون صفاتٍ منقبيةً كثيرةً.
ومن جملة المناقب خصلةٌ قد تمر على الواحد منها دون أن يلقي لها بالاً.
والحقيقة أنها تستحق الوقوف عندها، واستحضار أن الذي يتصف بها جدير بالثناء، والإجلال؛ لأن اتصافه بتلك الخصلة دليلٌ على حسن السيرة، وكرم العشيرة، وكِبَرِ النفس، وكمالِ العقل، ورعايةِ التذمم، واحتمال المكاره، وترك الاستسلام للأحوال العارضة.
تلكم الخصلة هي (ثبات الود).
والذي يدير النظر في حال كثير من الصداقات يرى أنها لا تدوم طويلاً؛ إذ أكثرها لا يلبث أياماً، أو شهوراً، أو سنين قليلة.
أما العلاقات والصداقات التي تستمر طويلاً فهي شبه نادرة؛ إذ قلما تجد علاقات تصفو، أو تستمر سنوات طويلة، أو تمتد إلى الموت.
ولهذا كان من ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه.
ولا يُحْكِم هذه الخصلة إلا مَنْ قوي إيمانُه، وزكت نفسُه، وكملت مروءته؛ لأن طول المعاشرة، والمجالسة قد يفضي إلى الملامة، وقديماً قيل: لا مروءة لملول.
وقد يفضي إلى بعض التنافس، والتناحر، والتلاحي، والتحاقق، ووجود الجفوة العارضة، وكثرة العتاب وقلة تحمله.
فإذا لم يكن للمرء إيمانٌ يردَعُه، وتقوى تزمُّه، ومروءة تحمله على التعقل وتدبر العواقب _ كانت تلك العلاقة على شفا جرف هارٍ؛ فيوشك أن تنهار، فتصبح أثراً بعد عين.
أما إذا كان الشخص ذا إيمان، وعقل، ومروءة كان حرياً بأن تدوم له صداقاته، وأن يحتفظ بها، وينأى بها عن التداعي.
وهذا ما يفسر لنا طولَ العلاقات وقصرها بين الناس؛ فهم درجات في ثبات الود، وتقلبه، وتلونه.
وهذا ما شكا منه أسامة بن منقذ بقوله:
وما أشكُو تلَوُّنَ أهلِ وُدّي *** ولو أجْدَتْ شَكِيَّتُهم شكوْتُ
مَلِلْتُ عتابَهم ويئستُ منهُم *** فما أرجوهُمُ فيمن رَجوتُ
إذا أدْمَتْ قَوارِصُهُم فؤادي *** كَظَمتُ على أَذَاهم وانطويْتُ
ورُحتُ عليهِمُ طَلْقَ المُحَيَّا *** كأَنّي ما سمِعتُ ولا رأيتُ
تجنَّوْا لِي ذُنوباً ما جنتْها *** يَدايَ ولا أَمرتُ ولا نَهيتُ
ولا واللّهِ ما أضمرتُ غدْراً *** كما قد أظهَروهُ ولا نَويتُ
ويومُ الحشرِ موعدُنا وتَبدُو *** صحيفةُ ما جنَوْهُ وما جنيتُ
وهذا ما يؤكد على ضرورة التمسك بالصداقات وخاصة الفاضلة منها، والعض عليها بالنواجذ، والتثنية عليها بالخناصر.
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة *** ولكن إخوان الثقاتِ الذخائرُ
ومما يعين على ذلك التماس المعاذير، وسعة الأفق، وترك الاستسلام للعوارض النفسية الحاضرة.
ومن ذلك ألا يتغير الإنسان على أصحابه ومحبيه إذا نال كرامة من غنىً، أو منصب، أو جاه، أو نحو ذلك.
وأن يعذر _ في الوقت نفسه _ من تغير عليه بسبب تلك الأمور.
...................... ومن ذا الذي يا عزَّ لا يتغير
وكل ولاية لا بد يوماً *** مغيرة الصديق على الصديق
ومن ذلك أن يحافظ الإنسان على القيام بحقوق الأحبة من نحو السلام، وطريقته، ومن نحو التواصل بأي وسيلة كانت.
ومن ذلك أن يبادر إلى الاعتذار، وتحمل العتاب إن هو قَصَّرَ في شيء من الحقوق.
ومن ذلك معرفةُ طبائع نفوس الأحبة والمعارف، ومعاملتهم بهذا المقتضى.
فهذه الأمور وما جرى مجراها كفيلة بثبات الود، والمحافظة على العلاقات.
والتفريط فيها مؤذنٌ بقطع المودات، وإحلال الجفوة أو العداوات، وأعجز الناس من عجز اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ظفر بهم ثم فرط فيهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد