بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
هذا عنوان مقال كنت كتبته قبل خمسة عشر عاماً، بعد وفاة الإمام العلامة: محمد بن صالح العثيمين رحمه الله الذي وافته المنية يوم الأربعاء 15/10/1421هـ، ولم يتيسر نشره في وقته مع أهميته، فرأيت نشره الآن؛ تذكيراً بجانب مهم من سيرة هذا الإمام الرباني، والعالم المجاهد، الذي طبق علمه الآفاق، واستفاد منه الملايين في أصقاع الأرض القريبة والبعيدة، وبياناً لخصائص المدرسة السلفية الذي يُعد رحمه الله من أكبر روادها ومجدديها في هذا العصر، وما تضمنه المقال من رؤيا عجيبة رأيتها فيه وقت نزع روحه، تغمده الله برحمته، وجعل مثواه الفردوس الأعلى، وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء، وكنت حينذاك في أمريكا رئيساً لقسم الدراسات الإسلامية في معهد العلوم الإسلامية والعربية في واشنطن.
وقبيل وفاته بأسابيع علمت باشتداد مرضه آخر شهر رمضان فسافرت إليه من واشنطن إلى مكة للاطمئنان عليه، واجتهدت في الوصول إليه، ولكني صُدمت باعتذار أولاده بأن وضعه الصحي لا يسمح بدخول زائر عليه، فحزنت واسترجعت، وكان عزائي أني كنت أستطيع سماع صوته المتهدج كل ليلة بعد صلاة التراويح في درس يلقيه عبر مكبر الصوت ويجيب فيه عن الأسئلة المكتوبة للسائلين، وفي إحدى الليالي ظللنا مدة ننتظره كالعادة حتى استبد بنا القلق وأُخبرنا بأن الشيخ لن يستطيع إلقاء درسه تلك الليلة، فخيم الحزن على الجميع، ولما كان من الغد ما صدقنا حين سمعنا صوته وهو يسلم علينا ويعتذر عن درس البارحة لخلل كان في الجهاز!! ولعل أكثر الناس فهموا أن المقصود به خلل في مكبر الصوت، والحقيقة أن المقصود هو مرضه الذي أثر في "جهازه الصحي".
وأترككم مع نص المقال دون تغيير شيء منه إلا إضافةً مهمةً في وسطه وأخرى في آخره وضعتهما بين قوسين، وأترككم مع تلك الرؤيا العجيبة، التي تحقق بعضها وننتظر بإذن الله تحقق بقيتها بما يشفي صدور قوم مؤمنين:
الموت مصيبة، كما قال ربنا سبحانه: (فأصابتكم مصيبة الموت)؛ لأنه يفرق بين الأحباب، ويكدر الأصحاب، ويهدم اللذات، ويشتت الجماعات، ويمنع من استدراك ما فات، والاستعداد لما بعد الممات، ولكن المصيبة تعظم إذا كان الميت عالماً تُرزأ الأمة كلها بموته، وتُثكل بفقده!!
لعمرك ما الرزية فقد مالٍ ولا فرسٌ يموت ولا بعيرُ
ولكن الرزية فقـد شيخٍ يموت بموته خلق كثير
موت العلماء مصيبة كبرى، ورزية عظمى، وثلمة في الإسلام لا تسد، ونقص في الأرض لا يجبر، وفي هذا يقول ربنا تبارك وتعالى: (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) قال بعض المفسرين: نقصها بموت العلماء والصلحاء.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم عظم مصيبة الأمة بموت أئمتها وأعلامها فقال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" متفق عليه.
وبين فضل العلماء وعظيم مكانتهم فقال: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه. فالعلماء هم ورثة الأنبياء في العمل بهذا الدين وحمله وتبليغه للعالمين، والحرص على هداية الناس ونفعهم، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم، والأخذ بأيديهم إلى سبيل الفلاح والريادة، وسِيف النجاة والسعادة.
وقد تتابع موت كبار العلماء، وأئمة الهدى في هذا الزمن المتأخر، فقبل أشهر معدودات مات علم من كبار أعلام الأمة، وجهبذ من جهابذة الزمان، وهو العلامة عبد العزيز بن باز، تغمده الله بواسع رحمته. وما هو إلا زمن يسير حتى لحق به محدث العصر والعالم الرباني: محمد ناصر الدين الألباني، عليه من الله الرحمة والرضوان.
وقبلهما وبعدهما مات عدد ليس بالقليل من أعلام الأمة الكبار، وعلمائها الأطهار، فتضاعف الحزن بموتهم، وانكسرت قلوب المؤمنين لفقدهم، وكان من أعظم العزاء لنا بقاء العالم الجليل، والعلم الشامخ، والإمام الناصح الأمين: محمد بن صالح العثيمين، ولكن يد المنون لم تمهله طويلاً، حتى ألحقته بأسلافه.
والآن وقد غاب هذا النجم، وهوى ذاك العلم، فقد عمّ والله الخطب وطمّ، وتضاعف الحزن والألم، وإن القلب ليحزن، والعين لتدمع، وإنا لفراق شيخنا لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.
ومع شدة مصيبتنا بموت الشيخ فإنا لن نيأس من روح الله، ولن نقنط من رحمته، فالأمة فيها خير كثير ولله الحمد، وهي معطاءة مدرارة، وفيها من العلماء الربانيين، والمجاهدين الصادقين، والطاقات العلمية الواعدة ما يبشر بخير عظيم، إنها أمة كالغيث لا يدرى الخيرُ في أوله أم في آخره، ولا يزال الله يزرع لهذا الدين، ويهيء له العلماء الربانيين، الصادعين بالحق، الذين ينفون عنه تحريف الغالين، وتشدد المتنطعين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وتفريط الفاسقين، ويجددون ما اندرس من أمر الدين، ويكونون مرجعاً للأمة في حل مشكلاتها، والقضاء في معضلاتها، ورفع مكانتها، وحماية حقوقها، ورد الظلم والأذى عنها.
فلا يخلو زمان من قائم لله بحجة، ولا يزال ربنا سبحانه يقيض لهذا الدين من العلماء الأكفاء، والأئمة الفقهاء من يبلغ هذا الدين، وينصح للمسلمين، ويكون مرجعاً للأمة في معرفة دينها، وحل مشكلاتها، وبيان حكم الله تعالى في سائر معاملاتها، كما قال ربنا سبحانه: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[الأحزاب/23]، ووجود هؤلاء الصادقين المصلحين جزء من حفظ الله تعالى لكتابه، حيث يقول: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر:9] فهذا يقتضي حفظ كتابه الكريم في الصدور والسطور، وحفظ السنة النبوية المبينة له، ويقتضي كذلك حفظ العاملين بالوحيين والحاكمين بهما إلى آخر الزمان، وقد بشرنا بذلك نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"، رواه أحمد وغيره وصححه العلائي والسفاريني وابن الوزير وغيرهم، وقال أيضاً: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" حديث صحيح رواه أبوداود والبيهقي والحاكم وغيرهم.
وفي هؤلاء يقول الإمام أحمد رحمه الله في خطبته المشهورة في مقدمة كتابه "الرد على الزنادقة والجهمية": "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانِ فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إلَى الْهُدَى، وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى، وَيُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوْتَى، وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى، فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لِإِبْلِيسٍ قَدْ أَحْيَوْهُ، وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ، فَمَا أَحْسَنَ أَثَرَهُمْ عَلَى النَّاسِ وَمَا أَقْبَحَ أَثَرَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ، يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ، الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ، وَأَطْلَقُوا عَنَانَ الْفِتْنَةِ، فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ، مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ، مُجْمِعُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ، يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ، وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ ؛ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمُضِلِّينَ"، وقد روي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقال عنهم ابن القيم: "فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا)(النساء:59).
ولعل في تتابع موت هؤلاء الأئمة الأعلام بعثاً لهمم العلماء الباقين، وطلاب العلم القادرين، وشحذاً لعزائمهم لأن يحذوا حذو أولئك ويسيروا على منهاجهم في تعلم العلم وتعليمه، والاجتهاد في جمعه وتحصيله، وبذله وإنفاقه، والنصح لله وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأئمة المسلمين وعامتهم.
ومن رحمة الله تعالى بأمة الإسلام، أن طلاب هؤلاء الأعلام منتشرون في كثير من البلدان، وأن تراثهم من كتب وشروح ودروس وفتاوى وأشرطة لا تزال محفوظة باقية، قد اشتملت على علومهم الناصعة، واجتهاداتهم اليانعة، وكلماتهم الجامعة، ومواعظهم الصادقة، وصار بإمكان كل مسلم في كل أصقاع الأرض أن يتتلمذ عليهم، وينهل من معين علمهم، وخاصةً الشيخ ابن عثيمين الذي فطن لهذه النعمة التي يسرها الله لنا في هذا العصر ولم تتيسر لمن كان قبلنا، فكان أحرص الناس على استثمار هذه التقنيات الحديثة، وتوثيق علمه ودروسه وفتاويه عبر التسجيلات الصوتية، فلنحمد الله على هذه النعمة، ولننهل من معينها الصافي، ولنحرص على نشرها وإذاعتها، وتعميم نفعها والاستفادة منها.
وقد تميزت مدرسة هؤلاء الأعلام، وهي في الواقع امتداد لمدرسة الشيخ عبد الرحمن السعدي، ومحمد الأمين الشنقيطي، ومحمد بن إبراهيم، ومحمد بن عبد الوهاب، ومن قبلهم ابن رجب وابن كثير وابن مفلح والشاطبي وابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن قدامة المقدسي، ومن سبقهم من السلف الصالحين، والعلماء الربانيين، رحمة الله عليهم أجمعين، وجعلهم في أعلى عليين، تميزت هذه المدرسة السلفية الربانية بأمور كثيرة هي التي تميز المنهج السلفي الصحيح على مر العصور، وأهمها ما يأتي:
أولاً: العلم الشرعي الأصيل المؤسس على الكتاب والسنة وهدي سلف الأمة.
ثانياً: نقاء العقيدة وصفاؤها، وسلامتها من البدع والمحدثات، والشرك ووسائله، وعنايتها التامة بنشر العقيدة الصحيحة ودحض ما يضادها من العقائد والشبهات الفاسدة المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، وتأكيدهم على أهمية العقيدة ووجوب الاعتناء بها، وتعلمها وتعليمها للخاصة والعامة، لأنها أساس الدين،
والفيصل بين الموحدين والمشركين، والمخلصين والمنافقين، والمهتدين والمبتدعين، وهي سبيل الفلاح والنجاة يوم الدين. فالعقيدة أولاً لو كانوا يعلمون.
ثالثاً: أخذهم بالدليل الشرعي، واعتمادهم عليه في جميع القضايا الشرعية: الاعتقادية والعملية، ونبذهم للتعصب للمذاهب والأحزاب والأشخاص، فالدين عندهم: قال الله، قال رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الصحابة وأتباعهم بإحسان. ومن خالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربوا بقوله عرض الحائط كائناً من كان. ومن قواعدهم المأثورة التي يرددونها كثيراً: لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقوال العلماء يحتج لها ولا يحتج بها، ومن خالف قوله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربنا بقوله عرض الحائط.
وإذا أخطأ أحد العلماء قالوا: فلانٌ نحبّه، ولكن الحق أحب إلينا منه، ونلتمس له العذر في خطئه ولا نتابعه عليه.
رابعاً: الرسوخ في العلم، والتبحر في الفقه، ودقة الفهم، وبعد النظر، وسعة الأفق، وحفظ نصوص الشريعة، ومعرفة مقاصدها ومراميها وحكمها، مما جعلهم مرجعاً للأمة في معرفة أحكام النوازل والحوادث المستجدة، ومعرفة الراجح في المسائل الخلافية الشائكة، والمخرج من الفتن التي تحار فيها العقول، وتزل فيها الأقدام، وتضل فيها الأفهام.
فكان لفتاويهم واجتهاداتهم قبول وتأثير، ولها قوة وعليها نور، لأنها مدعمة بالأدلة الشرعية، والبراهين العقلية، ومنضبطة بالضوابط والقواعد الفقهية، وموافقة للمقاصد والحِكم الشرعية، فلا تأخذ بالشاذ من الأقوال، ولا يستخفها أولوا الجهالة والضلال، ولا تعتمد على التشديد والتغليظ في كل حال، بل هي دائرة مع الشرع حيث دار، يصدق عليها قول سفيان الثوري رحمه الله: "الفقه عندنا: الرخصة من ثقة، أما التشديد فكل أحد يحسنه".
خامساً: حرصهم الشديد على هداية الناس في كل مكان، ونفع المسلمين في جميع الأوطان، وتلمّس حاجاتهم، ومعايشة آلامهم وآمالهم، والاهتمام بشؤونهم، ومناصرة قضاياهم، ومواساتهم بكل ما يملكون من علم ونصيحة وجهد ومال وخدمة وشفاعة حسنة.
وإذا كان الحديث عن الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ فإن جهوده في النصح للمسلمين وتعليمهم، ومواقفه في مناصرة قضاياهم، والاهتمام بشؤونهم وخاصة في بلاد الحروب والكوارث أمر يشهد به القريب والبعيد، ومما يحسن ذكره في هذا المقام، أنني منذ أُوفدت إلى معهد العلوم الإسلامية والعربية في أمريكا وأنا على اتصال مستمر بفضيلته، ولا يكاد يمر أسبوعان أو ثلاثة إلا وأكلمه عبر الهاتف وأعرض عليه بعض المشكلات التي تواجه المسلمين في أمريكا، وأستفتيه فيما يهمهم من مسائل، وكان يبادرني دوماً بالسؤال عن أحوال الإسلام والمسلمين، وعن جهود الدعاة والمصلحين، فإن ذكرت له شيئاً يسر فرح واستبشر ودعا بخير، وإن ذكرت له شيئاً مما يقع فيه بعضهم من جهالات وضلالات، أو ما قد يحصل بين بعضهم من خصومات ومشاحنات، حزن وأسف، وربما بكى، ودعا لهم بالهداية والتوفيق.
وكان يوصيني كثيراً بتقوى الله وبذل غاية الجهد في الدعوة والتعليم، والتربية والتوجيه، وأن أبلغ ذلك لمن أراه من العلماء وطلاب العلم.
وحين كلمته عن شدة حاجة المسلمين في منطقة "واشنطن الكبرى" للمساجد والمراكز الإسلامية، تحمس لذلك كثيراً، وبذل في تحقيق هذه الغاية لدى ولاة الأمر وفقهم الله جهوداً مشكورة، أتمنى أن يرى المسلمون ثمارها في القريب العاجل بإذن الله!!
(هذا ما كتبته وقت إعداد هذا المقال قبل خمسة عشر عاماً، وكنت ذكرت للشيخ قبل وفاته بحوالي سنة شدة حاجة المسلمين إلى مركز إسلامي في منطقة فيرفاكس من ولاية فيرجينيا، وهي ضمن منطقة واشنطن الكبرى، وكنا نسكن فيها، وهي مقر معهد العلوم الإسلامية والعربية قبل إغلاقه بعد ذلك ببضع سنين، وذكرت له أن هناك كنيسة ماسونية ضخمة قد عرضت للبيع بثمن بخس، وفيها ثلاث صالات كبيرة تتسع لأكثر من خمسة عشر ألف مصلٍ، وبيتان كبيران، وقاعات كبيرة للمحاضرات والحفلات وفصول دراسية كثيرة مؤثثة تأثيثاً فاخراً، ومكاتب كثيرة جدا، وأكثر من ثمانية آلاف موقف للسيارات، ومساحة كبيرة تصلح لإقامة مجمع سكني ضخم يكون وقفاً على هذا المركز ونشاطاته، مما سيجعل هذا المكان في حال شرائه أكبر مركز إسلامي في أمريكا، فتحمس الشيخ رحمه الله للمشروع، واشترط علي لكي يسعى في مخاطبة ولاة الأمر في تبنّيه أن أكون أنا المشرف عليه، ولو لسنة واحدة على الأقل، ثم أتابع الإشراف عليه عن بعد حين عودتي للسعودية، وكنت حينها أخبرته بأني عقدت العزم على الرجوع للملكة مع نهاية العام الدراسي بعد بضعة أشهر، وطلب مني تسجيل مؤسسة خيرية حسب القانون الأمريكي تكون مشرفة على هذا المشروع، وتم ولله الحمد تسجيلها في يوم واحد، ثم بدأنا بالتفاوض مع ملاك الكنيسة التي تصل مساحتها إلى حوالي أربعمائة ألف متر مربع وتقع على الطريق السريع الرابط بين واشنطن العاصمة وولاية فيرجينيا ويسمى طريق (50) والمسلمون حولها بعشرات الآلاف، واستطعنا مساومتهم على سعرها الذي كان قبل سنة يقارب الثلاثين مليون دولار فوافقوا على البيع لنا بأحد عشر مليون دولار فقط، بشرط تسليمهم المبلغ كاملاً دفعة واحدة. وخاطب الشيخ رحمه الله الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله وهو من أحرص الناس على إقامة المراكز الإسلامية في بلاد الأقليات وخاصة في الغرب، لكنها مع الأسف حصلت منازعات بين مندوب وزارة الشؤون الإسلامية في واشنطن ومندوب رابطة العالم الإسلامي وإحدى المؤسسات الإسلامية في واشنطن في من هو الأحق بالإشراف على المركز، والشيخ رحمه يصرّ على ألا يكون المركز تابعاً في شؤونه الإدارية والمالية لأيٍ من هذه الجهات، بل يكون مملوكاً لمؤسسة إسلامية أمريكية موثوقة، حتى لا يتأثر بالتجاذبات السياسية التي قد تحصل بين أمريكا والسعودية، وهذا من بعد نظره رحمه الله وحسن سياسته، ولما ذهب معالي أمين عام الرابطة السابق إليه في عنيزة ليقنعه أن يكون هذا المركز الضخم تحت مظلة الرابطة وافق الشيخ على ذلك بشرط ألا يكون للرابطة أي دور في إدارة المركز وأنشطته، وكتب الشيخ ذلك بخط يده على الخطاب الذي سلمه له معاليه، وعندي صورة منه، وكنت أنا والشيخ رحمه الله نرقب ما يحصل بين هذه الجهات ونحن في غاية الحزن على هذا التنازع المقيت الذي يشوبه كثير من حظوظ النفس وحب الاستئثار وقصر النظر، وانتهى هذا التنازع كالعادة بفشل هذا المشروع الكبير وإجهاضه، وكم أتمنى أن يعلم ذلك سمو الأمير عبدالعزيز بن فهد الذي كان مكلفاً من قبل والده رحمه الله بمتابعة هذا المشروع وإنجازه، ولدي ملف كبير حول هذا المشروع والكتابات التي تمت حوله. وأسأل الله أن يصلح حال المسلمين، وأن يعامل من تسبب في إفشاله بعدله، ويجازيه بما يستحق، وحسبنا الله ونعم الوكيل).
هذا بالإضافة إلى حرصه الشديد رحمه الله على التواصل مع المسلمين في أمريكا وأوروبا وغيرهما عبر إجابته على رسائلهم، واستقباله بحفاوة لوفودهم، وعبر الدروس والمحاضرات التي يلقيها عن طريق الهاتف أسبوعياً وشهرياً، وهو أمر يعرفه كل من له اهتمام بالدعوة والنصح للمسلمين في هذه البلدان. وأذكر أني زرته في صيف العام الماضي، وأبديت له امتنان المسلمين في أمريكا وشكرهم الجزيل لفضيلته على هذه المحاضرات التي يخصهم بها على كثرة مشاغله، والتي تنقل إلى ولايات كثيرة في الولايات المتحدة وكندا، فشكر اللهَ على ذلك، وقال: إن هذا من نعم الله على المسلمين في هذا الزمن، حيث تيسرت الأسباب، وتهيئت السبل للتعلم والتفقه في الدين، والتعاون والتواصل بين المسلمين، ثم قال: لقد كان عندي البارحة محاضرة إلى المسلمين في أوروبا نقلت إلى مراكز إسلامية كثيرة في ثمان دول أوروبية.
سادساً: أنهم علماء ربانيون، صادقون مخلصون، تميزوا بالعبادة والزهادة، والورع والعفة، ومراقبة الله تعالى والحرص على رضاه، هكذا نحسبهم، والله حسيبهم، ولا نزكي على الله أحداً، ولهذا فإنهم كانوا قوامين بالقسط، شهداء بالحق، لا يداهنون في دين الله، ولا يخافون في الله لومة لائم، لا من حاكم ولا وجيه، ولا عامي ولا سفيه، وكم تعرضوا بسبب ذلك لإحراجات ومضايقات، واتهامات وانتقادات، فما ضعفوا وما استكانوا، ولم يزدهم ذلك إلا عزة ورفعة، وقبولاً في الأرض ومحبة في قلوب الخلق، ومضوا إلى ربهم ولسان حالهم يقول:
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الوُدُّ فالكل هين وكل ما فوق التراب تراب
سابعاً: الحرص على الوسطية والاعتدال، والحذر الشديد من الغلو والجفاء، والإفراط والتفريط، والحرصُ على حسن الخلق وطيب المعاملة ودماثة المعاشرة، والحث على ذلك مع الكبير والصغير، والقريب والبعيد، والتقي والفاجر، والمسلم والكافر، امتثالاً لأمر الله، ورغبة في إصلاح الخلق، وتأليف قلوبهم على الهدى ودين الحق، فما استجلبت محبة الناس واستميلت قلوبهم وأعينت نفوسهم على الهداية والاستقامة بمثل الإحسان إليهم بالقول والفعل، ومخالقتهم بخلق حسن، ولهذا كان أكمل المؤمنين إيماناً، وأحسنهم إسلاماً، وأرفعهم مقاماً، وأعلاهم منزلةً، وأحبهم إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقربهم منه مجلساً يوم القيامة أحسنهم خلقاً، كما دلت على ذلك النصوص الصريحة الصحيحة من الكتاب والسنة.
هذه بعض ميزات هذه المدرسة السلفية الربانية، ولشيخنا العلامة محمد بن عثيمين نصيب وافر مما ذكر، فقد عاش أربعة وسبعين عاماً أفناها في تعلم العلم وتعليمه، ونشر الخير وتعميمه، بقلمه ولسانه، عبر دروسه ومحاضراته، وخطبه ومواعظه، وفتاويه ولقاءاته، في المدارس والجامعات، وفي الجامع الكبير بعنيزة، وفي الحرمين الشريفين، وفي غيرها من المساجد والمدارس والمعاهد والوزارات المختلفة، وعبر وسائل الإعلام المتنوعة، وعبر الكتب والرسائل العلمية، والفتاوى المكتوبة والشفهية. وأشرطتُه المسجلة تعد بالآلاف. وأما كتبه فقد بلغت قرابة خمسين كتاباً، منها المطول ومنها المختصر. ومن أكبرها: فتاواه التي جمعت في أكثر من أربعين مجلداً، وكتاب "الشرح الممتع على زاد المستقنع" الذي يتوقع أن يبلغ خمسة عشر مجلداً. وقد طرح الله لها القبول، وانتشرت في الآفاق، وانتفع بها خلق كثير من العلماء والعامة.
وكان سر تميز الشيخ مع سعة علمه ودماثة أخلاقه وقربه من الناس: أسلوبه في التعليم وإيصال المعلومات، وإجادته لتحقيق المسائل وترتيبها، وقدرته على شرحها وتسهيلها، بعبارة واضحة وطريقة شائقة، مع حرصه على الحوار والمشاركة، وإحياء الدرس بكثرة الاستفهامات والأسئلة، وإيراد الطرائف والنكات العلمية، والتنبيه على المقاصد والحكم الشرعية، وربط المسائل بقواعدها وأصولها الفقهية، حتى يسهل على الطلاب فهمها واستيعابها، ويسلموا من التناقض والاضطراب، ويدركوا مقاصد التشريع وأهدافه ومراميه. كل ذلك مع سعة صدر وأريحية، وابتسامة صادقة ندية، لا تكاد تفارق محياه، على كثرة الطلاب، وتزاحم الوظائف والأعمال. فرحم الله ابن عثيمين، وتقبله عنده في المهديين، ورفع درجاته في عليين، وجزاه عنا وعن المسلمين خير ما يجزي به عباده الصالحين، وجمعنا به في جنات النعيم. اللهم آمين.
ولقد رأيت في الشيخ ـ رحمه الله ـ قبيل وفاته بساعات معدودات، رؤيا عجيبة فيها عزاء وبشرى لكل مسلم. وكان ذلك في آخر ليلة الأربعاء قبيل الفجر بساعة تقريباً، بتوقيت واشنطن، وبعد صلاة الظهر في المملكة، وهي الساعة التي بدأ رحمه الله يُحتضر فيها، ثم صعدت روحه لباريها عصر ذلك اليوم.
رأيت في المنام وكأني سافرت إلى السعودية من أجل زيارة الشيخ والاطمئنان على صحته، كما فعلت في آخر رمضان، واتجهت إلى بيته الذي أعرفه، ولما وصلت إلى مكان البيت إذا أنا بقصر لم أر مثله من قبل، ولا أكاد أصف جماله وفخامته، واتساعه وضخامته، وما فيه الأنوار والزخارف والشرفات، فعرفت أنه بيت الشيخ الجديد، فدخلت من البوابة الخارجية، وكانت واسعة فخمة، واتجهت على أرضية من الرخام النفيس نحو مدخل القصر الداخلي والذي يبعد عن البوابة الخارجية حوالي مائة متر، ولما وصلت المدخل ووضعت قدمي اليمنى على العتبة الأولى رفعت بصري فإذا أنا بالشيخ واقف بالباب وهو ينظر إلي ويبتسم، ووجهه يتهلل بالبشر والسرور، وهو في غاية الشباب والقوة، وقامته أطول من قامته المعهودة، فلما تأكدت أنه الشيخ لم أصدق ما أرى، وانفجرت بالبكاء من شدة الفرح، وانكببت على الشيخ أعانقه وألتزمه، وهو يضمني بيديه، فلما هدأت، قلت له: يا شيخ ما أعظم الفرق بين حالك الآن وحالك يوم أتيتك في رمضان!! فقال رحمه الله: هذا من فضل ربي، ثم أمسك بيدي واتجهنا خارج القصر وكأنه يقول لي: تعال لأريك شيئاً. فلما خرجنا من القصر إذا نحن في مكة المكرمة، نطل من مكان مرتفع على المسجد الحرام والكعبة المشرفة، وما كدت أملأ ناظريّ من الكعبة حتى فوجئت بعدد كبير من المجنزرات تهدم في البيوت والمباني المحيطة بالحرم من جميع الجهات، ومنها واحدة ما رأيت مثلها في ضخامتها وكثرة جنازيرها وسرعة هدمها لما تمر عليه من بيوت وغيرها. ورأيت في الجهة الشمالية من الحرم مجنزرات أخرى تهدم المباني وتقلع النخيل وتسوي المزارع، فاستغربت مما رأيت، والتفت إلى الشيخ كأني أستخبره ما الأمر؟ فوجدته فرحاً مستبشراً وهو يبتسم، فقال لي: إن هذه توسعة جديدة للحرم أكبر بكثير من التوسعات السابقة، فسُرّي عني وشعرت بسعادة غامرة لما سمعت، ثم أمسك بيدي وأخذنا نسير فوق الركام ومخلفات البيوت ونحن في غاية السرور والابتهاج، ثم قال لي الشيخ وهو يشير بيده جهة الشرق: انظر مقدار التوسعة هنا، فأنظر فلا أرى لها نهاية وأنا وإياه نكبر الله ونلهج بحمده وشكره، فرحين مستبشرين، ثم قال لي: وانظر مقدارها من هنا وهنا وهناك، وما ننظر إلى جهة حتى ينقطع نظرنا دون رؤية مداها. ثم رجعنا إلى قصر الشيخ ولما ولجنا داخل القصر اتجهنا وهو لا يزال ممسكاً بيدي إلى المجلس الرئيس في القصر، وفيه من الفرش الوثيرة، والنمارق المصفوفة، والزرابي المبثوثة، والأراكي الجميلة ما لا أقدر على وصفه، فدخل الشيخ وجلس في صدر المجلس مقابل الباب، واتجهت أنا لأصلح شيئاً للشيخ، وأنا فرِحٌ جذلان، وبدأت من شدة فرحي برؤية الشيخ أنظم قصيدة في مدحه وذكر مناقبه، وشكر الله تعالى على أن منّ علينا بشفائه ومعافاته. ولما وصلت إلى نهاية الشطر الثالث، وأذكر منه".. فأنت نورٌ على نورِ" أو: "أبشر بنور على نور" التفتُّ إلى الشيخ، وإذا به يستمع إلي وأنا لا أدري، وهو يضحك مسروراً معجباً، فتركت ما بيدي واتجهت إليه وأنا أقول له: والله إنك لأفضل مما ذكرت، ويا ليتني كنت شاعراً فحلاً حتى أوفيك حقك. أو كلمة نحوها. ثم استيقظت قبل أن أدخل عليه.
وقد وقع في قلبي تأويلها في الحال، وعرفت أن رؤية الشيخ على تلك الحال الطيبة بعد ذلك المرض المضني، معناها موته وحسن خاتمته وعاقبته إن شاء الله، وأما تلك التوسعة للحرم فأولتها ـ والله أعلم بالصواب ـ أن المراد بذلك انتشار الإسلام واتساع رقعته، وعز المسلمين وصلاح أمرهم؛ لأن الحرم هو قبلة المسلمين كلهم وهو القاسم المشترك بينهم، وهذه التوسعة الكبيرة وفرحنا بها دليل على ذلك إن شاء الله.
(هذا ما فسرتها به في ذلك الوقت، ولعل من معانيها كذلك هذه التوسعة المذهلة التي وفق الله لها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز تغمده الله بواسع رحمته، وجعلها في موازين حسناته، وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء)
هذا وأسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويجعل عاقبة أمرنا رشداً، ويغفر لأحيائنا وأمواتنا، ويجزي مشايخنا عنا خير ما يجزي محسناً على إحسانه، وعالماً عن أمته، وألا يحرمنا أجرهم، ولا يضلنا بعدهم. إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
وداعاً ابن عثيمين
18:18:36 2015-10-09