مُقَدِّمة (القراءات) من تفسير التحرير والتنوير للعلّامة محمد الطاهر ابن عاشور


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

بدأ الشيخ العلّامة محمد الطاهر ابن عاشور (ت1393هـ) تفسيره الذي سَمّاه: "تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد" بمقدِّمات تأصيلية مهمّة، لا يستغني عنها راغب التحقيق وطالب الفائدة، وخَصَّ "علم القراءات" بمقدِّمة جاءت في ثلاث عشرة صفحة، وقد استحسنتُ إفرادها لتسهلَ قراءتها، ويعمَّ الانتفاع بها، والله الموفِّق.

قال رحمه الله:

الْمُقَدِّمَةُ السَّادِسَةُ فِي الْقِرَاءَاتِ:

لَوْلَا عِنَايَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِذِكْرِ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ حَتَّى فِي كَيْفِيَّاتِ الْأَدَاءِ، لَكُنْتُ بِمَعْزِلٍ عَنِ التَّكَلُّمِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ عِلْمَ الْقِرَاءَاتِ عِلْمٌ جَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ قَدْ خُصَّ بِالتَّدْوِينِ وَالتَّأْلِيفِ وَقَدْ أَشْبَعَ فِيهِ أَصْحَابُهُ وَأَسْهَبُوا بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ مَزِيدٌ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُنِي بِمَحَلِّ الِاضْطِرَارِ إِلَى أَنْ أُلْقِيَ عَلَيْكُمْ جَمُلًا فِي هَذَا الْغَرَضِ تَعْرِفُونَ بِهَا مِقْدَارَ تَعَلُّقِ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ بِالتَّفْسِيرِ، وَمَرَاتِبَ الْقِرَاءَاتِ قُوَّةً وَضَعْفًا؛ كَيْ لَا تَعْجَبُوا مِنْ إِعْرَاضِي عَنْ ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ فِي أَثْنَاءِ التَّفْسِيرِ .

أَرَى أَنَّ لِلْقِرَاءَاتِ حَالَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالتَّفْسِيرِ بِحَالٍ، وَالثَّانِيَةُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهِ مِنْ جِهَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ .

أَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى: فَهِيَ: اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي وُجُوهِ النُّطْقِ بِالْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ كَمَقَادِيرِ الْمَدِّ وَالِإِمَالَاتِ وَالتَّخْفِيفِ وَالتَّسْهِيلِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْجَهْرِ وَالْهَمْسِ وَالْغُنَّةِ ، مِثْلَ (عَذَابِي) بِسُكُونِ الْيَاءِ وَ (عَذَابِيَ) بِفَتْحِهَا، وَفِي تَعَدُّدِ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ مِثْلَ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ بِفَتْحِ لَامِ (يَقُولُ) وَضَمِّهَا، وَنَحْوَ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ بِرَفْعِ الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ أَوْ فَتْحِهَا أَوْ رَفْعِ بَعْضٍ وَفَتْحِ بَعْضٍ، وَمَزِيَّةُ الْقِرَاءَاتِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ عَائِدَةٌ إِلَى أَنَّهَا حَفِظَتْ عَلَى أَبْنَاءِ الْعَرَبِيَّةِ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ غَيْرُهَا وَهُوَ تَحْدِيدُ كَيْفِيَّاتِ نُطْقِ الْعَرَبِ بِالْحُرُوفِ فِي مَخَارِجِهَا وَصِفَاتِهَا وَبَيَانِ اخْتِلَافِ الْعَرَبِ فِي لَهَجَاتِ النُّطْقِ بِتَلَقِّي ذَلِكَ عَنْ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ، وَهَذَا غَرَضٌ مُهِمٌّ جِدًّا لَكِنَّهُ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالتَّفْسِيرِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي اخْتِلَافِ مَعَانِي الْآيِ ، وَلَمْ أَرَ مَنْ عَرَفَ لِفَنِّ الْقِرَاءَاتِ حَقَّهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَفِيهَا أَيْضًا سَعَةٌ مِنْ بَيَانِ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَهِيَ لِذَلِكَ مَادَّةٌ كُبْرَى لِعُلُومِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ .

فَأَئِمَّةُ الْعَرَبِيَّةِ لَمَّا قَرَءُوا الْقُرْآنَ قَرَأُوهُ بِلَهَجَاتِ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فِي الْأَمْصَارِ الَّتِي وُزِّعَتْ عَلَيْهَا الْمَصَاحِفُ: الْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَالْكُوفَةِ، وَالْبَصْرَةِ، وَالشَّامِ، قِيلَ وَالْيَمَنِ وَالْبَحْرَيْنِ، وَكَانَ فِي هَذِهِ الْأَمْصَارِ قُرَّاؤُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ قَبْلَ وُرُودُ مُصْحَفِ عُثْمَانَ إِلَيْهِمْ فَقَرَأَ كُلُّ فَرِيقٍ بِعَرَبِيَّةِ قَوْمِهِ فِي وُجُوهِ الْأَدَاءِ، لَا فِي زِيَادَةِ الْحُرُوفِ وَنَقْصِهَا، وَلَا فِي اخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ دُونَ مُخَالَفَتِهِ مُصْحَفَ عُثْمَانَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَارِئُ الْوَاحِدُ قَدْ قَرَأَ بِوَجْهَيْنِ لِيُرِيَ صِحَّتَهُمَا فِي الْعَرَبِيَّةِ قَصْدًا لِحِفْظِ اللُّغَةِ مَعَ حِفْظِ الْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ بِهَا ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنِ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ اخْتِيَارًا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا يَقَعُ فِي كِتَابَيِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ نَقْدِ بَعْضِ طُرُقِ الْقُرَّاءِ، عَلَى أَنَّ فِي بَعْضِ نَقْدِهِمْ نَظَرًا، وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقِرَاءَةَ بِالْإِمَالَةِ مَعَ ثُبُوتِهَا عَنِ الْقُرَّاءِ، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ مُقْرِئِ الْمَدِينَةِ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ وَرْشٍ عَنْهُ وَانْفَرَدَ بِرِوَايَتِهِ أَهْلُ مِصْرَ، فَدَلَّتْ كَرَاهَتُهُ عَلَى أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْقَارِئَ بِهَا مَا قَرَأَ إِلَّا بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ ، يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ "طسينَ مِيمُ" بِفَتْحِ النُّونِ مِنْ "طسين" وَضَمِّ الْمِيمِ الْأَخِيرَةِ كَمَا يُقَالُ هَذَا مَعْدِ يكَرِبُ اهـ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ.

قُلْتُ: وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ مَا دَامَتْ كَلِمَاتُ الْقُرْآنِ وَجُمَلُهُ مَحْفُوظَةً عَلَى نَحْوِ مَا كُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَّا نَفَرًا قَلِيلًا شَذُّوا مِنْهُمْ، كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّ عُثْمَانَ لَمَّا أَمَرَ بِكَتْبِ الْمُصْحَفِ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَثْبَتَهُ كُتَّابُ الْمُصْحَفِ، رَأَى أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَتَرْكِ قِرَاءَاتِ مَا خَالَفَهُ، وَجَمَعَ جَمِيعَ الْمَصَاحِفِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ وَأَحْرَقَهَا وَوَافَقَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا فَعَلَهُ.

قَالَ شَمْسُ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ تَفْسِيرِهِ: كَانَ عَلِيٌّ طُولَ أَيَّامِهِ يَقْرَأُ مُصْحَفَ عُثْمَانَ وَيَتَّخِذُهُ إِمَامًا.

وَقُلْتُ: إِنَّمَا كَانَ فِعْلُ عُثْمَانَ إِتْمَامًا لِمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ جَمْعِهِ الْقُرْآنَ الَّذِي كَانَ يُقْرَأُ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ، وَأَنَّ عُثْمَانَ نَسَخَهُ فِي مَصَاحِفَ لِتُوَزَّعَ عَلَى الْأَمْصَارِ، فَصَارَ الْمُصْحَفُ الَّذِي كُتِبَ لِعُثْمَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ قِرَاءَةٍ تُوَافِقُهُ وَصَارَ مَا خَالَفَهُ مَتْرُوكًا بِمَا يُقَارِبُ الْإِجْمَاعَ .

قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: كَانَتْ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاحِدَةً، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ الَّتِي قَرَأَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِبْرِيلَ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، وَيُقَالُ إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ شَهِدَ الْعَرْضَةَ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَى جِبْرِيلَ اهـ وَبَقِيَ الَّذِينَ قَرَأُوا قِرَاءَاتٍ مُخَالِفَةً لِمُصْحَفِ عُثْمَانَ يَقْرَأُونَ بِمَا رَوَوْهُ لَا يَنْهَاهُمْ أَحَدٌ عَنْ قِرَاءَتِهِمْ وَلَكِنْ يَعُدُّونَهُمْ شُذَّاذًا وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكْتُبُوا قِرَاءَتَهُمْ فِي مَصَاحِفَ بَعْدَ أَنْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى مُصْحَفِ عُثْمَانَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى "وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ" عَنْ مُجَاهِدٍ وَفِي الْكَشَّافِ وَالْقُرْطُبِيِّ - قَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ "وَطَلْعٍ مَنْضُودٍ" بِعَيْنٍ فِي مَوْضِعِ الْحَاءِ، وَقَرَأَ قَارِئٌ بَيْنَ يَدَيْهِ "وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ" فَقَالَ: وَمَا شَأْنُ الطَّلْحِ؟ إِنَّمَا هُوَ "وَطَلْعٍ" وَقَرَأَ "لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ" فَقَالُوا أَفَلَا نُحَوِّلُهَا؟ فَقَالَ إِنَّ آيَ الْقُرْآنِ لَا تُهَاجُ الْيَوْمَ وَلَا تُحَوُّلُ، أَيْ لَا تُغَيَّرُ حُرُوفُهَا وَلَا تُحَوَّلُ عَنْ مَكَانِهَا فَهُوَ قَدْ مَنَعَ مِنْ تَغْيِيرِ الْمُصْحَفِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي رَوَاهَا، وَمِمَّنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِمْ قِرَاءَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِمُصْحَفِ عُثْمَانَ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، إِلَى أَنْ تَرَكَ النَّاسُ ذَلِكَ تَدْرِيجًا.

ذَكَرَ الْفَخْرُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ مِنْ سُورَةِ النُّورِ أَنَّ سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أُمِّي تَقْرَأُ "إِذْ تَثْقَفُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ" وَكَانَ أَبُوهَا يَقْرَأُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ شَذَّتْ مَصَاحِفُ بَقِيَتْ مَغْفُولًا عَنْهَا بِأَيْدِي أَصْحَابِهَا، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ صَاحِبَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كَانَ لَهُ مُصْحَفٌ دَفَنَهُ فِي مُدَّةِ الْحَجَّاجِ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ لِأَنَّهُ كَانَ مُخَالِفًا لِلْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، وَقَدْ أَفْرَطَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَوْهِينِ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ لِمُخَالَفَتِهَا لِمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ النُّحَاةُ وَذَلِكَ مِنْ إِعْرَاضِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَسَانِيدِ.

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْقِرَاءَاتِ وَالْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كُلَّ قِرَاءَةٍ وَافَقَتْ وَجْهًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَوَافَقَتْ خَطَّ الْمُصْحَفِ أَيْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ وَصَحَّ سَنَدُ رَاوِيهَا; فَهِيَ قِرَاءَةٌ صَحِيحَةٌ لَا يَجُوزُ رَدُّهَا، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ تَوَاتُرَهَا تَبَعٌ لِتَوَاتُرِ الْمُصْحَفِ الَّذِي وَافَقَتْهُ وَمَا دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ شَاذٌّ، يَعْنِي وَأَنَّ تَوَاتُرَ الْمُصْحَفِ نَاشِئٌ عَنْ تَوَاتُرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي كُتِبَتْ فِيهِ .

قُلْتُ: وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ، هِيَ شُرُوطٌ فِي قَبُولِ الْقِرَاءَةِ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُتَوَاتِرَةٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنْ كَانَتْ صَحِيحَةَ السَّنَدِ إِلَى النَّبِيِّ وَلَكِنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ التَّوَاتُرِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ فَهِيَ غَنِيَّةٌ عَنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ لِأَنَّ تَوَاتُرَهَا يَجْعَلُهَا حُجَّةً فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَيُغْنِيهَا عَنِ الِاعْتِضَادِ بِمُوَافَقَةِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ جَمْعًا مِنْ أَهْلِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ قَرَءُوا قَوْلَهُ تَعَالَى "وَمَاهُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ" بِظَاءٍ مُشَالَةٍ أَيْ بِمُتَّهَمٍ، وَقَدْ كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ كُلِّهَا بِالضَّادِ السَّاقِطَةِ .

عَلَى أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ صَنَّفَ كِتَابَ "الْحُجَّةِ لِلْقِرَاءَاتِ"، وَهُوَ مُعْتَمَدٌ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ وَقَدْ رَأَيْتُ نُسْخَةً مِنْهُ فِي مَكَاتِبِ الْآسِتَانَةِ.

فَالْقِرَاءَاتُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا تُفِيدُ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَالْمُرَادُ بِمُوَافَقَةِ خَطِّ الْمُصْحَفِ مُوَافَقَةُ أَحَدِ الْمَصَاحِفِ الْأَئِمَّةِ الَّتِي وَجَّهَ بِهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ إِذْ قَدْ يَكُونُ اخْتِلَافٌ يَسِيرٌ نَادِرٌ بَيْنَ بَعْضِهَا، مِثْلَ زِيَادَةِ الْوَاوِ فِي وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ فِي مُصْحَفِ الْكُوفَةِ وَمِثْلَ زِيَادَةِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فِي سُورَةِ الشُّورَى "وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا - أَوْ إِحْسَانًا" فَذَلِكَ اخْتِلَافٌ نَاشِئٌ عَنِ الْقِرَاءَةِ بِالْوَجْهَيْنِ بَيْنَ الْحُفَّاظِ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الْقُرْآنَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَهُ نَاسِخُو الْمُصْحَفِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ فَلَا يُنَافِي التَّوَاتُرَ إِذْ لَا تَعَارُضَ، إِذَا كَانَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ قَدْ نَطَقَ بِمَا نَقَلَهُ عَنْهُ النَّاقِلُونَ فِي زَمَانَيْنِ أَوْ أَزْمِنَةٍ، أَوْ كَانَ قَدْ أُذِنَ لِلنَّاقِلِينَ أَنْ يَقْرَءُوا بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ أَوِ الْأَلْفَاظِ، وَقَدِ انْحَصَرَ تَوَفُّرُ الشُّرُوطِ فِي الرِّوَايَاتِ الْعَشْرِ لِلْقُرَّاءِ وَهُمْ، نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ الْمَدَنِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ الْمَكِّيُّ، وَأَبُو عَمْرٍو الْمَازِنِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الدِّمَشْقِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ الْكُوفِيُّ، وَحَمْزَةُ بْنُ حَبِيبٍ الْكُوفِيُّ، وَالْكِسَائِيُّ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ الْكُوفِيُّ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ الْمَدَنِيُّ، وَخَلَفٌ الْبَزَّارُ (بِزَايٍ فَأَلِفٌ فَرَاءٌ مُهْمَلَةٌ) الْكُوفِيُّ، وَهَذَا الْعَاشِرُ لَيْسَتْ لَهُ رِوَايَةٌ خَاصَّةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ قِرَاءَةً تُنَاسِبُ قِرَاءَاتِ أَئِمَّةِ الْكُوفَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ قِرَاءَاتِ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ إِلَّا قَلِيلًا، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَجْعَلُ قِرَاءَةَ ابْنِ مُحَيْصِنٍ وَالْيَزِيدِيِّ وَالْحَسَنِ، وَالْأَعْمَشِ، مَرْتَبَةً دُونَ الْعَشْرِ، وَقَدْ عَدَّ الْجُمْهُورُ مَا سِوَى ذَلِكَ شَاذًّا لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ بِتَوَاتُرِ حُفَّاظِ الْقُرْآنِ .

وَالَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، أَنَّ مَا دُونَ الْعَشْرِ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهِ وَلَا أَخْذُ حُكْمٍ مِنْهُ لِمُخَالَفَتِهِ الْمُصْحَفَ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ مَا تَوَاتَرَ، فَكَانَ مَا خَالَفَهُ غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ فَلَا يَكُونُ قُرْآنًا، وَقَدْ تُرْوَى قِرَاءَاتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ مِثْلَ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَضْرَابِهِمَا إِلَّا أَنَّهَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ مَنْ سَمِعَهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِرَاءَةُ بِهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَوَاتِرَةِ النَّقْلِ فَلَا يُتْرَكُ الْمُتَوَاتِرُ لِلْآحَادِ وَإِذَا كَانَ رَاوِيهَا قَدْ بَلَغَتْهُ قِرَاءَةٌ أُخْرَى مُتَوَاتِرَةٌ تُخَالِفُ مَا رَوَاهُ وَتَحَقَّقَ لَدَيْهِ التَّوَاتُرُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ بِالْمَرْوِيَّةِ تَوَاتُرًا، وَقَدِ اصْطَلَحَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنْ يُطْلِقُوا عَلَيْهَا قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُنْتَسِبَةٍ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الرِّوَايَةِ فِي الْقِرَاءَاتِ، وَيَكْثُرُ ذِكْرُ هَذَا الْعُنْوَانِ فِي تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَفِي الْكَشَّافِ وَفِي الْمُحَرَّرِ الْوَجِيزِ لِعَبْدِ الْحَقِّ بْنِ عَطِيَّةَ، وَسَبَقَهُمْ إِلَيْهِ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي، فَلَا تَحْسَبُوا أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِنِسْبَتِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا وَحْدَهَا الْمَأْثُورَةُ عَنْهُ، وَلَا تَرْجِيحَهَا عَلَى الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةَ قَدْ رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسَانِيدَ أَقْوَى وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي إِطْلَاقُ وَصْفِ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يُوهِمُ مَنْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ أَنَّ غَيْرَهَا لَمْ يَقْرَأْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى تَبَجُّحِ أَصْحَابِ الرِّوَايَةِ بِمَرْوِيَّاتِهِمْ .

وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي حُرُوفِ الْكَلِمَاتِ مِثْلَ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وَ (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وَ (نَنْشُرُهَا) وَ نُنْشِزُهَا وَ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا بِتَشْدِيدِ الذَّالِ أَوْ قَدْ كُذِبُوا بِتَخْفِيفِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْحَرَكَاتِ الَّذِي يَخْتَلِفُ مَعَهُ مَعْنَى الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ قَرَأَ نَافِعٌ بِضَمِّ الصَّادِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِكَسْرِ الصَّادِ، فَالْأُولَى بِمَعْنَى يَصُدُّونَ غَيْرَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ ، وَالثَّانِيَةُ بِمَعْنَى صُدُودِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَاصِلٌ مِنْهُمْ، وَهِيَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَهَا مَزِيدُ تَعَلُّقٍ بِالتَّفْسِيرِ لِأَنَّ ثُبُوتَ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ فِي قِرَاءَةٍ قَدْ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْ نَظِيرِهِ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، أَوْ يُثِيرُ مَعْنًى غَيْرَهُ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَاتِ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ يُكْثِرُ الْمَعَانِيَ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ نَحْوَ "حَتَّى يَطَّهَّرْنَ" بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَالْهَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَبِسُكُونِ الطَّاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ مُخَفَّفَةً، وَنَحْوَ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ وَ (لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ) وَقِرَاءَةِ (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا) مَعَ قِرَاءَةِ "الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ"، وَالظَّنُّ أَنَّ الْوَحْيَ نَزَلَ بِالْوَجْهَيْنِ وَأَكْثَرَ، تَكْثِيرًا لِلْمَعَانِي إِذَا جَزَمْنَا بِأَنَّ جَمِيعَ الْوُجُوهِ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ هِيَ مَأْثُورَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا يَحْتَمِلُ تِلْكَ الْوُجُوهِ مُرَادًا لِلَّهِ تَعَالَى لِيَقْرَأَ الْقُرَّاءُ بِوُجُوهٍ فَتَكْثُرَ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ الْمَعَانِي، فَيَكُونُ وُجُودُ الْوَجْهَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي مُخْتَلِفِ الْقِرَاءَاتِ مُجْزِئًا عَنْ آيَتَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَهَذَا نَظِيرُ التَّضْمِينِ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ، وَنَظِيرُ التَّوْرِيَةِ وَالتَّوْجِيهِ فِي الْبَدِيعِ، وَنَظِيرُ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، وَهُوَ مِنْ زِيَادَةِ مُلَاءَمَةِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ كَانَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقُرْآنِ قَدْ يَكُونُ مَعَهُ اخْتِلَافُ الْمَعْنَى; وَلَمْ يَكُنْ حَمْلُ أَحَدِ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى مُتَعَيِّنًا وَلَا مُرَجَّحًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي كِتَابِ الْحُجَّةِ أَنَّهُ يَخْتَارُ حَمْلَ مَعْنَى إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى مَعْنَى الْأُخْرَى، وَمِثَالُ هَذَا قَوْلُهُ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ قَوْلَهُ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ، وَقِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ (فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) بِإِسْقَاطِ (هُوَ) أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ "هُوَ" يَحْسُنُ أَنْ يَعْتَبِرَهُ ضَمِيرَ فَصْلٍ لَا مُبْتَدَأً، لِأَنَّهُ [ص: 56] لَوْ كَانَ مُبْتَدَأً لَمْ يَجُزْ حَذْفُهُ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى تَوَافُقِ الْقِرَاءَتَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قِرَاءَتَانِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لِكُلٍّ مِنْهُمَا تَوْجِيهٌ يُخَالِفُ الْآخَرَ، كَقِرَاءَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ بِضَمِّ التَّاءِ أَوْ سُكُونِهَا. وَأَنَا أَرَى أَنَّ عَلَى الْمُفَسِّرِ أَنْ يُبَيِّنَ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ لِأَنَّ فِي اخْتِلَافِهَا تَوْفِيرًا لِمَعَانِي الْآيَةِ غَالِبًا فَيَقُومُ تَعَدُّدُ الْقِرَاءَاتِ مَقَامَ تَعَدُّدِ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ.

وَهَذَا يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَاتِ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: اقْرَأْ يَا هِشَامُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ " كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ"، ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ "كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ" اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ يَرْجِعُ إِلَى اعْتِبَارَيْنِ :

أَحَدُهُمَا: اعْتِبَارُ الْحَدِيثِ مَنْسُوخًا، وَالْآخَرُ: اعْتِبَارُهُ مُحْكَمًا. ف

َأَمَّا الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْحَدِيثَ مَنْسُوخًا وَهُوَ رَأْيُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَالطَّبَرِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ، وَيُنْسَبُ إِلَى ابْنِ عُيَيْنَةَ وَابْنِ وَهْبٍ قَالُوا: كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ أَبَاحَ اللَّهُ لِلْعَرَبِ أَنْ يَقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُغَاتِهِمُ الَّتِي جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِاسْتِعْمَالِهَا، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِحَمْلِ النَّاسِ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ لِأَنَّهَا الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَزَالَ الْعُذْرُ لِكَثْرَةِ الْحِفْظِ وَتَيْسِيرِ الْكِتَابَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ دَامَتِ الرُّخْصَةُ مُدَّةَ حَيَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ ذَلِكَ نُسِخَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِمَّا نُسِخَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ أَوْ بِوِصَايَةٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ عُمَرَ: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، وَبِنَهْيِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنْ يَقْرَأَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ فِي  حَتَّى)، وَبِقَوْلِ عُثْمَانَ لِكُتَّابِ الْمَصَاحِفِ: فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي حَرْفٍ فَاكْتُبُوهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، يُرِيدُ أَنَّ لِسَانَ قُرَيْشٍ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى الْقُرْآنِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّهُ نَزَلَ بِمَا نَطَقُوا بِهِ مِنْ لُغَتِهِمْ وَمَا غَلَبَ عَلَى لُغَتِهِمْ مِنْ لُغَاتِ الْقَبَائِلِ إِذْ كَانَ عُكَاظٌ بِأَرْضِ قُرَيْشٍ وَكَانَتْ مَكَّةُ مَهْبِطَ الْقَبَائِلِ كُلِّهَا .

 

وَلَهُمْ فِي تَحْدِيدِ مَعْنَى الرُّخْصَةِ بِسَبْعَةِ أَحْرُفٍ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :

الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْرُفِ الْكَلِمَاتُ الْمُتَرَادِفَةُ لِلْمَعْنَى الْوَاحِدِ، أَيْ أُنْزِلَ بِتَخْيِيرِ قَارِئِهِ أَنْ يَقْرَأَهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي يَحْضُرُهُ مِنَ الْمُرَادِفَاتِ تَسْهِيلًا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُحِيطُوا بِالْمَعْنَى. وَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ فَقِلَ : الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ حَقِيقَةُ الْعَدَدِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فَيَكُونُ تَحْدِيدًا لِلرُّخْصَةِ بِأَنْ لَا يَتَجَاوَزَ سَبْعَةَ مُرَادِفَاتٍ أَوْ سَبْعَ لَهَجَاتٍ أَيْ مِنْ سَبْعِ لُغَاتٍ; إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ غَيْرُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي كَلِمَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ لَهَا سِتَّةُ مُرَادِفَاتٍ أَصْلًا، وَلَا فِي كَلِمَةٍ أَنْ يَكُونَ فِيهَا سَبْعُ لَهَجَاتٍ إِلَّا كَلِمَاتٍ قَلِيلَةً مِثْلَ أُفٍّ - وَجِبْرِيلَ وَأَرْجِهْ.

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ اللُّغَاتِ السَّبْعِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَالْبَاقِلَّانِيُّ هِيَ مِنْ عُمُومِ لُغَاتِ الْعَرَبِ وَهُمْ: قُرَيْشٌ، وَهُذَيْلٌ، وَتَيْمُ الرِّبَابِ، وَالْأَزْدُ، وَرَبِيعَةُ، وَهَوَازِنُ، وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ مِنْ هَوَازِنَ، وَبَعْضُهُمْ يَعُدُّ قُرَيْشًا، وَبَنِي دَارِمَ، وَالْعُلْيَا مِنْ هَوَازِنَ وَهُمْ سَعْدُ بْنُ بَكْرٍ، وَجُشَمُ بْنُ بَكْرٍ، وَنَصْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَثَقِيفٌ، قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ "أَفْصَحُ الْعَرَبِ عُلْيَا هَوَازِنَ وَسُفْلَى تَمِيمٍ وَهُمْ بَنُو دَارِمَ. وَبَعْضُهُمْ يَعُدُّ خُزَاعَةَ وَيَطْرَحُ تَمِيمًا، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ هِيَ لُغَاتُ قَبَائِلَ مِنْ مُضَرَ وَهُمْ قُرَيْشٌ، وَهُذَيْلٌ، وَكِنَانَةُ، وَقَيْسٌ، وَضَبَّةُ، وَتَيْمُ الرِّبَابِ، وَأَسَدُ بْنُ خُزَيْمَةَ، وَكُلُّهَا مِنْ مُضَرَ .

الْقَوْلُ الثَّانِي: لِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عِيَاضٌ: أَنَّ الْعَدَدَ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ حَقِيقَتُهُ، بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّعَدُّدِ وَالتَّوَسُّعِ، وَكَذَلِكَ الْمُرَادِفَاتُ وَلَوْ مِنْ لُغَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِهِ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) مَرُّوا فِيهِ - سَعَوْا فِيهِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أَخِّرُونَا، أَمْهِلُونَا، وَأَقْرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ فَقَالَ الرَّجُلُ: طَعَامَ الْيَتِيمِ، فَأَعَادَ لَهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُولَ الْأَثِيمَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُولَ طَعَامَ الْفَاجِرِ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَاقْرَأْ كَذَلِكَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ عُمَرُ وَهِشَامُ بْنُ حَكِيمٍ وَلُغَتُهُمَا وَاحِدَةٌ .

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ التَّوْسِعَةُ فِي نَحْوِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا أَنْ يَقْرَأَ "عَلِيمًا حَكِيمًا" مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْمُنَاسَبَةِ كَذِكْرِهِ عَقِبَ آيَةِ عَذَابٍ أَنْ يَقُولَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا أَوْ عَكْسَهُ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ .

وَأَمَّا الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْحَدِيثَ مُحْكَمًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ فَقَدْ ذَهَبُوا فِي تَأْوِيلِهِ مَذَاهِبَ: فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَحْرُفِ أَنْوَاعُ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، أَوْ أَنْوَاعُ كَلَامِهِ كَالْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ، وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ: أَوْ أَنْوَاعُ دَلَالَتِهِ كَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَالظَّاهِرِ وَالْمُؤَوَّلِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ الْحَدِيثِ عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَاتِهِ مِنْ قَصْدِ التَّوْسِعَةِ وَالرُّخْصَةِ.

وَقَدْ تَكَلَّفَ هَؤُلَاءُ حَصْرَ مَا زَعَمُوهُ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَنَحْوِهَا فِي سَبْعَةٍ فَذَكَرُوا كَلَامًا لَا يَسْلَمُ مِنَ النَّقْضِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ وَثَعْلَبٌ وَالْأَزْهَرِيُّ وَعُزِيَ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أُنْزِلَ مُشْتَمِلًا عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ مَبْثُوثَةٍ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ لَكِنْ لَا عَلَى تَخْيِيرِ الْقَارِئِ، وَذَهَبُوا فِي تَعْيِينِهَا إِلَى نَحْوِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِالنَّسْخِ، إِلَّا أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَنَّ الْأَوَّلِينَ ذَهَبُوا إِلَى تَخْيِيرِ الْقَارِئِ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَهَؤُلَاءِ أَرَادُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مَبْثُوثَةٌ فِيهِ كَلِمَاتٌ مِنْ تِلْكَ اللُّغَاتِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهِ التَّعْيِينِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا سَمِعْتُ السِّكِّينَ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا مَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا الْمُدْيَةَ، وَفِي الْبُخَارِيِّ: إِلَّا مِنَ النَّبِيءِ فِي قِصَّةِ حُكْمِ سُلَيْمَانَ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ: ايْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَقْطَعْهُ بَيْنَكُمَا، وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يُلَاقِي مَسَاقَ الْحَدِيثِ مِنَ التَّوْسِعَةِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ لِأَنَّ الْمُحَقِّقِينَ ذَكَرُوا أَنَّ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ لُغَاتِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَأَنْهَاهَا السُّيُوطِيُّ نَقْلًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْوَاسِطِيِّ إِلَى خَمْسِينَ لُغَةٍ.

وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَحْرُفِ لَهَجَاتُ الْعَرَبِ فِي كَيْفِيَّاتِ النُّطْقِ كَالْفَتْحِ وَالْإِمَالَةِ، وَالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَالْهَمْزِ وَالتَّخْفِيفِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ رُخْصَةٌ لِلْعَرَبِ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ لِمَنْ تَقَدَّمَنَا، وَهُنَالِكَ أَجْوِبَةٌ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ التَّعْرِيجُ عَلَيْهَا وَقَدْ أَنْهَى بَعْضُهُمْ جُمْلَةَ الْأَجْوِبَةِ إِلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ جَوَابًا. وَعِنْدِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ حَدِيثُ عُمَرَ وَهِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ قَدْ حَسُنَ إِفْصَاحُ رَاوِيهِ عَنْ مَقْصِدِ عُمَرَ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَرْوِيًّا بِالْمَعْنَى مَعَ إِخْلَالٍ بِالْمَقْصُودِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى تَرْتِيبِ آيِ السُّوَرِ بِأَنْ يَكُونَ هِشَامٌ قَرَأَ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ التَّرْتِيبِ الَّذِي قَرَأَ بِهِ عُمَرُ فَتَكُونُ تِلْكَ رُخْصَةً لَهُمْ فِي أَنْ يَحْفَظُوا سُوَرَ الْقُرْآنِ بِدُونِ تَعْيِينِ تَرْتِيبِ الْآيَاتِ مِنَ السُّورَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَاقِلَّانِيُّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ السُّوَرِ مِنِ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ كَمَا يَأْتِي فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ. فَعَلَى رَأْيِنَا هَذَا تَكُونُ هَذِهِ رُخْصَةً. ثُمَّ لَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَتَوَخَّوْنَ بِقِرَاءَتِهِمْ مُوَافَقَةَ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ تَرْتِيبُ الْمُصْحَفِ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى نَحْوِ الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِزَوَالِ مُوجِبِ الرُّخْصَةِ .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعِ فِي الْحَدِيثِ مَا يُطَابِقُ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ الَّتِي اشْتُهِرَتْ بَيْنَ أَهْلِ فَنِّ الْقِرَاءَاتِ، وَذَلِكَ غَلَطٌ وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى خِلَافِهِ، كَمَا قَالَ أَبُو شَامَةَ: فَإِنَّ انْحِصَارَ الْقِرَاءَاتِ فِي سَبْعٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ حَصَلَ إِمَّا بِدُونِ قَصْدٍ أَوْ بِقَصْدِ التَّيَمُّنِ بِعَدَدِ السَّبْعَةِ أَوْ بِقَصْدِ إِيهَامِ أَنَّ هَذِهِ السَّبْعَةَ هِيَ الْمُرَادَةُ مِنَ الْحَدِيثِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهَا بَيْنَ الْعَامَّةِ، وَنَقَلَ السُّيُوطِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ فَعَلَ جَاعِلُ عَدَدِ الْقِرَاءَاتِ سَبْعًا مَا لَا يَنْبَغِي، وَأَشْكَلَ بِهِ الْأَمْرُ عَلَى الْعَامَّةِ إِذْ أَوْهَمَهُمْ أَنَّ هَذِهِ السَّبْعَةَ هِيَ الْمُرَادَةُ فِي الْحَدِيثِ، وَلَيْتَ جَامِعَهَا نَقَصَ عَنِ السَّبْعَةِ أَوْ زَادَ عَلَيْهَا. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ جُبَيْرٍ الْمَكِّيُّ وَهُوَ قَبْلَ ابْنِ مُجَاهِدٍ كِتَابًا فِي الْقِرَاءَاتِ فَاقْتَصَرَ عَلَى خَمْسَةِ أَئِمَّةٍ، مِنْ كُلِّ مِصْرٍ إِمَامٌ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَصَاحِفَ الَّتِي أَرْسَلَهَا عُثْمَانُ إِلَى الْأَمْصَارِ كَانَتْ إِلَى خَمْسَةِ أَمْصَارٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْعَوَاصِمِ: أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْقِرَاءَاتِ فِي سَبْعٍ ابْنُ مُجَاهِدٍ غَيْرَ أَنَّهُ عَدَّ قِرَاءَةَ يَعْقُوبَ سَابِعًا ثُمَّ عَوَّضَهَا بِقِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ، قَالَ السُّيُوطِيُّ وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ الثَّلَاثِمِائَةِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ يَعْقُوبَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الصَّحِيحَةِ مِثْلَ بَقِيَّةِ السَّبْعَةِ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْقُرَّاءِ سَابِقًا عَلَى تَدْوِينِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَكَانَ هُوَ الدَّاعِيَ لِجَمْعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ تَعَيَّنَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ لَمْ يَكُنْ نَاشِئًا عَنِ الِاجْتِهَادِ فِي قِرَاءَةِ أَلْفَاظِ الْمُصْحَفِ فِيمَا عَدَا اللَّهَجَاتِ .

وَأَمَّا صِحَّةُ السَّنَدِ الَّذِي تُرْوَى بِهِ الْقِرَاءَةُ لِتَكُونَ مَقْبُولَةً فَهُوَ شَرْطٌ لَا مَحِيدَ عَنْهُ إِذْ قَدْ تَكُونُ الْقِرَاءَةُ مُوَافِقَةً لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ وَمُوَافَقَةً لِوُجُوهِ الْعَرَبِيَّةِ، لَكِنَّهَا لَا تَكُونُ مَرْوِيَّةً بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، كَمَا ذُكِرَ فِي الْمُزْهِرِ أَنَّ حَمَّادَ بْنَ الزِّبْرِقَانِ قَرَأَ (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا أَبَاهُ) بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِنَّمَا هِيَ إِيَّاهُ بِتَحْتِيَّةٍ، وَقَرَأَ (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي غِرَّةٍ) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَإِنَّمَا هِيَ "عِزَّةٍ" بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَزَايٍ، وَقَرَأَ (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُعْنِيهِ) بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ يُغْنِيهِ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى أَحَدٍ وَإِنَّمَا حَفِظَهُ مِنَ الْمُصْحَفِ. مَرَاتِبُ الْقِرَاءَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ الْعَوَاصِمِ: اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي لَا تُخَالِفُ الْأَلْفَاظَ الَّتِي كُتِبَتْ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي وُجُوهِ الْأَدَاءِ وَكَيْفِيَّاتِ النُّطْقِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ تَوَاتُرَهَا تَبَعٌ لِتَوَاتُرِ صُورَةِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ، وَمَا كَانَ نُطْقُهُ صَالِحًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَهُوَ مَقْبُولٌ وَمَا هُوَ بِمُتَوَاتِرٍ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ مُنَافٍ لِدَعْوَى التَّوَاتُرِ، فَخَرَجَ بِذَلِكَ مَا كَانَ مِنِ الْقِرَاءَاتِ مُخَالِفًا لِمُصْحَفِ عُثْمَانَ، مِثْلَ مَا نُقِلَ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَمَّا قَرَأَ الْمُسْلِمُونَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُغَيَّرْ عَلَيْهِمْ ، فَقَدْ صَارَتْ مُتَوَاتِرَةٌ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَإِنْ كَانَتْ أَسَانِيدُهَا الْمُعَيَّنَةُ آحَادًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ الْقُرَّاءِ مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ كُلَّهَا بِمَا فِيهَا مِنْ طَرَائِقِ أَصْحَابِهَا وَرِوَايَاتِهِمْ مُتَوَاتِرَةٌ وَكَيْفَ وَقَدْ ذَكَرُوا أَسَانِيدَهُمْ فِيهَا فَكَانَتْ أَسَانِيدَ أَحَادٍ، وَأَقْوَاهَا سَنَدًا مَا كَانَ لَهُ رَاوِيَانِ عَنِ الصَّحَابَةِ مِثْلَ قِرَاءَةِ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ التُّونُسِيُّ ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ إِدْرِيسَ فَقِيهُ بِجَايَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْأَبْيَارِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ، وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَسَانِيدَ لَا تَقْتَضِي إِلَّا أَنَّ فُلَانًا قَرَأَ كَذَا وَأَنَّ فُلَانًا قَرَأَ بِخِلَافِهِ، وَأَمَّا اللَّفْظُ الْمَقْرُوءُ فَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تِلْكَ الْأَسَانِيدِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ كَيْفِيَّاتُ النُّطْقِ بِحُرُوفِهِ فَضْلًا عَنْ كَيْفِيَّاتِ أَدَائِهِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ: هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ وَرَدَّهُ عَلَيْهِ الْأَبْيَارِيُّ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِهِ: هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الْقُرَّاءِ وَلَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً عِنْدَ عُمُومِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا تَوَسُّطٌ بَيْنَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْأَبْيَارِيِّ، وَوَافَقَ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ ابْنُ سَلَامَةَ الْأَنْصَارِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ جَرَى فِيهَا حِوَارٌ بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ ابْنِ عَرَفَةَ التُّونُسِيِّ وَابْنِ لُبٍّ الْأَنْدَلُسِيِّ ذَكَرَهَا الْوَنْشَرِيسِيُّ فِي الْمِعْيَارِ .

وَتَنْتَهِي أَسَانِيدُ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ إِلَى ثَمَانِيَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاِ ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، فَبَعْضُهَا يَنْتَهِي إِلَى جَمِيعِ الثَّمَانِيَةِ وَبَعْضُهَا إِلَى بَعْضِهِمْ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ .

وَأَمَّا وُجُوهُ الْإِعْرَابِ فِي الْقُرْآنِ فَأَكْثَرُهَا مُتَوَاتِرٌ إِلَّا مَا سَاغَ فِيهِ إِعْرَابَانِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعَانِي نَحْوَ (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) بِنَصْبِ حِينَ وَرَفْعِهِ، وَنَحْوَ (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) بِنَصْبِ (يَقُولَ) وَرَفْعِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى رَفْعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ بِنَصْبِ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِئَلَّا يُثْبِتُوا لِلَّهِ كَلَامًا، وَقَرَأَ بَعْضُ الرَّافِضَةِ (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، وَفَسَّرُوهَا بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حَاشَاهُمَا، وَقَاتَلَهُمُ اللَّهُ .

وَأَمَّا مَا خَالَفَ الْوُجُوهَ الصَّحِيحَةَ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَفِيهِ نَظَرٌ قَوِيٌّ لِأَنَّا لَا ثِقَةَ لَنَا بِانْحِصَارِ فَصِيحِ كَلَامِ الْعَرَبِ فِيمَا صَارَ إِلَى نُحَاةِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَبِهَذَا نُبْطِلُ كَثِيرًا مِمَّا زَيَّفَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِعِلَّةٍ أَنَّهَا جَرَتْ عَلَى وُجُوهٍ ضَعِيفَةٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ لَا سِيَّمَا مَا كَانَ مِنْهُ فِي قِرَاءَةٍ مَشْهُورَةٍ كَقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَوْلَهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَائِهُمْ بِبِنَاءِ (زَيَّنَ) لِلْمَفْعُولِ وَبِرَفْعِ (قَتْلُ)، وَنَصْبِ (أَوْلَادَهُمْ) وَخَفْضِ (شُرَكَائِهِمْ)، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ وَجْهٌ مَرْجُوحٌ، فَهُوَ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ الَّتِي لَا تُنَاكِدُ التَّوَاتُرَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا عَلَى مَا فِي اخْتِلَافِ الْإِعْرَابَيْنِ مِنْ إِفَادَةِ مَعْنًى غَيْرِ الَّذِي يُفِيدُهُ الْآخَرُ ، لِأَنَّ لِإِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ خَصَائِصَ غَيْرَ الَّتِي لِإِضَافَتِهِ إِلَى فَاعِلِهِ، وَلِأَنَّ لِبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَجْهُولِ نُكَتًا غَيْرَ الَّتِي لِبِنَائِهِ لِلْفَاعِلِ، عَلَى أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ أَلَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ "الْحُجَّةَ" احْتَجَّ فِيهِ لِلْقِرَاءَاتِ الْمَأْثُورَةِ احْتِجَاجًا مِنْ جَانِبِ الْعَرَبِيَّةِ .

ثُمَّ إِنَّ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرَ الصَّحِيحَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، قَدْ تَتَفَاوَتُ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ بَعْضُهَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْبَلَاغَةِ أَوِ الْفَصَاحَةِ أَوْ كَثْرَةِ الْمَعَانِي أَوِ الشُّهْرَةِ، وَهُوَ تَمَايُزٌ مُتَقَارِبٌ، وَقَلَّ أَنْ يَكْسِبَ إِحْدَى الْقِرَاءَاتِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ رُجْحَانًا ، عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ كَانَ لَا يَرَى مَانِعًا مِنْ تَرْجِيحِ قِرَاءَةٍ عَلَى غَيْرِهَا، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَالْعَلَّامَةُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَفِي أَكْثَرِ مَا رَجَّحَ بِهِ نَظَرٌ سَنَذْكُرُهُ فِي مَوَاضِعِهِ، وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ رُشْدٍ عَمَّا يَقَعُ فِي كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْرِبِينَ مِنِ اخْتِيَارِ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ الْمُتَوَاتِرَتَيْنِ وَقَوْلِهِمْ "هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَحْسَنُ": أَذَاكَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِمَّا يَقَعُ فِي كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْرِبِينَ مِنْ تَحْسِينِ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ وَاخْتِيَارِهَا عَلَى بَعْضٍ لِكَوْنِهَا أَظْهَرَ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ، وَأَصَحَّ فِي النَّقْلِ، وَأَيْسَرَ فِي اللَّفْظِ فَلَا يُنْكَرُ ذَلِكَ، كَرِوَايَةِ وَرْشٍ الَّتِي اخْتَارَهَا الشُّيُوخُ الْمُتَقَدِّمُونَ عِنْدَنَا أَيْ بِالْأَنْدَلُسِ فَكَانَ الْإِمَامُ فِي الْجَامِعِ لَا يَقْرَأُ إِلَّا بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ تَسْهِيلِ النَّبَرَاتِ وَتَرْكِ تَحْقِيقِهَا فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ ، وَقَدْ تَؤَوَّلَ ذَلِكَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ كَرَاهِيَةِ النَّبْرِ فِي الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ .

وَفِي كِتَابِ الصَّلَاةِ الْأَوَّلِ مِنَ الْعُتْبِيَّةِ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ النَّبْرِ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ : إِنِّي لَأَكْرَهُهُ وَمَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ "يُعْنَى بِالنَّبْرِ هَاهُنَا إِظْهَارُ الْهَمْزَةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى الْأَصْلِ، فَكُرِهَ ذَلِكَ وَاسْتُحِبَّ فِيهِ التَّسْهِيلُ عَلَى رِوَايَةِ وَرْشٍ، لِمَا جَاءَ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَكُنْ لُغَتُهُ الْهَمْزَ أَيْ إِظْهَارَ الْهَمْزِ فِي الْكَلِمَاتِ الْمَهْمُوزَةِ بَلْ كَانَ يَنْطِقُ بِالْهَمْزَةِ مُسَهَّلَةً إِلَى أَحْرُفِ عِلَّةٍ مِنْ جِنْسِ حَرَكَتِهَا، مِثْلَ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ بِالْأَلِفِ دُونَ الْهَمْزِ، وَمِثْلَ الذِّيبِ فِي الذِّئْبِ وَمِثْلَ مُومِنٍ فِي مُؤْمِنٍ. ثُمَّ قَالَ: وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ الْعَمَلُ جَارِيًا فِي قُرْطُبَةَ قَدِيمًا أَنْ لَا يَقْرَأَ الْإِمَامُ بِالْجَامِعِ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بِرِوَايَةِ وَرْشٍ، وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ ذَلِكَ وَتُرِكَتِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ مُنْذُ زَمَنٍ قَرِيبٍ، اهـ، وَهَذَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزَّارُ رَاوِي حَمْزَةَ، قَدِ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ قِرَاءَةً مِنْ بَيْنِ قِرَاءَاتِ الْكُوفِيِّينَ، وَمِنْهُمْ شَيْخُهُ حَمْزَةُ بْنُ حَبِيبٍ وَمَيَّزَهَا قِرَاءَةً خَاصَّةً فَعُدَّتْ عَاشِرَةَ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ وَمَا هِيَ إِلَّا اخْتِيَارٌ مِنْ قِرَاءَاتِ الْكُوفِيِّينَ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ إِلَّا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ) قَرَأَهَا بِالْأَلِفِ بَعْدَ الرَّاءِ مِثْلَ حَفْصٍ وَالْجُمْهُورِ .

فَإِنْ قُلْتَ هَلْ يُفْضِي تَرْجِيحُ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ عَلَى بَعْضٍ إِلَى أَنْ تَكُونَ الرَّاجِحَةُ أَبْلَغَ مِنَ الْمَرْجُوحَةِ فَيُفْضِي إِلَى أَنَّ الْمَرْجُوحَةَ أَضْعَفُ فِي الْإِعْجَازِ؟ قُلْتُ: حَدُّ الْإِعْجَازِ مُطَابَقَةُ الْكَلَامِ لِجَمِيعِ مُقْتَضَى الْحَالِ، وَهُوَ لَا يَقْبَلُ التَّفَاوُتَ، وَيَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْكَلَامِ الْمُعْجِزِ مُشْتَمِلًا عَلَى لَطَائِفَ وَخُصُوصِيَّاتٍ تَتَعَلَّقُ بِوُجُوهِ الْحُسْنِ كَالْجِنَاسِ وَالْمُبَالَغَةِ، أَوْ تَتَعَلَّقُ بِزِيَادَةِ الْفَصَاحَةِ، أَوْ بِالتَّفَنُّنِ مِثْلَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْقِرَاءَاتِ نَشَأَتْ عَنْ تَرْخِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْقَارِئِ أَنْ يَقْرَأَ بِالْمُرَادِفِ تَيْسِيرًا عَلَى النَّاسِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ حَدِيثُ تَنَازُعِ عُمَرَ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ، فَتُرْوَى تِلْكَ الْقِرَاءَةُ لِلْخَلَفِ فَيَكُونُ تَمْيِيزُ غَيْرِهَا عَلَيْهَا بِسَبَبِ أَنَّ الْمُتَمَيِّزَةَ هِيَ الْبَالِغَةُ غَايَةَ الْبَلَاغَةِ وَأَنَّ الْأُخْرَى تَوْسِعَةٌ وَرُخْصَةٌ، وَلَا يُعَكِّرُ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهَا أَيْضًا بَالِغَةَ الطَّرَفِ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ وَهُوَ مَا يَقْرُبُ مِنْ حَدِّ الْإِعْجَازِ .

وَأَمَّا الْإِعْجَازُ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِي كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ التَّحَدِّيَ إِنَّمَا وَقَعَ بِسُورَةٍ مِثْلَ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَأَقْصَرُ سُورَةٍ ثَلَاثُ آيَاتٍ، فَكُلُّ مِقْدَارٍ يَنْتَظِمُ مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُهُ مُعْجِزًا .

(تَنْبِيهٌ) أَنَا أَقْتَصِرُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى التَّعَرُّضِ لِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ الْمَشْهُورَةِ خَاصَّةً فِي أَشْهَرِ رِوَايَاتِ الرَّاوِينَ عَنْ أَصْحَابِهَا لِأَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ قَدِ امْتَازَتْ عَلَى بَقِيَّةِ الْقِرَاءَاتِ بِالشُّهْرَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ .

وَأَبْنِي أَوَّلَ التَّفْسِيرِ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ بِرِوَايَةِ عِيسَى بْنِ مِينَا الْمَدَنِيِّ الْمُلَقَّبِ بِقَالُونَ، لِأَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الْمَدَنِيَّةُ، إِمَامًا وَرَاوِيًا، وَلِأَنَّهَا الَّتِي يَقْرَأُ بِهَا مُعْظَمُ أَهْلِ تُونُسَ، ثُمَّ أَذْكُرُ خِلَافَ بَقِيَّةِ الْقُرَّاءِ الْعَشَرَةِ خَاصَّةً .

وَالْقِرَاءَاتُ الَّتِي يُقْرَأُ بِهَا الْيَوْمَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ، هِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ بِرِوَايَةِ قَالُونَ فِي بَعْضِ الْقُطْرِ التُّونُسِيِّ وَبَعْضِ الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ، وَفِي لِيبْيَا وَبِرِوَايَةِ وَرْشٍ فِي بَعْضِ الْقُطْرِ التُّونُسِيِّ وَبَعْضِ الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ وَفِي جَمِيعِ الْقُطْرِ الْجَزَائِرِيِّ وَجَمِيعِ الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْبِلَادِ. وَالسُّودَانِ .

وَقِرَاءَةُ عَاصِمٍ بِرِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الشَّرْقِ مِنَ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَغَالِبِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالْهِنْدِ وَبَاكِسْتَانَ وَتُرْكِيَا وَالْأَفْغَانِ. وَبَلَغَنِي أَنَّ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو الْبَصْرِيِّ يُقْرَأُ بِهَا فِي السُّودَانِ الْمُجَاوِرِ مِصْرَ ".

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply