الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد جاءت شريعة الإسلام بالحفاظ على الأمن وتوطيده فالأمن مطلب شرعي جاء التأكيد عليه في الكتاب العزيز والسنة المطهرة ، ففي القرآن دعاء إبراهيم -عليه السلام- :{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا}إبراهيم:35، وامْتَنَّ على أهل الحرم بالأمن كما في قول الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}القصص: 57.، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»، أخرجه الترمذي وابن ماجه، وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (2317).
فهي نعمة عظيمة وجليلة يجب رعايتها. وقد جاءت الشرائع السماوية بالحفاظ على الضرورات الخمس: وهي الدين والعقل والنفس والعرض والمال، ومما يحفظها إقامة العقوبات الشرعية من الحدود والتعزيرات في حق الجناة والبغاة.
وإن من وظائف الدولة الإسلامية ومهماتها وواجبات الولاة ومسؤولياتهم إقامة حدود الله وحفظ الأمن: قال ابن تيمية رحمه الله: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية فإن الله ينزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن ، وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمر ، وذلك يحصل بالعقوبة على ترك الواجبات وفعل المحرمات). الحسبة: 45.
وإذا أقيمت الحدود والتعزيرات فإن لذلك أثره الإيجابي على المجتمع فيَسْتَتِبُّ الأمن، ويأمن الناس على دينهم، وأنفسهم، وعقولهم، وأعراضهم، وعلى أموالهم..
ومن أعظم آثار تطبيق الحدود الشرعية: انتظام أحوال المسلمين على الشرع وصلاحهم واستقامتهم، ولا شك أن المسلم يجب عليه أن يكون رقيباً على ذاته، وأن يسعى إلى تطبيق الأحكام الشرعية، فإذا التزم الناس بذلك فإنك تجد في المجتمع المسلم الْعِفَّةَ في الأقوال، والأمانة في المعاملة، وإقامة فرائض الدين، واحترام الحقوق، واستنكار الفاحشة، والامتناع عن الجريمة، قال عثمان -رضي الله عنه-: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، فالإنسان إذا ضعفت نفسه فانحرف عن جادة الصواب واعوج عن الصراط المستقيم، فتأتي الولاية السلطانية لِتُقَوِّمَه بموجب ما جاء في الكتاب والسنة من إقامة الحدود والتعازير على الجرائم المقررة في الشرع، فتنتظم بذلك أحوال المسلمين.
وفي الحدود زجرُ الجاني وردعه، فالعقوبة تكون زاجرة للجاني بما ارتكبه جزاءً على عمله ورادعةً له بألا يعود، وكان ذلك دافعًا له على ترك الاعوجاج عن طريق الحق والصواب.
وفي تطبيق الحدود اعتبارُ غير الجاني بما أصاب الجاني، فالعقوبة فيها العظة والاعتبار، فإذا عرف الناس أن الحدود الشرعية تقام على من أتى مُوبِقًا من الموبقات وأنه سوف يُجَازَى على فعله، فسوف يكون ذلك رادعًا لهم وعظة وعبرة، ومذكرًا لهم بألا يأتوا مثل ما أتى، حتى لا يصيبهم مثل ما أصابه من إقامة الحدود، وينطوي ذلك أيضا على إصلاح الجاني، واستقامته على شرع الله -عز وجل-، فيكون إيجابيا مشاركًا في بناء أسرته ومجتمعه، ويصلح حاله في دينه ودنياه.
ومن الآثار الإيجابية لتطبيق الحدود: تكفيرُ سيئات الجاني، فإذا أقيم الحد أو العقوبة التعزيرية على الجاني، كان ذلك مَاحِيًا لذنبه كما تمحو التوبة الذنب، ففي حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَجْلِسٍ، فَقَالَ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا – فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» رواه البخاري ومسلم.
ومن ثمرات تطبيق الحدود والتعزيرات في حفظ الأمن: إنصافُ المجني عليه وإطفاء غيظه فيهدأ وتبعد ثاراته، فلا يسعى إلى الانتقام، ولا يحدث نفسه بذلك، لأن الشريعة قد أقيمت وعوقب هذا الجاني بما يستحق لقاء ما فعل به من سلب عرضه، أو الاعتداء على ماله، أو شيء من أموره.
وأثر مهم وعظيم من آثار تطبيق الحدود والتعزيرات في حفظ الأمن: التمكين للأمة والاستمرار في خلافة الأرض يقول الله -عز وجل-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} النور:55، فالمسلمون إذا أقاموا حدود الله وأَعْلَوا شريعته وعبدوه حق العبادة، فإن فيه تمكين للأمة واستمرار لدوام عِزِّها ونصرتها، أما إذا تركوا تحكيم شريعة الإسلام في جميع شئون الحياة، ومن ذلك الجنايات، فلا يقيمون حدودًا ولا تعزيرات، فقد شاركوا في انحطاط الأمة وتخلفها، والعزة للأمة والتمكين إنما هو بالأخذ بالكتاب والسنة وبتحكيم شريعة الإسلام في كل شأن من شؤونهم، وفي كل حال من أحوالهم.
ومن آثار إقامة الحدود والتعزيرات الهناءُ والاستقرار للمسلمين: ذلك أن المسلمين إذا أقاموا شريعة الله كان ذلك خيرًا لهم في دينهم وفي دنياهم، ينعكس أثره على استقرارهم، وعلى طمأنينتهم، وعلى هدوء نفوسهم، فالله -عز وجل- يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} طه: 124-126.
ومن آثار تطبيق الحدود والتعزيرات: سلامة المجتمع والأمة من الفساد والهلاك والفوضى، لأن الإعراض عن تطبيق أحكام الشريعة يوقع الأمة في الفوضى والهلاك وفساد المجتمعات، والله -عز وجل- حذر من ذلك كما في قوله سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}النور: 63، والأخذ على أيدي السفهاء والمفسدين الذين يخرجون عن جادة الحق والصواب ويرتكبون الجرائم وإقامة حدود الله -عز وجل- فيهم يحفظ أمن المجتمع، وتبحر سفينة الحياة فيه بهدوء وطمأنينة وسلامة من العطب والهلاك والبوار قال -صلى الله عليه وسلم- «مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا» رواه البخاري والترمذي.
ومن آثار تطبيق الشريعة الإسلامية الحفاظ على هوية الأمة الحضارية، بإقامة التشريع الإسلامي مصدرًا للأحكام لا غيره، وبذلك تكون قائدة ورائدة، لا أن تكون تبعا لغيرها من الأمم تقتبس منهم التشريع، وهذا لاشك اعتداء على هويتها وتغيير لها.
وكذلك الحفاظ على هوية الأمة الاجتماعية، فتكون متخلقة بأخلاق المسلمين، فالدين فيها ظاهر قوي، وعلامات التدين بارزة، فيكون في ذلك صيانة المجتمع المسلم من الانحراف، فيبقى الأمة محافظةً على هويته العامة، فتباهي الأمم بأخلاقها، وبأحكام شريعتها فتسلم من الانهزامية، وتصير إلى الاعتزاز بدينها، وهي إذا تخلت عن تطبيق شريعتها الإسلامية الغراء، واتبعت الآخرين لا شك أن هويتها الحضارية تذبل وتنمحي إذ لا تاريخ تتكئ عليه، ولا ميزة تستند إليها حتى تعرف بين الأمم ظاهرة بها.
ومن آثار تطبيق الحدود والتعزيرات في حفظ الأمن: الرحمة بالخلق، فإقامة العقوبة رحمة بالجاني لما في ذلك من تكفير السيئات، ورحمة بالمجتمع المسلم بتطهيره من الجرائم والآفات، فيبقى المجتمع صيّنًا ديّنًا، الأخلاق فيه ظاهرة، والفسوق والمنكرات مندحرة، والله -عز وجل- قال في إقامة الحد على الزَّانِيَيْنِ: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} النور:2.
وفي إقامة الحدود الشرعية إظهار لهيبة الدولة وسلطانها وثبات للحكم وقطع لدابر الفوضى وردع أهل الفرقة والفتنة وتمكين للأمة قال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} الحج: 41.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتّقُونَ}البقرة: 179.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وسلام على عبادة الذين اصطفى ، وبعد بيان بعض الحكم والعلل والمصالح المقتبسة من نور الشريعة في تطبيق الحدود والتعازير في حفظ الأمن، فينبغي أن نعلم أن المرء المسلم مكلف بالتسليم لأحكام الشرعية، وإن لم يعلم عللها وحكمها، لأن الله -عز وجل- أمره أن يطيعه ونهاه عن معصيته، وفي طاعة الله -عز وجل- اتباع له وحصول على الأجر والثواب، وإنما هذه الحكم والمصالح هي للاستئناس والاطمئنان، ولا بأس بذكرها والتذكير بها ، كما يجب أن يكون الدافع لتطبيق هذه الحدود هو رجاء المثوبة من الله -عز وجل- لا انتقاماً ولا تحيزاً لأن تطبيق الحدود هو عبادة من العبادات، فتطبيقها يحتاج إلى الإخلاص والنية.
وختاماً عباد الله: فإن من أقام الشريعة الإسلامية، وأقام الحدود والتعزيرات على وفق هدي الكتاب والسنة كما في هذه البلاد المباركة، فلا شك أنه مأجور من الله -عز وجل- أجرًا عظيمَا لقاء ما أقام من هذه الشريعة، وما حققه من مصالح لعباده وللرعية التي ولاه الله -عز وجل- عليهم، لأنه أقام شريعة الله فيهم، نسأل الله -عز وجل- أن يحفظ الراعي والرعية والأمة الإسلامية وأن يصلح ولاة أمورنا جميعاً ويرزقهم البطانة الصالحين ، وينصر جنودنا المرابطين، إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد