في الحديث فوائد:
- الأولى: قوله: (إِذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ) فيه أمر بالمشي ونهي عن الإسراع إلى الصلاة لمن سمع الإقامة، وليس سماع الإقامة شرطاً للنهي، وإنما خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب أن الاستعجال إنما يقع عند سماع الإقامة خوف فوت تكبيرة الإحرام أو الركعة، فهو كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾[البقرة: 283]، وقد ذكر السفر على جهة الأغلب، وإلا فالرهن جائز في السفر والحضر.
ومثله قوله: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾[النساء: 43]، والتيمم يجوز عند عدم الماء في السفر والحضر، لكن حصوله في السفر أغلب؛ لأن فقد الماء فيه أكثر منه في الحضر.
وقوله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾[الاحزاب:5]، ويجوز أن يُدْعَوْا إخوانًا وموالي وإن علم آباؤهم؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد: «أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلاَنَا»([2]) مع علمه بأبيه.
وفي حديث أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: «إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ»([3]) من غير اشتراط سماع الإقامة ([4])، فَدَلَّ أن السكينة مطلوبة عند إقامة الصلاة وقبلها وبعدها.
قال النووي: إِنَّمَا ذَكَرَ الْإِقَامَةَ لِلتَّنْبِيهِ بِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنْ إِتْيَانِهَا سَعْيًا فِي حَالِ الْإِقَامَةِ مَعَ خوفه فوت بعضها فقيل الْإِقَامَةِ أَوْلَى، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْعِلَّةِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ"([5])، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَوْقَاتِ الْإِتْيَانِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا آخَرَ قَالَ: "فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا" فَحَصَلَ فِيهِ تَنْبِيهٌ وَتَأْكِيدٌ؛ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ لَمْ يَخَفْ فَوْتَ بَعْضِ الصَّلَاةِ، فَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ وَإِنْ فَاتَ مِنَ الصَّلَاةِ مَا فَاتَ وَبَيَّنَ مَا يُفْعَلُ فِيمَا فَاتَ([6]).
وقال العراقي: فَلَيْسَ هَذَا الْقَيْدُ مُعْتَبَرًا فِي الْحُكْمِ فَلَوْ قَصَدَ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْإِقَامَةِ كُرِهَ لَهُ الْأَسْرَعُ أَيْضًا بَلْ هُوَ أَوْلَى بِالْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْإِقَامَةِ يَخَافُ فَوْتَ بَعْضِ الصَّلَاةِ. وَقَبْلَهَا لَا يَخَافُ ذَلِكَ فَإِذَا نُهِيَ عَنْ الْإِسْرَاعِ مَعَ خَوْفِ فَوَاتِ بَعْضِ الصَّلَاةِ فَمَعَ عَدَمِ الْخَوْفِ أَوْلَى، فَهَذَا مِنْ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى وَهُوَ مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ ([7]).
- الثانية: قوله: (وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ) قِيلَ هُمَا بِمَعْنًى. وَالسَّكِينَةُ هِيَ الْوَقَارُ كَمَا فَسَّرَهُ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ؛ فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ: كَرَّرَ فِيهِ الْوَقَارَ لِلتَّأْكِيدِ([8]).
وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ: السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ إسْمَانُ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ السَّكِينَةَ مِنْ السُّكُونِ وَالْوَقَارَ مِنْ الِاسْتِقْرَارِ وَالتَّثَاقُلِ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ([9]).
وَأَنْكَرَ العراقي عَلَى الْقُرْطُبِيِّ قَوْلَهُ أَنَّ الْوَقَارَ مِنْ الِاسْتِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْوَقَارَ مُعْتَلُّ الْفَاءِ وَهَذَا وَاضِحٌ، وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْوَقَارُ الْحِلْمُ وَالرَّزَانَةُ([10]).
وقال النووي: الظَّاهِرُ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا وَأَنَّ السَّكِينَةَ التَّأَنِّي فِي الْحَرَكَاتِ وَاجْتِنَابُ الْعَبَثِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالْوَقَارُ فِي الْهَيْئَةِ وَغَضِّ الْبَصَرِ وَخَفْضِ الصَّوْتِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى طَرِيقِهِ بِغَيْرِ الْتِفَاتٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ([11]).
وقال القاري: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّكِينَةِ سُكُونُ الْقَلْبِ وَحُضُورُهُ وَخُشُوعُهُ وَخُضُوعُهُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَبِالْوَقَارِ سُكُونُ الْقَالَبِ مِنَ الْهَيْئَاتِ الْغَيْرِ الْمُنَاسِبَةِ لِلسَّالِكِ([12]).
- الثالثة: الْمَعْنَى فِي نَهْيِ قَاصِدِ الصَّلَاةِ عَنْ الْإِسْرَاعِ وَأَمْرِهِ بِالْمَشْيِ بِسَكِينَةٍ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا كَانَ يَعْمِدُ إلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ» فَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَدَّبَ بِآدَابِ الصَّلَاةِ مِنْ تَرْكِ الْعَجَلَةِ وَالْخُشُوعِ وَسُكُونِ الْأَعْضَاءِ، وَمِنْ هَذَا القبيل أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ لَا يُشَبِّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ»، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ فِي صَلَاةٍ وَحَكَى النَّوَوِيُّ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ الْعُلَمَاءِ.
الثَّانِي: تَكْثِيرُ الْخُطَا؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ tقَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَقَارَبَ فِي الْخُطَى فَقَالَ: «أَتَدْرِي لِمَ مَشَيْتُ بِكَ هَذِهِ الْمِشْيَةَ؟» فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ: «لِتَكْثُرَ خُطَانَا فِي الْمَشْيِ إِلَى الصَّلَاةِ»([13])، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه.
الثَّالِثُ: ذَكَرَ الْمُهَلَّبِ أَنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَبْهَرَ (يرهق) الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَرْتِيلِ الْقُرْآنِ وَلَا مِنْ الْوَقَارِ اللَّازِمِ لَهُ فِي الْخُشُوعِ انْتَهَى.
- الرابعة: قوله: (وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ) فِيهِ النَّدْبُ الْأَكِيدُ إِلَى إِتْيَانِ الصَّلَاةِ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَالنَّهْيُ عَنْ إِتْيَانِهَا سَعْيًا ([14]).
- قال الطيبي: أي الزموا السكينة في جميع أموركم، خصوصاً في الوفود إلي جناب رب العزة([15]).
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا وَلَا بَيْنَ أَنْ يَخَافَ فَوْتَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ أَوْ فَوْتَ رَكْعَةٍ أَوْ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا يَخَافُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ([16]).
وقد أجمع العلماء على استحباب المشي بالسكينة إلى الصلاة، وترك الإسراع والهرولة في المشي، وهذا ما لم يخش فوات التكبيرة الأولى والركعة، فإن خشي فواتها، ورجا بالإسراع إدراكها، فقد اختلفوا: هل يسرع حينئذ، أم لا على قولين([17]):
الأول: أفاد أَنَّ مَنْ خَافَ الْفَوْتَ سَعَى وَمَنْ لَمْ يَخَفْ مَشَى عَلَى هِينَتِهِ، روي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عمر وابن مسعود و الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وبه قال مالك وإسحاق بن راهويه، وأحمد في رواية([18]).
الثاني: أفاد كراهة الإسراع على أي حال، روي ذلك عن ابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي ذر، وأبي هريرة، وعطاء، وحكاه ابن عبد البر عن جمهور العلماء، وهو قول الثوري، والشافعي وأحمد في رواية([19]).
ولكل قول أدلة إليك بيانها:
أدلة القول الأول:
1. عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَيَتَحَدَّثُ عِنْدَهُمْ حَتَّى يَنْحَدِرَ لِلْمَغْرِبِ قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ r يُسْرِعُ إِلَى الْمَغْرِبِ مَرَرْنَا بِالْبَقِيعِ. وذكر الحديث([20]).
اعترض عليه: أنه محمولٌ على أنه إسراع خفيف لا يُخِلُّ بالخشوع المطلوب في المشي إلى الصلاة([21]).
2. قد ثبت عن بعض أصحاب النبي r أنهم كانوا يسعون إذا خافوا فوت التحريمة، وطمعوا في إدراكها([22]).
فعَنْ نَافِعٍ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ سَمِعَ الْإِقَامَةَ وَهُوَ بِالْبَقِيعِ، فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ([23]).
اعترض عليه: إن ابن عُمَرَ لَمْ يَزِدْ عَلَى هَيْئَةِ مِشْيَتِهِ الْمَعْهُودَةِ؛ لَأَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ وَيَقُولُ هُوَ أَبْعَدُ مِنَ الزَّهْوِ.
ورده ابن عبد البر بقوله: وَهَذَا عِنْدِي خِلَافُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ نَافِعًا مَوْلَاهُ قَدْ عَرَّفَ مَشْيَهُ وَحَالَهُ فِيهِ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ الْإِقَامَةَ أَسْرَعَ الْمَشْيَ وَهَذَا بَيِّنٌ، وقد روى ابن عُيَيْنَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ قال: كان ابن عُمَرَ إِذَا مَشَى إِلَى الصَّلَاةِ لَوْ مَشَتْ مَعَهُ نَمْلَةٌ مَا سَبَقَهَا.
وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِحَدِيثِ نَافِعٍ عَنْهُ أَنَّهُ أَسْرَعَ إِذَا سَمِعَ الْإِقَامَةَ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ عَنْهُ فِي حَالٍ لَا يَخَافُ فِيهَا أَنْ يَفُوتَ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ وَكَانَتْ أَغْلَبَ أَحْوَالِهِ([24]).
وعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَوْ قَرَأَتُهَا فَاسْعَوْا لَسَعَيْتُ حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي، وَكَانَ يَقْرَأُهَا «فَامْضُوا»([25]).
وعَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «أَحَقُّ مَا سَعَيْنَا إِلَيْهِ الصَّلَاةُ»([26]).
وَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُمْ كَانُوا يُهَرْوِلُونَ إِلَى الصَّلَاةِ ([27]).
أدلة القول الثاني:
1. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ tعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ, وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ, وَلَا تُسْرِعُوا, فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا, وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»([28]).
وعنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ فَلَا يَسْعَ إِلَيْهَا أَحَدُكُمْ، وَلَكِنْ لِيَمْشِ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ، وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ»([29]).
قَالَ ابن عبد البر: مَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ r إِنَّمَا زَجَرَ عَنِ السَّعْيِ مَنْ خَافَ الْفَوْتَ لِقَوْلِهِ (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) وَ(إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ)، وَقَالَ: (فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا) فَالْوَاجِبُ أَنْ يَأْتِيَ الصَّلَاةَ مَنْ خَافَ فَوْتَهَا وَمَنْ لَمْ يَخَفْ بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ وَتَرْكِ السَّعْيِ وَتَقْرِيبِ الْخُطَا لِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ وَهُوَ الْحُجَّةُ r([30]).
وقال ابن بطال: الحديث يرد ما فعله ابن عمر من إسراعه إلى الصلاة حين سمع الإقامة، ويُبين أن الحديث على العموم، وأن السكينة تلزم من سمع الإقامة، كما تلزم من كان في سعة من الوقت ([31]).
2. وعن عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي بَكَرَةَ، يُحَدِّثُ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ، جَاءَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَاكِعٌ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَ نَعْلِ أَبِي بَكَرَةَ وَهُوَ يَحْضُرُ، يُرِيدُ أَنْ يُدْرِكَ الرَّكْعَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنِ السَّاعِي؟» قَالَ أَبُو بَكَرَةَ: أَنَا، قَالَ: «زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا، وَلَا تَعُدْ»([32]).
وفي رواية عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَسَمِعَ نَفَسًا شَدِيدًا أَوْ بَهَرًا مِنْ خَلْفِهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ: «أَنْتَ صَاحِبُ هَذَا النَّفَسِ؟» قَالَ: نَعَمْ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، خَشِيتُ أَنْ تَفُوتَنِي رَكْعَةٌ مَعَكَ فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ وَاقْضِ مَا سَبَقَ "([33]).
3. وعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَإِنَّا لَنُقَارِبُ بَيْنَ الْخُطَا إِلَى الصَّلَاةِ»([34]).
4. وعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَامْشِ إِلَيْهَا كَمَا كُنْتَ تَمْشِي، فَصَلِّ مَا أَدْرَكْتَ وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ»([35]).
5. وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ فَحَبَسَنِي»([36]).
6. وعن سُفْيَانَ بْنِ زِيَادٍ، أَنَّهُ كَانَ يَنْطَلِقُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَسْتَعْجِلُ، قَالَ: فَلَحِقَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فَقَالَ: «اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ، فَإِنَّكَ فِي صَلَاةٍ، لَنْ تَخْطُوَ خُطْوَةً إِلَّا رَفَعَ اللَّهُ لَكَ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً»([37]).
7. وعَنْ بُهَيَّةَ حَاضِنَةِ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، قَالَتْ: سَمِعْتُ الْإِقَامَةَ فَأَسْرَعْتُ، فَمَرَرْتُ بِعَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ وَأَنَا مُسْرِعَةٌ فَجَذَبَ ثَوْبِي، وَقَالَ: «امْشِ عَلَى رِسْلِكَ»([38]).
8. وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خُلَيْدَةَ، قَالَ: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَوْ مَشَتْ مَعَهُ نَمْلَةٌ لَرَأَيْتُ أَنْ لَا يَسْبِقَهَا»([39]).
9. وعَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي أَنَسٌ فَجَعَلَ يَمْشِي رُوَيْدًا إِلَى الصَّلَاةِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: «هَكَذَا كَانَ يَصْنَعُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ لِيُكْثِرَ خُطَاهُ»([40]).
- الخامسة: قَوْله: (وَلَا تُسْرِعُوا) فِيهِ زِيَادَة تَأْكِيد، وَلَا مُنَافَاة بَينه وَبَين قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا﴾[الجمعة: 9] وَإِن كَانَ مَعْنَاهُ يشْعر بالإسراع، لِأَن المُرَاد بالسعي الذّهاب، يُقَال: سعيت إِلَى كَذَا أَي: ذهبت إِلَيْهِ، وَالسَّعْي أَيْضا جَاءَ بِمَعْنى: الْعَمَل، وَبِمَعْنى: الْقَصْد([41]).
قال جار الله في الآية: السعي القصد دون العدو والسعي التصرف في كل عمل ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾[النجم: 39]، وعن الحسن: ليس السعي على الأقدام ولكن على النيات والقلوب([42]).
- السادسة: قوله: (فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا) أي القدر الذي أدركتموه من الصلاة مع الإمام فصلوا معه([43]).
قال الباجي: يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فِي الدُّخُولِ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي يُوجَدُ عَلَيْهَا وَلَا يَشْتَغِلُ بِإِعَادَةِ مَا فَاتَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي أَنْ لَا يُصَلِّيَ مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ وَيَقْتَضِي أَنْ يَتْبَعَهُ فِيمَا لَا يَعْتَدُّ بِهِ مِنْ صَلَاتِهِ كَالسَّجْدَةِ الَّتِي فَاتَتْ رَكْعَتُهَا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا أَدْرَكَ فِعْلَهُ([44]).
- السابعة: قوله: (فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا) الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِذَا بَيَّنْتُ لَكُمْ مَا هُوَ أَوْلَى بِكُمْ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَيَحْصُلُ لَكُمُ الثَّوَابُ كَامِلًا، وَبِإِطْلَاقِهِ أَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ تُدْرَكُ بِأَيِّ جُزْءٍ أُدْرِكَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَيَحْصُلُ لِلْمَأْمُومِ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ السَّبْعُ وَالْعِشْرُونَ دَرَجَةً، لَكِنْ مَنْ أَدْرَكَهَا مِنْ أَوَّلِهَا تَكُونُ دَرَجَتُهُ أَكْمَلَ([45])؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا» وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ([46]).
قال ابن حزم: فَهَذَا عُمُومٌ لِمَا أَدْرَكَهُ الْمَرْءُ مِنْ الصَّلَاةِ، قَلَّ أَمْ كَثُرَ، وَهَذَانِ الْخَبَرَانِ زَائِدَانِ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ «مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» وَلَا يَحِلُّ تَرْكُ الْأَخْذِ بِالزِّيَادَةِ.
وَرُوِّينَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ أَدْرَكَ قَوْمًا جُلُوسًا فِي آخِرِ صَلَاتِهِمْ فَقَالَ: أَدْرَكْتُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ؟.
وَعَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ: مَنْ أَدْرَكَ التَّشَهُّدَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ.
وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: إذَا أَدْرَكَهُمْ سُجُودًا سَجَدَ مَعَهُمْ.
وَعَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قُلْت لِعَطَاءٍ: إنْ سَمِعَ الْإِقَامَةَ أَوْ الْأَذَانَ وَهُوَ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ أَيَقْطَعُ صَلَاتَهُ وَيَأْتِي الْجَمَاعَةَ؟ قَالَ: إنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ شَيْئًا فَنَعَمْ([47]).
وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ مِنْ الشافعية إلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا تُدْرَكُ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ؛ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ"، وَقِيَاسًا عَلَى الْجُمُعَةِ([48]).
وأجيب عنه أنه ورد في الأوقات، وأن في الجمعة حديثًا خاصًا بها([49]).
- الثامنة: قوله: (وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) فيه دليل على أن ما أدركه المرء من صلاة الإمام فهو أول صلاته؛ لأن الإتمام إنما يكون في أمر قد مضى بعضه ([50])، وقد اختلف العلماء في المسألة على ثلاثة أقوال:
الأول: أفاد أن ما أدركه المسبوق من صلاة إمامه هو أول صلاته، وَمَا يَأْتِي بِهِ بَعْدَ سَلَامِهِ آخِرُهَا، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري ومكحول وعطاء والزهري والأوزاعي ومالك في المشهور والشافعي وإسحاق بن راهويه وأحمد في رواية([51]).
إلا أنهم قالوا إنه يقضي مثل الذي فاته من قراءة السورة مع أم القرآن في الرباعية، لكن لم يستحبوا له إعادة الجهر في الركعتين الباقيتين([52]).
الثاني: أفاد أن ما أدركه المسبوق من صلاة إمامه هو آخر صلاته، والذى يقضيه أول صلاته، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، والنخعي، والشعبي، وابن سيرين، وأبى قلابة، وبه قال سفيان الثوري ومجاهد وأبو حنيفة ومالك في قول وأحمد بن حنبل في الراجح([53]).
الثالث: أفاد أَنَّهُ أَوَّلُ صَلَاتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَفْعَالِ وَآخِرُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَقْوَالِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَيُوَافِقُهُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ رُبَاعِيَّةٍ ثُمَّ قَامَ لِلتَّدَارُكِ يَقْرَأُ السُّورَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ([54]).
ولكل قول أدلة إليك بيانها:
أدلة القول الأول:
1. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ, وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ, وَلَا تُسْرِعُوا, فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا, وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»([55]).
والتمام لا يكون إلا للآخر، ومستحيل أن يكون ما أدرك: آخر صلاته، فعمله أولاً؛ لأنه لا يكون آخرًا إلا وقد تقدمه أول([56]).
اعترض عليه: أن صَلَاة الْمَأْمُوم مرتبطة بِصَلَاة الإِمَام، فَيحمل قَوْله: " فَأتمُّوا " على أَن من قضى مَا فَاتَهُ فقد أتم، لِأَن الصَّلَاة تنقص بِمَا فَاتَ، فقضاؤه إتْمَام لما نقص([57]).
2. اتفاق الجميع على أن الإحرام لا يكون إلا في أول الصلاة، والتشهد والسلام لا يكون إلا في آخرها، فكان ما أدرك: أول صلاته([58]).
3. أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَشَهَّدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَوْ كَانَ مَا يُدْرِكُهُ مَعَ الْإِمَامِ آخِرًا لَهُ لَمَا احْتَاجَ إِلَى إِعَادَة التَّشَهُّد([59]).
4. اعترض عليه: يجب عليه أن يعيد التشهد لأنه لم يفعل التسليم، ومن سنة التسليم أن يكون عقيب التشهد([60]).
5. أجيب عليه: قال ابن حجر: لَيْسَ بِالْجَوَابِ النَّاهِضِ عَلَى دَفْعِ الْإِيرَادِ الْمَذْكُورِ([61]).
أدلة القول الثاني:
1. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا»([62]).
والقضاء لا يكون إلا لفائت، ومعلوم أن الفائت من صلاة المأموم ما سبقه به إمامه، وهو أول الصلاة، فاقتضى أن يكون ما يقضيه بعد تسليم الإمام فائتًا، وأن الذى صلاه مع الإمام ليس هو الفائت([63]).
اعترض عليه من وجهين:
الأول: ذكر أبو داود في هذا الباب أن أكثر الرواة اجتمعوا على قوله وما فاتكم فأتموا، وإنما ذكر عن شعبة عن سعد بن إبراهيم، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة عن النبي r قال صلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقكم. قال وكذا قال ابن سيرين، عَن أبي هريرة وكذا قال أبو رافع عن أبى هريرة([64]).
قال مسلم في "التمييز": لا أعلم هذِه اللفظة رواها عن الزهري عن سفيان بن عيينة، وأخطأ في هذِه اللفظة. قال البيهقي: والذين قالوا: فأتموا. أكثر وأحفظ وألزم لأبي هريرة، فهو أولى ([65]).
الثاني: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَضَاءِ الْفِعْلُ لَا الْقَضَاءُ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ الْقَضَاءِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ؛ فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾[فصلت: 12]، وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾[البقرة: 200]، وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ﴾[الجمعة: 10] وَيُقَالُ: قَضَيْتُ حَقَّ فُلَانٍ وَمَعْنَى الْجَمِيعِ الْفِعْلُ([66]).
قال ابن حجر: وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ وَرَدَ بِلَفْظِ: "فَأَتِمُّوا"، وَأَقَلُّهَا بِلَفْظِ: "فَاقْضُوا"، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ ذَلِكَ إِذا جعلنَا بَين الإتمام وَالْقَضَاءِ مُغَايَرَةً لَكِنْ إِذَا كَانَ مَخْرَجُ الْحَدِيثِ وَاحِدًا وَاخْتُلِفَ فِي لَفْظَةٍ مِنْهُ وَأَمْكَنَ رَدُّ الِاخْتِلَافِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ كَانَ أَوْلَى وَهُنَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَإِنْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْفَائِتِ غَالِبًا لَكِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْأَدَاءِ([67]).
أجيب عليه: لَو سلمنَا أَن الْقَضَاء بِمَعْنى الْأَدَاء فَيكون مجَازًا، والحقيقة أولى من الْمجَاز، وَلَا سِيمَا على أصلهم أَن الْمجَاز ضَرُورِيّ لَا يُصَار إِلَيْهِ إلاَّ عِنْد الضَّرُورَة والتعذر([68]).
أدلة القول الثالث:
عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: "مَا أَدْرَكْتَ مَعَ الْإِمَامِ فَهُوَ أَوَّلُ صَلَاتِكَ وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ"([69]).
قالوا: لِئَلَّا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ عَنْ السُّورَةِ([70]).
- التاسعة: قوله: (وما فاتكم فأتموا) فيه دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ فَاتَتْنَا الصَّلَاةُ وَأَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَكَرِهَهُ بن سِيرِينَ وَقَالَ إِنَّمَا يُقَالُ لَمْ نُدْرِكْهَا([71]).
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصَحُّ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا وَجْهَ لِقَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ([72]).
قال ابن رجب: فَسَمَّى القَدْرَ المَسْبُوقَ بِهِ مَعَ الإِمَامِ فَائِتاً، مع قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ»([73]). فكيف بما لم يدرك مع الإمام من صلاته شيئاً، فإنه أولى أن يسمى فائتاً.
وَالظَّاهِرُ: أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ إِنَّمَا يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: (فَاتَتْنَا الصَّلَاةُ)؛ فَإِنَّهَا فَاتَتْهُ حَقِيقَةً.
وكان ابن سيرين لِشِدَّةِ وَرَعِهِ يَتَوَرَّعُ فِي مَنْطِقِهِ، وَيَتَحَفَّظُ فِيهِ، ويكره أن يتكلم بما فيه نوع توسع أو تجوز، وإن كان سائغاً في لغة العرب([74]).
- العاشرة: قوله: (وما فاتكم فأتموا) استدلَّ به من قال أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا لم تُحْسَبُ لَهُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ؛ لِأَنَّهُr أَمَرَهُ بِإِتْمَامِ مَا فَاتَهُ وَقَدْ فَاتَتْهُ الْوَقْفَةُ وَقِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ، وهو قول أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ وَهْبٍ وحَكَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ عَنْ كُلِّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَة خلف الإِمَام، وَاخْتَارَهُ بن خُزَيْمَةَ وَالضُّبَعِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ مُحَدِّثِي الشَّافِعِيَّةِ وَقَوَّاهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، لَكِنَّهُ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ شَاذٌّ مُنْكَرٌ وَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَعَلَيْهِ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا إدْرَاكُ الرَّكْعَةِ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ([75]).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
([1]) أخرجه: البخاري/ صحيحه (636) (1/129)، مسلم/ صحيحه (602) (1/420).
([2]) أخرجه: البخاري/ صحيحه (2699) (3/ 185).
([3]) أخرجه: البخاري/ صحيحه (635 ) (1/ 129).
([4]) ابن رجب/ فتح الباري (5/ 391).
([5]) أخرجه: مسلم/ صحيحه (602) (1/421).
([6]) النووي/ شرحه على مسلم (5/ 99).
([7]) العراقي/ طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 355).
([8]) النووي/ شرحه على مسلم (5/ 100)؛ العراقي/ طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 357).
([9]) القرطبي/ المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 5).
([10]) العراقي/ طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 358).
([11]) النووي/ شرحه على مسلم (5/ 100).
([12]) القاري/ مرقاة المفاتيح (2/578).
([13]) أخرجه: الطبراني/ المعجم الكبير (4796) (5/ 117).
([14]) النووي/ شرحه على مسلم (5/ 99).
([15]) الطيبي/ شرح المشكاة (3/ 924).
([16]) العراقي/ طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 354).
([17]) ابن رجب/ فتح الباري (5/ 392).
([18]) ابن عبد البر/ الاستذكار (1/ 380)؛ ابن رجب/ فتح الباري (5/ 392)؛ القرطبي/ المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 4)؛ ابن بطال/ شرح صحيح البخاري (2/ 260).
([19]) ابن عبد البر/ الاستذكار (1/ 381)؛ ابن رجب/ فتح الباري (5/ 393)؛ العراقي/ طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 354).
([20]) حسن الإسناد، أخرجه: النسائي/ سننه (862 ) (2/ 115).
([21]) الولوي/ ذخيرة العقبى (11/12).
([22]) ابن رجب/ فتح الباري (5/ 393).
([23]) أخرجه: مالك/ الموطأ (234) (2/ 99).
([24]) ابن عبد البر/ الاستذكار (1/ 382).
([25]) أخرجه: عبد الرزاق/ مصنفه (5349 ) (3/ 207).
([26]) أخرجه: ابن أبي شيبة/ مصنفه (7398) (2/ 137).
([27]) ابن عبد البر/ الاستذكار (1/ 381).
([28]) أخرجه: البخاري/ صحيحه (636) (1/129)، مسلم/ صحيحه (602) (1/420).
([29]) أخرجه: مسلم/ صحيحه (602) (1/ 421).
([30]) ابن عبد البر/ الاستذكار (1/ 381).
([31]) ابن بطال/ شرح صحيح البخاري (2/ 261).
([32]) أخرجه: أحمد/ مسنده (20435) (34/ 82).
([33]) أخرجه: البخاري/ القراءة خلف الإمام (125) (ص: 48).
([34]) أخرجه: ابن أبي شيبة/ مصنفه (7405) (2/ 138).
([35]) أخرجه: ابن أبي شيبة/ مصنفه (7402) (2/ 138).
([36]) أخرجه: ابن أبي شيبة/ مصنفه (7406 ) (2/ 138).
([37]) أخرجه: ابن أبي شيبة/ مصنفه (7407 ) (2/ 138).
([38]) أخرجه: ابن أبي شيبة/ مصنفه (7408) (2/ 138).
([39]) أخرجه: ابن أبي شيبة/ مصنفه (7410 ) (2/ 139).
([40]) أخرجه: ابن أبي شيبة/ مصنفه (7411 ) (2/ 139).
([41]) العيني/ عمدة القاري شرح صحيح البخاري (5/ 152).
([42]) الصنعاني/ التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 587).
([43]) الكرماني/ الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/ 30).
([44]) الباجي/ المنتقى شرح الموطإ (1/ 132).
([45]) القاري/ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 578).
([46]) العراقي/ طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 359)؛ ابن رجب/ فتح الباري (2/ 118).
([47]) ابن حزم/ المحلى بالآثار (3/ 182).
([48]) ابن رجب/ فتح الباري (2/ 118).
([49]) الولوي/ ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (10/ 684).
([50]) الخطابي/ أعلام الحديث (1/ 468).
([51]) الخطابي/ معالم السنن (1/ 163)؛ ابن بطال/ شرح صحيح البخاري (2/ 261)؛ ابن عبد البر/ الاستذكار (1/ 382)؛ القاضي عياض/ إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 554)؛ ابن الجوزي/ كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 141)؛ النووي/ شرحه على مسلم (5/ 100)؛ ابن رجب/ فتح الباري (5/ 397)؛ العيني/ عمدة القاري شرح صحيح البخاري (5/ 150).
([52]) اللاعي/ البدر التمام شرح بلوغ المرام (3/ 356).
([53]) القاضي عياض/ إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 554)؛ ابن رجب/ فتح الباري (5/ 397)؛ العيني/ عمدة القاري شرح صحيح البخاري (5/ 150).
([54]) العراقي/ طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 362)؛ الزرقاني/ شرحه على الموطأ (1/ 269).
([55]) أخرجه: البخاري/ صحيحه (636) (1/129)، مسلم/ صحيحه (602) (1/420).
([56]) ابن بطال/ شرح صحيح البخاري (2/ 262).
([57]) ابن الجوزي/ كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 141).
([58]) ابن بطال/ شرح صحيح البخاري (2/ 262).
([59]) ابن رجب/ فتح الباري (2/ 119).
([60]) ابن بطال/ شرح صحيح البخاري (2/ 262).
([61]) ابن رجب/ فتح الباري (2/ 119).
([62]) صحيح، أخرجه: النسائي/ سننه (861 ) (2/ 114).
([63]) ابن بطال/ شرح صحيح البخاري (2/ 262).
([64]) الخطابي/ معالم السنن (1/ 163).
([65]) ابن الملقن/ التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/ 404).
([66]) النووي/ شرحه على مسلم (5/ 100).
([67]) ابن رجب/ فتح الباري(2/ 119).
([68]) العيني/ عمدة القاري شرح صحيح البخاري (5/ 151).
([69]) أخرجه: البيهقي/ السنن الكبرى (3633) (2/ 425).
([70]) العراقي/ طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 362).
([71]) النووي/ شرحه على مسلم (5/ 99).
([72]) العراقي/ طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 365).
([73]) أخرجه: البخاري/ صحيحه (580 ) (1/ 120).
([74]) ابن رجب/ فتح الباري (5/ 387).
([75]) العراقي/ طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 364)؛ ابن رجب/ فتح الباري(2/ 119)؛ العيني/ عمدة القاري شرح صحيح البخاري (5/ 152).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد