“ياولدي”


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

“ياولدي” خطبة مؤثرة تجسد آلم فراق الآباء لأبنائهم خريجي الثانوية

يا ولدي أكتب إليك هذه الرسالة وفي قلبي مشاعر مزدحمة من الفرحة والحزن والخوف والأمل، حين علمت أنك ستحزم حقائبك للسفر والتسجيل، طافت بي ذكريات كثيرة وأحزان وأشجان، أشعر أن قاربك الصغير الذي طالما كان يقف على شطآن قلبي سيرحل إلى أمواج البحر بعيداً عن نظري..

يا ولدي

مهما شرحت لك مشاعري، فلن تتمكن من إدراكها حتى تصير أبًا مثلي، أنت لست مجرد شاب سيرحل إلى الجامعة، أنت تاريخ من الذكريات منذ أن علمت أمك أنها تحملك بين ضلوعها، بدأت حكايتنا معك يا ولدي..

تسعة عشر عاماً اليوم، كل يوم قصة جديدة ورواية من روايات الشجن، طريق طويلة فيها منعطفات الألم، ووقفات القلق، وفيها بسمات وأفراح كنت تكبر فتكبر معك همومنا، وتطول بقدر طولك مخاوفنا، حين حملت حقيبتك وذهبت للمدرسة لأول مرة لا أنسى دموع أمك وهي تودعك لأول يوم دراسي، ومرت الأيام، ومشهد الدموع يتكرر، قصتنا معك أكبر من أن تضم أحداثها رسالتي إليك.

وها أنا اليوم أعيش لحظات عصيبة أرى فيها قطعة من روحي تنزع وترحل عني، ماذا أقول لك يا ولدي؟

ربما تقول في نفسك إنها مواعظ معروفة، ونصائح مكررة، كلا يا بني والله لو طفت هذا العالم لن تجد قلبًا يحبك اليوم كقلبي وقلب أمك، أناديك فاستمع إليَّ ، فربما يدهشك أن أقول لك لقد تمنيت أنك مازلت صغيراً، تنام بجواري، وأضمك إلى صدري، وأغلق عليك بابي، وأحملك على كتفي.

استمع إليَّ فطوفان المخاوف يزلزل قلبي عليك، كيف لا أخاف عليك وأنا أسمع عن شباب سحقتهم المخدرات، وضيعتهم المسكرات، كيف لا أخاف يا ولدي، وأنا أرى شبابًا أحرقوا أوراق حياتهم بالضياع والانحراف، كيف يا ولدي وصور الشباب المنحرف تطير النوم من عيني ، كيف يمكن لي أن أراك يا حبيبي مثلهم؟!

احفظ الله يحفظك” أحسن كلمة أهديها لك اليوم ، أرجوك اكتبها في قلبك، وانقشها في روحك، تمتم بها في خلواتك، ورددها معك، في طريقك احفظ الله يحفظك، احفظ الله يحفظك يا ولدي فأبوك ضعيف عاجز لا يعرف ماذا ستفعل حين ترحل عن فناء البيت غدًا، لا أستطيع أن أحرسك ووددت أن أستطيع ذلك، لا أدري يا ولدي هل ستصلي أم لا، لا أدري ولا أستطيع أن أدري ولكن الله يدري فاحفظ الله يحفظك، احفظ الله الذي يراك في سيارتك، وفي سكنك، وفي طريقك، ومع زميلك ووحدك.

اسمع لنصيحة والد مشفق مثلي، وهو يقول لولده: “يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير”.

اتق الله يا ولدي حيثما كنت فإذا فعلت ذلك فلن تحتاج إلىّ أبداً، فالله سيكون معك، سيفرج كربتك إن حلت بك الكربات، وسيزيح همك إن طافت بك الهموم والملمات، يا ولدي الحياة مليئة بالمتاعب، وأنت ستكون بحاجة إلى ربك حتماً، فكن مع الله يكن الله معك.

سأخبرك بصاحب عرفته وخبرته وكنت كلما أصابتني حاجة فزعت إليه ، لا تتردد اتصل به في أي وقت ، في ليل أو نهار، في أية شدة إنه الله يا ولدي، إذا أصابك خوف أو هم أو عدو أو ألم فأنت تعرف الطريق إلى السماء، ارفع يديك إلى مولاك الرحمن واسأله أي شيء تريده ، فوالله لن يخيبك يا ولدي، إذا ظلمك أستاذك، أو تعطلت أوراقك، أو تنكدت معاملتك، أو صعبت عليك المادة، أو تعسر عليك الفهم، أو ازدحمت عليك الاختبارات، أو ضاق عليك الوقت، أو احترت ماذا تختار، وفي أي تخصص تذهب فناد ربك يسمعك، واستجر به يجيرك، واستخره يخيرك.

الصلاةَ الصلاةَ، أسألك بالله ألا تتركها قط، صلاة الفجر هي المستقبل وهي الأمن وهي الراحة والسعادة، لا تصلِّها في البيت، كن من المشائين في الظلَم إلى المساجد، إني أتخيلك في الظلام تسير إلى بيت الله مصلياً، فيقفز فؤادي من الفرح، نوَّر الله قلبك، كل العالم يا بني مجمعون على أن الصديق يؤثر في صديقه.

صاحب الأخيار تكن مثلهم، ارتفع مع الطيبين يرفعوك، توحش من العصاة والمنحرفين، كن حازماً ولا تجاملهم، قوياً لا تضعف أمامهم، لا بد من قرارات صعبة لنعيش حياة سوية، كل قصة في السجون خلفها صديق يا ولدي، كل جريمة قادت إلى القتل تحتها صاحب ساحب.

واعلم يا بني أن من خان الله يخون عباده ، ومن عق والديه فلا خير فيه، والأخيار يعينونك على الخيرات، ويشجعونك في الطيبات، إن هذا التحذير قد قاله كثيرون واستمع كثير فنجوا، ولم يستجب له بعضهم فهلكوا فلا تكن –حفظك الله– من الهالكين.

أنت هناك في مهمة والرجال يعيشون لمهماتهم، أنت لم تسافر لتلعب وتسهر وتتمشى وتتنزه، أنت هناك لواجب الرجال، ومسؤوليات الأبطال، أنت سفير فوق العادة لأب وأم لو كنت تعلم أي حال تركتهما عليه، لما هانت عليك دموعهما، ولما سهل عليك سهرهما، لو كنت تقرأ في صفحات قلوبهما لقرأت قصصاً من الأمل، وروايات من الانتظار قد رسموك وقد عدت ناجحاً، وتخيلوك وقد أتيت متفوقاً، لو كنت تعلم ذلك لأدمنت السهر في المذاكرة، وقطعت العمر في التعلم، ولهان عليك التخلي عن سهرات اللاهين، وتجمعات المتهاونين.

يا ولدي هل ترى الناجحين العظماء اليوم؟

أنت مؤهل لأن تسجل اسمك معهم، أي تخصص ستذهب إليه يمكن أن تكون عظيمًا فيه، أما قائمة الفشل فسترى خلفها سهرات على البلوت، وذهابًا إلى المتنزهات والبحار والمباريات، سلهم عن حالهم سيقولون ليالي الضياع على الأفلام الوضيعة والمباريات التافهة والسهرات التائهة.

سنوات قضاها هؤلاء وهؤلاء صنعت الفرق في العمر كله، الزم بيتك ولا تخرج إلا لحاجة ومهمة، فقصص النجاح الكبرى حتى لأعظم عظماء التاريخ صنعوها في بيوتهم .

أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابكِ على خطيئتك.

(أستودعك الله يا ولدي).

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply