أويس


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

معاشر المؤمنين:

يقول الله عز وجل: ىتِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ

يقرأ الناس تاريخ الرجال، ليبحثوا عن أسرار العظمة، ومفاتيح النجاح، ينقبون في السير بحثا عن التجارب الخالدة في الزمن، يثيرون المزيد من الأسئلة، عن خريطة السير إلى أمجادهم، ويفتشون بشغف عن جواب لسؤالهم القديم: كيف؟

وكثيرا ما تحدثنا كتب التراجم عن القادة والخلفاء والأمراء، والعلماء والمخترعين الذي ضج بهم العالم، وملأوه شهرة وحضورا.

لكنني اليوم مع إنجاز مختلف، ومع شخصية فريدة، ومع نوع جديد مع رجل هرب من التاريخ فلحقه التاريخ

وفر من الأضواء فصار نورا وضياء

رجل أحب الخفاء، وتوله بالذوبان في الجموع، وانخلع قلبه من الشهرة،

رجل بلا بطاقة ولا هوية ولا مؤلفات، ولا حشود، ولا معارف،ولا دروس ولا خطب ولا محاضرات، ولا مناصب، ولا جماهير، ولا أتباع، ولا شهادات،

وضعه محمد عليه الصلاة والسلام، في الصف الأول وحده بعد جيل الصحابة

إنه أفضل الناس على الإطلاق بعد الصحابة،

أفضل على تتابع الأجيال ومرور الطبقات،

أفضل من كل الملايين من العلماء والعباد والأخيار والأبرار من البشر إلى يوم القيامة

أفضيلة مطلقة بعد الجيل الحائز على مزية الصحبة

تقدم فريد عليه توقيع خاتم النبيين، في أصحب الكتب بعد كتاب الله فقد روى مسلم في صحيحه

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ (إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ وَلَهُ وَالِدَةٌ وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ).

التابعي الجليل أويس من مراد من أهل اليمن

يعيد صياغة الفكرة في قلوبنا

ويجدد معنى النجاح في حياتنا

ويكتب من جديد معنى الخلود في ضمائرنا

ويسقط هالة الظهور والشهرة من آفاقنا

ينتشلنا من لهث البحث عن العيون، والتنقيب عن الأسماع،

ليضعنا من جديد على المسار الصحيح

ترجمة حياته يجب أن تعاد قراءتها، وأن ينقب بصدق في لغز نجاحها،

هذا حديث آخر في صحيح مسلم يزيح الستار عن جوانب في حياة أويس

عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ نَعَمْ . قَالَ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ قَالَ نَعَمْ.

قَالَ فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ قَالَ نَعَمْ. قَالَ لَكَ وَالِدَةٌ قَالَ نَعَمْ. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «يَأْتِى عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ». فَاسْتَغْفِرْ لِى. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ الْكُوفَةَ. قَالَ أَلاَ أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا قَالَ أَكُونُ فِى غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَىَّ.

أول مفاتيح الفلاح، في حياة أويس القلب،

نعم إنه القلب، الباحث عن جواهر الأشياء وحقائقها، والضمير الذي ليس فيه أحد إلا الله وحده

أويس كان يعرف أنه لم يكن عالما يحتاج إلى البروز، ولا شخصية يلزم منه الظهور

ممزياته صلاح قلبه، وبر والدته، وصبر على قضاء الله وقدره،

وكلها صفات لا تحتاج إلى تسويق، ولا تفتقر إلى الاستعراض، ولا تدعو إلى حشدها في السيرة الذاتية

بل تحتاج إلى شخصية قادرة على مقاومة الجوع إلى الأضواء، والفقر إلى الشهرة

إنه قوة هائلة تمكنت من المقاومة رغم مبررات الانتشار والحضور العالمي السهل

قال لعمر رضي الله عنه: أكون في غبراء الناس، حيث أجساد الفقراء المتعرقة، وثيابهم البالية، وأقدامهم المتشققة، ودموعهم الساخنة، وهمساتهم المسحوقة، وأوجاعهم المضنية، وبيوتهم المتواضعة

هناك يشعر أويس بعظمة الانتصار على النفس،

أخذ أويس من عمر الجائزة النبوية،ووضعها في صندوق الأسرار المليء بالأسرار الأويسية

ومضى بدون هالة، يذوب من جديد في التيار البشري المتدفق الذاهب إلى العراق

لقد نجح أويس والدليل أن كتب التاريخ لا تعرف شيئا يذكر عن أويس في العراق، بل بعض طرق الحديث الصحيح تدل على أنه كان يتعرض للأذى من الناس، كواحد من تلك الجموع المسحوقة التي تستخف بها البشر، وتتناولها الألسن، وتكون في مرمى سهام الهمز واللمز،

كان من الطبيعي لرجل تواضع ليلتصق بالأرض أن يعاني معانات الطبقة التي في مثل حاله، من العدوان على نياته وسلوكه

لكنه كان أكبر من الاستسلام،

كان أعظم من أن يرتقي إلى الطبقة المسترخية ليرتاح

وهذا هو الإنجاز بكل فخامته، والتأريخ بكل حضوره، ليست العظمة أن تدخل التاريخ ، العظمة الكبرى أن تضرب الباب في وجه التاريخ، لأنك تملك ما هو أعظم من التأريخ

إنها عبقرية أويس التي أدرك معها أسرار الإنجاز، فتشبث به،

أدرك أنه فضل الله عليه لم يكن بسبب الجماهير والأتباع، بل بشيء غيبه عن العيون، فتولع أويس بالخفاء والغياب

سر النجاح تلك الجلسة المتواضعة عند أقدام العجوز، والأيدي البارة التي تمتد إلى تلك الأقدام، بعيدا عن كاميرات التلفزة، ومنصات الإعلام، وزحام المهتمين

سر العظمة ليست لواقط المؤتمرات التي تلتصق بها الأفواه

بل السر هناك حيث تنطبع أفواه البر على على عروق بارزة في كف أم كبيرة، هناك حيث تنجز الأعمال الخالدة بعيدا عن الأخبار والأسماء والحشود

سر النجاح هو الصمود في وجه البلاء

والرضا عن القدر والقضاء، والمضي بتلك الأوجاع بلا شكوى، ولا ضجر، بنفوس راضية هانئة، تمتد بعيون صبرها إلى ما وراء الحياة، إلى حيث يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب

عبقرية أويس

حيث سأل ربه أن يبقي في جسده بقعة تذكره بماضي المرض، وتاريخ الوجع، حتى يظل القلب متحفزا للشكر، ومستثار بالحب والرضا

يريد أن تبقى البقعة تحت الثياب، تصرخ به في خلواته، تذكره بنعم الله عليه

يا لله

كم هي النعم الساقطة في دروب النسيان في حياتنا

حياة أويس مفعة بالأسرار، لم نستطع أن نفتح منها غير شيء يسير، لضيق المقام، عودوا غير مأمورين رحمكم الله إلى تدبرها، فتشوا في أعماق حروفها، لقد كان في قصصهم عبرة

اللهم اجعلنا من المعتبرين

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply