رحيلك مُرٌّ يا أبي


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

رحيلك مُرٌّ يا أبي.. ولكن المُلتقى الجنَّة “إن شاء الله

ليس هناك أقسى على النفس من رؤية حبيبك مُسجَّى بلا حِراك، تراه ولا يراك، تنظر إليه للمرة الأخيرة ولا تكاد تُصدِّق ما ترى، هَمَمْتُ مِراراً أن أسأل كل من يَمُرُّ بجانبي.. أحقاً مات أبي؟ أحقاً رحل ولن يعود؟ في المستشفى، في المغسلة، في المقبرة؛ أسألُ نفسي.. أين هو أبي؟ ولماذا لم يحضر معنا.. لا، لا، لم يمت حبيبي.. وإن مات فهو باقٍ في نفسي إلى أن ألحق به عند ربي في جِنان الخُلد..

يا أيها الطاهر النقي.. يا أيها الطيِّب السخي؛ لو علمتُ أنَّ رحيلك كان وشيكًا، لكُنتُ أعددتُ نفسي، وتقرَّبتُ منك أكثر، ولتزوَّدتُ من بِرِّك بما قد ينفعني بعد وفاتك، ولأخبرتك أنِّي لا أجد نفسي من دونك، ولا أعلم كيف سيصبح شكل حياتي بعدك، ليتك تسمعني الآن لأُخبرك أنَّ فراقك ينتزع الحياة من روحي، ويقذف بي إلى أعماق الضياع.

الحقيقة الوحيدة أنَّك غادرت الدنيا إلى الأبد!

‏إنَّ العين لتدمع، وإنَّ القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنا على فراقك يا أبي لمحزونون..

إنّا لله وإنّا إليه راجعون

رحلتَ وفي القلب غُصَّة وفي النفس حسرة؛ منحتنا كل شيء، ولم تأخذ منَّا شيئاً، كنت تشاطر أبناءك لقمتك، وتكدح في سبيل راحتهم، وتَضيق بك الدنيا من أجلهم، وفي كل يوم تحمل فوق كتفيك الخيرات إليهم، قدَّمتَ لنا ما لم يقدمه أبٌ لأبنائه، ومنذ أن عرفتُ الحياة وأنتَ لنا العطاء والاحتواء، والصبر والوفاء، وكنت أنت البارَّ بنا ولم ينلك البِرُّ منَّا كما يجب أن يكون البِرُّ.

زرعت فينا كرم الخُلُق، وسماحة النفس، ولين الطباع، وصِدق التواضع، وحُبَّ المساكين، والإحسان إلى المُسيئين، لم أسمعك يوماً تذكر أحداً بسوء، ولم أشاهد في حياتي أحداً يُبغضك، كنت تُوصيني بالهدوء والتثبُّت قبل إطلاق الأحكام وإحسان الظن في الجميع، لم تأتِ يوماً مدافعاً عن الباطل أو ساكتاً عنه؛ بل كنتُ تقف في وجه الظالم وتمنعه، ولو كان أقرب الأقربين إليك، عايشتُ هذا معك كثيراً ووجدته في نفسي، فيا لعظيم خِصالك يا أبي..

ستفتقدك المآذن وتشهد لك محاريبها، وقد صدح نداء الحق بصوتك سبعة عشر عاماً (الله أكبر الله أكبر.. لا إله إلا الله)

ستفتقدك مجالس لمِّ الشمل، ومشاريع الإصلاح؛ فكم من متخاصمين وأبناء عمومة مختلفين كان رأيك سبباً في الإصلاح بينهم..

ستفتقدك الأرامل والمطلقات، فكم من أرملةٍ كنتَ عوناً لها، وكم من مطلقة كنتَ سبباً في رجوعها إلى زوجها..

سأفتقدك أنا يا أبي..

فقدتُّك ويغلبني بكاءٌ مرير، رحلتَ وتركتني أتجرُّع ألم فراقك، فقدتُّك كثيراً، وأشعر أن الدنيا تضيق بي، ويا ليتني كنت أدري يا أبي يا ليتني كنت أدري..

أتعلم أي حزن يعبث في قلب ابنك وهو يحملك إلى الأجداث، يحملك إلى دار الانتقال والخلود!

ودَّعتُك وأبدلني الله بجميل ذِكرك، وبياض سيرتك، ودَّعتُك ولم أُودِّع مآثرك وكريم خصالك، ودَّعتُك ولم أنسَ إحسانك إلي، وصدق عطفك لا ينفك عني أبداً..

عزائي أنك أقبلتَ على مولاك بوجه مضيء، رافعاً سبابتك مُوحِّداً..

عزائي أنك أقبلتَ على من هو أرحم منَّا وأكرم منَّا، وأنك انتقلت من دار الفناء والبلاء إلى دار المستقر والبقاء..

عزائي يا أبي هو حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: “إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله قبل موته، قالوا: يا رسول الله! وكيف يستعمله؟ قال: يُوفِّقه لعملٍ صالح، ثم يقبضه عليه) رواه أحمد وصحَّحه الألباني.

قد كنتَ تدعو الله أن يقبضك وأنت في مدينة رسول الله، أو داخل البلد الحرام؛ ولكنَّك جمعتَ الحُسنيين؛ فلم يمضِ على وصولك من زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يوم واحد حتى قبض الله روحك في مكة المكرمة، ورأيتُ فيك بعض كرامات الشهداء لا يُسعفني المقال لذِكرها..

اللهم إنك تعلم حبه لفعل الخيرات، وإعانته للضعفاء، ومحبته للمساكين، وقربه من الفقراء والمحتاجين

اللهم إنك تعلم إحسانه إلي منذ ولادتي حتى يوم وفاته

‏اللهم اجزِ والدي عنّي خير ما جزيت به والداً عن ولده، وخير ما جزيت به مُحسناً على إحسانه

اللهم اجعل قبره نوراً وحُفَّه بملائكتك

اللهم آنس وحشته

واغسله بالماء والثلج والبرد

اللهم عامله بما أنت أهله

واجعل الجنة داره وقراره

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

وداعا ايها الاب الطيب

-

عبد الحميد مصطفي الجديد

01:10:21 2020-02-15

وداعا أيها الأب الطيب ................................ بأي عين يبكى الإنسان مُصابه في أبيه وكل دموع الدنيا لا تعزيه فيه وكل آلام الحياة ومعاناتها تهون أمام الم فراقهِ ووداعه ِ الأخير ، الأب الطيب الذي ملأ حياتنا فرحة وراحة واطمئنان اقل ما نهدى روحه الطاهرة كتابة أطيب الكلام فيه وهو الذي يصنع لنا من حكمة قوله وخُلاصة تجاربه زادا من الأخلاق الحميدة والوقار والعفة وصلة الرحم وحب العمل واحترام الآخرين ومراعاة مشاعرهم وغض البصر عن محارمهم . الأب الذي كان يُهوِنُ علينا المُصاب ويُسهِلُ علينا الصعاب ويعلمنا كيف نستهين بمتاع الحياة الدنيا وزخرفها ونسخر من المواجع ونقارعها .كان لنا المثل والقدوة الحسنة والمربى الفاضل والأخ النصوح الذي تقر عينه لرؤيتنا وتسر لنجاحنا وتفوقنا فكم فاضت عيناه رحمة بنا كلما ألم بنا مرض أو حلت بنا مصيبة من مصائب الدهر ، الأب الحنون الذي يحمل فى قلبه مشاعر رقيقة وفى وجدانه محبة عميقة تكفى الجميع وتفيض على من حولنا من أهل وأحبة وجيران ومعارف وأصدقاء . نودعه ودموع الحزن تفيض من قلوبنا وتنهل من عروقنا ونحن نواريه التراب إلى مثواه الأخير داعيين الله أن يتغمده برحمته الواسعة وان يسكنه فسيح جناته وان يلهمنا جميل الصبر والسلوان في أب كان يخاف الله تعالى ويتقيه ويحب رسوله الكريم ويصلى ويسلم عليه ، بارا بأمه وأبيه عطوفا على بنيه محسنا لجيرانه وذويه ، إننا في الحقيقة لا نبكيه لأنه قد رحل إنشاء الله تعالى إلى دار ٍ خير ٌ من داره وجيران خير ٌ من جيرانه ولكننا نبكى أنفسنا لفقد من كان لنا كالسراج المنير في ظلمات حيرتنا وكدليل الطريق الذي يدلنا على وجهتنا وهو من كان يقوينا على ضعفنا ويرشدنا بحكمته إلى أن ننظر إلى من هو دوننا قبل أن ننظر إلى من هم فوقنا . الأب الذي علمنا في حياته دروسا كثيرة وعبرا عديدة آخر تلك الدروس والعبر هي درس رحيله الذي علمنا فيه إن نهاية الإنسان الموت وإن طال عمره ومصيره الرجوع إلى الله وان تأخر اجله وان قوة الإنسان في مدى صبره وعزمه وصالح عمله وان نجاحه الحقيقي يتأكد بنجاحه في إرضاء ربه والإحسان إلى والديه والخروج من الدنيا بلا خصوم ولا فتن نظيف اليد طاهر السريرة . رحمة الله عليك يا آبى رحمة الله على سائر أموات المسلمين ، نتضرع إليه سبحانه أن يجعل منزلتك في عليين رفقة الأنبياء والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقا ً .لا يعزينا فيك إلا عزة هذا الوطن المعطاء ومن سبقك الى رحمة الله تعالى من أنبياء وخلفاء راشدين وأولياء صالحين وشهداء ، وداعا أيها الأب ُ الطيب وداعا أيها الآباء ُ الطيبون رحمة الله عليكم منا جميعا ، طيب الله ثراكم أنتم السابقون ونحن اللاحقون (إنا لله وانا إليه راجعون )