آفة استسهال الفتوى والاجتهاد


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

مَن الذي يستطيع اليوم أن يشكك في ثراء الإنتاج الفقهي الإسلامي عبر العصور، وتنوعه وشموله، بعد أن اتفقت على ذلك كلمة العدو والصديق – إلا أن يكون اطلاعه على هذا الإنتاج سطحيا، أو يكون غير قادر على إصدار حكم موضوعي سالم من مؤثرات الخلاف الإيديولوجي.

ولكن أما ينبغي أن نتساءل: لم كان هذا الثراء؟ وما الذي أوقف المد الاجتهادي في الأمة حتى صرنا إلى غثاء في صورة ثراء، وعبث على هيئة كثرة؟

لا شك أن الأسباب كثيرة ومتشابكة، يجر بعضها بعضها الآخر، وليس من غرض هذا المقال المختصر أن يحيط بها، ولكنني أحب أن أشير إلى سبب خاص أظنه صار الباعث الأكبر على ما صرنا نراه اليوم من ضعف شديد في الإبداع الفقهي المنضبط، إنه استسهال الاجتهاد الفقهي!

 

شروط الاجتهاد كما وضعها المتقدمون:

ذكر علماء أصول الفقه شروطا لا بد من توفرها في العالم المتصدي للاجتهاد:

أولها: العلم بنصوص الكتاب والسنة، وما فيها من الناسخ والمنسوخ، ولا يجوز له الاجتهاد إن قصر في معرفة هذه النصوص.

الثاني: العلم بمسائل الإجماع، حتى لا يخالف إجماعا من حيث لا يدري.

الثالث: العلم بأصول الفقه الذي هو علم الاجتهاد على الحقيقة، حتى قال الفخر الرازي في “المحصول”: (إن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه).

الرابع: العلم بلسان العرب، ليقدر على حسن فهم نصوص الوحيين. ولا يكون ذلك إلا بإتقان علوم العربية والإكثار من ممارستها حتى تثبت له فيها ملكة قوية راسخة.

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات (5/53):

(وبيان تعين هذا العلم ما تقدم في كتاب المقاصد من أن الشريعة عربية؛ وإذا كانت عربية، فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم. (..) فإذا فرضنا مبتدئًا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة؛ أو متوسطا، فهو متوسط في فهم الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة؛ فكان فهمه فيهاحجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة.فمن لم يبلغ شأوهم، فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة، ولا كان قوله فيها مقبولًا).

ويضاف إلى هذه الشروط الأربعة: شرط معرفة الواقع، وفهم تفصيلاته، ليكون قادرا على حسن تنزيل الحكم الشرعي عليه. يقول العلامة ابن القيم رحمه الله (إعلام الموقعين 1/87):

(ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق، إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهْم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع، بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع, وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر).

 

وصف الصورة الحاضرة:

هذه شروط الاجتهاد كما استنبطها علماؤنا المتقدمون من أدلة الوحيين، ومن شواهد العقل والنظر الصحيح.

فإذا تأملنا واقع الفتوى والاجتهاد الفقهي اليوم، وجدناه منفصلا عن تلك الشروط والضوابط، انفصالا تاما، ووجدنا بين واقع الممارسة العملية وبين المطلوب النظري بونا شاسعا، تنهدّ فيه آليات الإبداع في الفقه، وتنمو فيه الفتاوى الشاذة، والاجتهادات العقيمة.

ويمكنني أن ألخص المشكلة في ظاهرتين مرضيتين ينبني عليهما هذا الواقع المزري، وكلاهما يؤول – كما أسلفنا – إلى استسهال مقام الاجتهاد:

أولهما: نقص البضاعة العلمية.

والثاني: الجرأة على مقام التوقيع عن الله.

نقص البضاعة العلمية

فأما النقص في البضاعة العلمية المشترطة للاجتهاد عند المتصدرين له اليوم، فهو أمر لا يكاد يخالف فيه عاقل!

فأين في أساتذة الجامعات وغيرهم من أصناف المفتين والمجتهدين، من يمكن أن يقال عنه اليوم إنه متمكن من علوم العربية: نحوا وصرفا واشتقاقا وبلاغة وفقه لغة وعروضا وأدبا، وأنه بلغ من ذلك مبلغ التبحر المفضي إلى أن يكون مشابها لأهل اللسان الأول في الحس اللغوي، والذائقة البيانية؟

وهذا علم الصرف مثلا لا يكاد يشم رائحته غير الأفذاذ من الناس، مع أن العلماء نصوا على أنه فرض عين على قارئ التفسير والحديث ! وهذا علم البلاغة من قرا فيه متنا مختصرا على طريقة المتأخرين الدائرين في فلك كتاب (التلخيص) وشروحه، حسب أنه قد أحاط بهذا الفن، وأغناه ذلك عن النظر في كتب المتقدمين من مدرسة الباقلاني والجرجاني والزمخشري وأضرابهم !وهذا علم العروض والقوافي لا يكاد يعرفه أحد من المعاصرين!

وقس على ما ذكر: غيرَه مما لم يذكر.

والكارثة بعد هذا كله أن هؤلاء المتصدرين يخالفون جهابذة العلماء المتقدمين، ويناطحون كبار المفسرين والمجتهدين، في فهم دقائق نصوص الوحيين، واستنباط ما فيهما من اللطائف !

أيظن هؤلاء أنهم بلغة الجرائد العصرية الهجينة، يستطيعون تدبر كتاب الله الذي بلغ أعلى درجات الفصاحة، أو حديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، أفصح من نطق بالضاد؟

ثم أضف إلى هذا النقص في علوم الآلة، خاصة في علوم العربية، نقصا آخر عظيم الأثر، في الإلمام بنصوص السنة المطهرة، وآثار الصحابة الكرام. ويثمر ذلك النقصُالجزمَ– جهلا – بآراء فقهية مخترعة، ورد في السنة ما يدل صراحة على بطلانها.

وأكثر ما يقع من الغلط في هذا الباب من جهة تقديم الأهواء والمصالح الموهومة على النصوص، جهلا بوجود النصوص في المسألة المبحوثة. والأمثلة أكثر من أن تحصر.

ويزاد على هذا النقص في معرفة الأدلة الأصلية (=نصوص الوحي)، ومعرفة وسائل الاستدلال بها (=علوم العربية وعلم أصول الفقه): نقص آخر أشد في معرفة كلام المستدلين السابقين، أي في الاطلاع على أقوال الأئمة واستنباطاتهم، خاصة غير المشتهر منها. ونتج من هذا أن القوم يعيدون اكتشاف العجلة من جديد – كما يقال – بدلا من أن يبنوا على أسس من سبقهم، وينطلقوا من حيث وقفوا.

 

الجرأة في مقام الورع:

والأمر الثاني هو الجرأة الشديدة في مقام يطلب فيه التحري والحذر، والاحتياط للأديان والنفوس والأموال والأعراض. وهذا مشاهد في كثير من المتصدرين للاجتهاد، فإنهم يتسنمون مقام التوقيع عن رب العالمين- مع نقص البضاعة العلمية كما سبق – ويقع بسبب ذلك ما لا يحصى من المفاسد اليقينية، بسبب الفتاوى المستغربة، والاجتهادات المتضاربة، والخلافات المفتعلة، والنزاعات التي قد يؤججها الإعلام، وتؤرثها أهواء النفوس.

فليس نقص العلم في ذاته عيبا، ما لم يتكلف صاحبه الجواب في المعضلات، كارها أن يقول (لا أدري). وقد قال الشاعر:

ومن يهوى أن يرى متصدرا = ويكره (لا أدري) أصيبت مقاتله

وقد سئل الإمام مالك رحمه الله – وهو المتفق على بلوغه درجة الاجتهاد المطلق – عن ثمان وأربعين مسألة، فأجاب في اثنتين وثلاثين منها: (لا أدري)! (سير أعلام النبلاء 15/77).

إن هذه الجرأة المذمومة التي يسهل معها الإقدام على عويصات المسائل، راجعة إذن إلى نقص في التربية الإيمانية، وتضخم مرَضي في انتفاخ الذات، واغترار النفس، يغذيه جهل بحقيقة مراتب الناس، وثناء من لا يحسن إلا الثناء!

إن أئمة الاجتهاد كانوا يجمعون بين التبحر التام في علوم الشريعة، والتواضع الكامل الذي لا يُقعد ما فيه من هضم النفس عن الإقدام في مواضع الإقدام.

وما لم يجتمع هذان الجناحان: العقلي والروحي، لم يستطع المتصدي للاجتهاد أن يطير في مسالك الفقه المنضبط المتكامل.

 

تكميل النقص بأدلة النظر والرأي:

ولما وُجدت هذه الجرأة، مع نقص العلم، احتاج هؤلاء إلى تكميل هذا النقص في آلة الاجتهاد بطريقة تظهر لغير المتمرس بصفة الطريقة الشرعية الملائمة. ولم يجدوا أسهل من ادعاء مراعاة المصالح، والاعتداد بالمقاصد!

ولا شك أن الإحالة على المقاصد والمصالح أيسر – في ظاهر الأمر وفي ظل غياب الاحتساب الشرعي على مقام الفتوى والاجتهاد – من مكابدة الاستنباط الأصولي المتكامل، انطلاقا من النصوص الشرعية.

ولذلك يلجأ هؤلاء إلى المقاصد، بعد أن يطلعوا على بعض فصول كتاب (الموافقات) للشاطبي رحمه الله، ليغطوا عجزهم الذريع عن الممارسة الاجتهادية المنضبطة.

لقد رأيت كثيرا من أساتذة الجامعات ممن يتكلم في ”نظرية المقاصد”، ويستدل بها في الصغير والكبير، لا يتقن إقامة القياس الأصولي، ولا يستطيع التدقيق في مسالك التعليل وقوادح العلة، ولا يتذوق العبارة القرآنية أو النبوية على طرائق العرب الفصحاء، وهلم جرا. وقبل هذا كله، فإن بضاعته من النصوص الشرعية، ومن كلام الأئمة، ضئيل مبتسر.

ورحم الله الشاطبي، فقد كان صاحب عقلية أصولية فقهية فذة، هضم الشريعة وارتوى من منهلها الثر، ثم أبدع في مقاصدها مستندا إلى من قبله، وموطئا السبيل لمن بعده.

ولكن تأمل معي كلام هذا الإمام حين يقول في صدر ”موافقاته”:

(ومن هنا لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد؛ حتى يكون ريان من علم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب3، فإنه إن كان هكذا؛ خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودع فيه فتنة بالعرض، وإن كان حكمة بالذات).

فأخبرني وفقك الله للفهم في دينه:

أين هذا الريانُ من علوم الشريعة، في جحافل المستدلين بالموافقات، العاكفين على الكرع من حياضها؟

ورحم الله تلك الأنامل التي دونت (الموافقات)، فإنها دونت كذلك كتاب: المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الألفية لابن مالك في علمي النحو والصرف. فمن يرفع اليوم بهذا الكتاب رأسا، بل من يطالع فيه أدنى مطالعة حتى يتبين له مكان النحو واللغة في تكوين العقلية الاجتهادية المقاصدية؟ ! (وراجع كلامه المنقول آنفا ضمن شروط الاجتهاد).

إن أدلة المصالح والمقاصد مقيدة بالنصوص، والنصوصُ لا يستدل بها إلا بأصول وضوابط. ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله: (وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم .وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه. (..) وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعا بناء على أن الشرع لم يرد بها، ففوت واجبات ومستحبات أو وقع في محظورات ومكروهات وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه). (مجموع الفتاوى 11/343).

وإن من أعظم ما ينبغي العناية به في عصرنا المتقلب المضطرب هذا: توفير سبل تحصيل العلم الشرعي، الذي تنضبط به الفتوى، ويرجع الاجتهاد إلى خانته الأصلية، بعيدا عن تقلبات أهواء المتسرعين المتساهلين.

والله الموفق.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply