مقتطفات من كتاب من حديث النفس للطنطاوي


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

المقدمة: هذا الكتاب ليس كل ما فيه لـ "علي الطنطاوي" وليس المؤلف إذن واحداً، ولكن جماعة في واحد، وكذلك الشأن في كل إنسان.

ولا عجب أن يبدل الإنسان في المنشور سنة الواحد رأياً برأي، وعاطفة بعاطفة، فكيف لا تتبدل آرائي وعواطفي وأنا أكتب في الصحف والمجلات منذ اثنتين وثلاثين منشور سنة بلا انقطاع.

على أن لدي أشياء ما بدلتها قط ولن أبدّلها إن شاء الله، هي أني حاربت الاستعمار وأهله وأعوانه وعبيده دائماً، ومجّدت العربية وسلائقها وأمجادها وبيانها دائماً، وكنت مع الإسلام وقواعده وأخلاقه وآدابه دائماً.

والثواب هو وحده الذي يبقى، على حين يفنى الإعجاب وتذهب الأموال، ويعود إلى التراب كل ما خرج من التراب.

ولَدعوةٌ واحدة لي بعد موتي، من قارئ حاضر القلب مع الله، أجدى عليّ من مئة مقالة في رثائي ومئة حفلة في تأبيني، لأن هذه الدعوة لي أنا والمقالات والحفلات لكتابها وخطبائها، وليس للميت فيها شيء.

قال لي أهلي لقد جئت إلى هذه الدنيا عارياً بلا أسنان، لا تحسن النطق ولا تعرف شيئاً، فضحكت.

ونظرت.. فوجدت نفسي، ورأيت أن لي أسناناً وأن علىّ ثياباً، وأن بي قدرة على المشي والنطق، ورأيتني شخصاً مستقلاً عن أبي وأمي وسائر أهلي، ولا يميزني منهم إلا أني كالطبعة المختصرة من كتاب، فيها الأبواب كلها والفصول بيد أنها موجزة، و.. بالقطع الصغير!

منشور سنة 1937: واستقر في ذهني –من يومئذ- أني وُلدتُ وأنا في الرابعة من عمري!

ونظرت يوماً من الأيام، فإذا في مكان ذلك الطفل اللاهي اللاعب، العابث بكل شيء.. إذا في مكانه تلميذاً مكرهاً، يذهب إلى هذه الدار التي يُحشد فيها الأطفال الأبرياء المساكين لتحشى أدمغتهم بمسائل لا يدركون معناها، وتنال من أبشارهم وظهورهم عصا المعلم الغليظة.

يا لهذا التلميذ البائس الذي لم يكد يفتح عينيه على الدنيا حتى أبصر الشقاء والألم. لقد مات كمداً ومضى مسرعاً في طريق الفناء.. مسكين!

ولم يكن قد فكر في المستقبل أو حسب له حساباً، فلما سمع به وقف وتردد وكبح من جماح نفسه. يجب أن يضمن المستقبل ليصل إلى آماله، آماله الكبار التي كانت تملأ نفسه ولا يشك في بلوغها.

حرّم الشاب على نفسه كل متعة من متع الدنيا، فلا نزهة ولا راحة، ولا حظ له في النوم العميق ولا الطعام الهنيء، ولا شغل إلا شغل المدرسة، فينتقل من هذيان الأدباء إلى طلمسات الرياضيين والعلماء.

وهل ينجح في الامتحان إلا من حفظ ولم يفهم؟ وهل تدل هذه الامتحانات إلا على قوة الذاكرة، وشدة الحفظ، وإتقان المنهج المقرر؟

نجح فوثب فرحاً، وتهيأ لخوض معركة الحياة، فقالوا له: مهلاً! قال: ماذا؟ قالوا: لا بدّ من شهادة عالية، إن المستقبل لا يضمن إلا بشهادة عادية. قال: ويحكم! وهل يبنى المستقبل على الورق؟

راح الشاب يدرس الحقوق لينال الشهادة ويضمن المستقبل، ويشتغل بالأدب ليستجيب للرغبة ويحظى بالمتعة، ويعمل في الجريدة ليضمن العيش ويعول الأسرة.. واستمر على ذلك حتى نال "الليسانس".

نزل الشاب إلى ميدان الحياة برأس مترع بالعلوم والمبادئ السامية، ويد مثقلة بالشهادة الابتدائية والثانوية والعالية، وجيب خاوٍ خالٍ. فلم تكن إلا جولة واحدة حتى ولّى منهزماً!

لقد خدعته المدرسة وكذبت عليه، وصورت له الحياة على غير حقيقتها.

هذه منشور سنة الحياة. وليس على الحياة ذنب، فهي سافرة لم تستتر ولم تخدع أحداً عن نفسها، ولكن الذنب على الأدباء والمدرّسين الذين وضعوا عيونهم في أوراقهم وحبسوا أنفسهم في مكاتبهم، وأرادوا أن يدرسوا الحياة فلم يفهموا منها شيئاً.

ما هو المستقبل؟ وهل اقتربتُ منه شبراً واحداً وأنا أركض وراءه منذ سبعة وعشرين عاماً؟ فمتى أصل إليه؟

وأين ذلك الشاب الذي تفيض نفسه بالآمال الكبار من هذا اليائس القانط الذي لم يعد يأمل في شيء، لأنه جرّب فلم يصل إلى شيء؟

أنا حين أتحدث عن نفسي أتحدث عن كل نفس، وحين أصف شعور واحد وعواطفه أصف شعور الناس كلهم وعواطفهم، كصاحب التشريح لا يشق الصدور جميعاً ليعرف مكان القلب وصفته.

تنبت الأفكار في نفسي وتزهر وتثمر، ثم تذوي وتجف فآخذ الهشيم فأضعه في مقالتيّ ويتفجر الينبوع في نفسي ويتدفق ويسيل، ثم ينضب وينقطع فآخذ الوحل فأضعه في مقالتي! وينبثق الفجر في نفسي ويقوى ويشتد، ويكون الضحى والزوال، ثم يعود الليل، فآخذ قبضة من ظلام الليل لأكتب منها مقالة عنوانها: "ضياء الفجر"!

وقمت بعد ذلك أصلي، فلما قلت: "الله أكبر"، مُحي الكون كله من وجودي، ولم يبقَ إلّا أنا العبد المؤمن الضعيف، والله الإله العظيم الجبار.

ليس في الدنيا شيء أجلَّ ولا أجملَ من الصلاة!

 

منشور سنة 1959:

يحمل إلي البريد كل أسبوع ثلاثين رسالة من سامعو أحاديثي في الإذاعة وقراء مقالاتي في الصحف، ولم أجد فيها كلها مثل الرسالة التي تلقيتها أمس، رسالة من أم وقد جائتني في "يوم الأم"، ليس فيها من الفصاحة شيء، ولكنها من البلاغة آية من الآيات.. تقول هذه الأم أنها سمعت بعيد الأم ولم تره، وعرفت شقاء الأم بالولد ولكنها لم تعرف بر الولد بالوالدة، وهي لا تشكو عقوق ولديها، فهما صغيران ما بلغا سن العقوق، لكنها تشكو ضيق ذات اليد وفقد المُسعد والمعين وتصبر حيناً ويتصرّم أحياناً صبرُها.

وتسأل الأم: أتطلق الولدين من إسار المدرسة وتبعث بهما يتكسبان دُريهمات، وماذا تجني إن درَسا وهي لا تملك ثمن كساء المدرسة ولا نفقاتها؟ وكيف يستطيعان أن يكملا الدرس والتحصيل وهما بالثوب البالي والجيب الخالي؟ وما تمنيت أن أكون غنياً إلا اليوم لأواسيها اليد والمال لا بالقلم واللسان، ولكني أديب، والأديب لا يملك إلا قلبه ولسانه!

ولك قصة.. ولكن لم يخترعها خيال كاتب ولم يؤلفها قلم أديب، بل ألفت فصولها الحياة وجئت أرويها كما كانت، لتعلمي ولتعلم كل أم بائسة وكل ولد نشأ في الفقر أن المجد والعلاء رهن أمرين: بتوفيق الله أولاً، وبالعلم والجِد ثانياً.

بداية قصتنا أنه كان في دمشق، منذ نحو 40 سنة، عالم جليل، داره مفتوحة للأقرباء والضيوف وطلبة العلم، وسّع الله بفضله عليه فلم يعرف الضيق وكان من ذوي المناصب الكبار والمكانة في الناس.

ونشأ أولاده في هذا البيت لا يعرفون ذل الحاجة ولا لذعة الفقر، ولكنهم أصبحوا يوماً من أيام 1925، فإذا بالولد الكبير ذو الستة عشرة عاماً وإخوة تتراوح أعمارهم بين عشر وبين شهر، فإذا بالوالد قد تُوفّي.

وارتفع الستر، فإذا التركة ديون للناس، فباعوا أثاث الدار كله ليوفوا الدّين، وتركوا الدار الفسيحة ونزلوا تحت رصاص الحرب –أيام الثورة- يفتشون عن دار يستأجرونها، فوجدوا كوخاً.. بل زريبة بهائم، مخزن تبن، غرفتين من اللبِن والطين، وفي ظل دار عالية تحجب الشمس والضياء، وليس فيهما ماء إلا ماء ساقية وسخة عرضها شبران وعمقها أصبعان، ليس فيها نور إلى مصباح كاز، والسقف من خشب عليه طين، إذا مشت عليه هرةٌ ارتجَ واضطرب، وإن نزلت عليه قطرة مطر وَكَفَ وسرَّب.

وفيهما أربعة فرش مبسوطات على الأرض، ما تحتهنّ سرير، كان ينام هؤلاء الأولاد الذين رُبّوا في النعيم، تسهر عليهم أم –مثلك- حملت ما لم تحمله أم، تدرأ عنهم سيل البقّ الذي يغطي الجدران، وأسراب البعوض التي تملأ الغرفة، تظل الليل كله ساهرة تطفئ بدمع العين حرق القلب، تذكر ما كانت فيه وما صارت إليه، ولم يعنها أحد ولم يسعفها إلا أخ لها في مصر بقليل من الجنيهات!

في هذا الجو يا سيدتي.. أقبل الولد وأخوته على العلم والتحصيل، وكانت أطراف البلد للثوار وليس للفرنسيين إلا وسط المدينة، فيمرون على الموت في طريقهم إلى المدرسة كل يوم، يخترقون جبهة الحرب، وصبروا ووثقوا بالله، وأعانهم الله ووفقهم، حتى صاروا.. ماذا تقدّرين أنهم صاروا الآن؟

صار الولد الثاني قاضياً، وأديباً شاعراً مصنفاً، والثالث أستاذاً كبيراً في الجامعة وأول من حمل لقب دكتور في الرياضيات في سورية، والرابع مدرّساً موفقاً وداعية وأديباً.

أما الولد الأكبر.. فلا أقول عنه شيئاً لأن شهادتي فيه مردودة، فهو صديقي الذي لا أفارقه، أكون معه ليلي ونهاري، وأراه كلما نظرت في المرآة، وهو فوق ذلك يحمل اسماً مثل اسمي!

فقولي لولديك ألا يخجلا إن لم يجدا الثوب الأنيق أو الكتاب الجديد، فإن أكثر النابغين كانوا من أبناء الفقراء، وكاتب هذه السطور كان يجيء إلى المدرسة الثانوية بالبذلة التي فصلتها له أمه من جبة أبيه، وعجز عن أداء رسم شهادة الحقوق فساعده عليه بعض المحسنين، وأعرف محكمة صار ابن آذنها قاضيها، وابن رئيسها "شيئاً" كالآذن فيها!

هذه القصة لك أما القراء فأقول لهم: إن في حيكم بين جيرانكم، كثيرات كالسيدة التي كتبت لي، وفي البلد من يرتجف هذه الليلة من البرد في البيوت، وهناك تلميذات وتلاميذ يقرؤون بعيون تزيغ من الجوع والقرّ، ويكتبون بأصابع محمرة من البرد. وإن من هؤلاء من لو أُمد بالطعام واللباس وأُعين في الدراسة، لكان عبقرياً تعتز بمثله الأوطان وتسمو الأمم، لكن الفقر عطل مواهبه، فلم يجد ذكاؤه مسرباً إلا الإجرام!

إن أكثر المجرمين الذين يسكنون السجون كانوا صبية أذكياء، ولكن المجتمع قال لهم: حرام عليكم الدرس والتحصيل لتكونوا من أفذاذ المثقفين، فكونوا –إذن_ من أذكياء المجرمين!

إن الذي ينفقه الأغنياء على الترف والسرف يكفي لتعليم كل ولد في البلدة، وإطعام كل جائع، وإسعاف كل فقير، إن عرساً واحداً من أعراس الموسورين الكبار تكفي نفقاته لإطعام عشر عائلات شهراً كاملاً، وما يُصرف في الملاهي والموبقات يكفي لسد حاجة كل محتاج.
ولا أقول دعوا هذا كله، لأنكم لن تفعلوا، ولكن اجعلوا من أموالكم نصيباً لهؤلاء المعذبين في الأرض، زكوا عن أموالكم فإنكم لا تدرون عل تدوم لكم أو تذهب عنكم.

فيا أيها القراء، أسألكم بالله: لا تدعوا كلمتي تذهب في الهواء، فإني والله ما أردت إلا الخير لكم، ويا أيتها الأم التي كتبت إلي، ثقي بالله، فإن الله لا يضيع أحداً أبداً.

 

منشور سنة 1938:

قالت الكتب: "إن المستقيم أقصر الخطوط فاسلكه تصل، واستقم تبلغ غايتك". فسرت قدماً فاصطدمت بأول جدار لقيته فشج رأسي وقعدت مكاني، واستدار غيري والتوى كما تستدير طرق الحياة وتلتوي فوصل.

قالت الكتب: "كن فاضلاً واحرص على مكارم الأخلاق فهي السبيل". فوجدت أهل الرذيلة هم الذين يصلون، ورأيت أسفل الناس أخلاقاً صار أستاذاً للأخلاق في أكبر مدرسة، فعجبت من سخر الحياة!

وقالت الكتب "الحق"، وقالت الحياة "القوة".. وقالت الكتب "الفضائل"، وقالت الحياة: "الشهوات". وقالت الكتب... ولكن لم يكن إلا ما قالت الحياة!

 

 

منشور سنة 1938:

فذهبت أعراض صور حياتي فيها وهي تمر بي متتالية متعاقبة كمناظر السينما، ملتفة بضباب الماضي، فأرى مآسيها المغسولة بالدموع وفواجعها الدامية، ولكني لا أرى البهجة والسرور، فهل أرى البهجة والسرور بعد أن أشرفت على الثلاثين؟

كنت أفكر دائباً في المستقبل، وأنتظر المستقبل، فها هو ذا المستقبل قد صار حاضراً، فهل وجدت فيه إلا الخيبة والألم؟

لقد جربت الصناعات والفنون، وطوفت في البلدان، فما أفدت من ذلك كله إلا أني تركت في كل بلد قبراً لأمل من آمالي. لقد أضعت الحب والمال، وأضعت المجد الأدبي، حتى هذه الألحان التي تدور في نفسي ضاعت مني، فلم أستطع أن أسمعها الناس أغاني وأصواتاً. ما سمع الناسُ إلا أقصر أغانيَّ وأقبحها، تلك هي مقالاتي التي نشرتها، فمتى يسمعون أجمل ألحاني وأطولها؟ في المستقبل!

يا ويح نفسي! هل بقي لي مستقبلٌ إلا الموت، الذي غدوت أحبه وأناديه لو كان يسمع النداء؟!

 

منشور سنة 1938:

إني لأنسى البلاد كلها حتى منازل حبي وربوع هواي، ولكني لا أنسى أبداً ذلك الزقاق الضيق الذي يمتد من العقيبة في دمشق إلى رحبة الدحداح، لأن سعادتي ولدت ف يأول هذا الزقاق، وماتت في آخره حين مات أبي وأمي.

أنا لا أصدق أن هذه السنين السبع قد مرت على ذلك الحادث، أأنا أعيش سبع سنين لا أرى فيها أمي، وقد كنت آلم إن غبت عنها يوماً؟ أأعيش وهي نازحة لا تعود بعد عام ولا عشرة، ولا تعود قبل يوم القيامة؟

يقولون إن المصيبة تبدأ صغيرة ثم تكبر، ولكن مصيبتي بأمي تنمو في نفسي كل يوم!

اللهم صبراً، فإني والله ما أطيق الصبر.

 

منشور سنة 1938:

لقد كرهت الحياة، وما زادها كراهة إليّ هؤلاء الناس، فلم يفهمني أحد ولم أفهم أحداً، إن حزنت فأعرضت عنهم مشتغلاً بأحزاني قالوا: متكبر، وإن غضبت للحق فنازعت فيه قالوا: شرس. وإن وصفت الحب الذي أشعر به كما يشعرون قالوا: فاسق. وإن قلت كلمة الدين قالوا: جامد. وإن نطقت بمنطق العقل قالوا: زنديق. فما العمل؟ إليك يا رب المشتكى، فما لي في الدنيا بعد أمي صديق!

تلك هي التي كانت تقبلني على علاتي، والناس لا يقبلون إلا محاسني، تلك التي كانت تحبني أنا، والناس يحبون أنفسهم فيّ. تلك هي الحبيبة الوفية التي لا تهجر ولا تخون. تلك هي دنياي، فواأسفي، إن دنياي قد احتواها التراب!

ربِّ، رحمة لهذا اليتيم الضعيف، ابن الثلاثين!

 

منشور سنة 1959:

لكم عندي كلمة يا أولاد، أرجو أن تسمعوها وتفهموها، وإذا لم تستطيعوا فهمها فلتتلطف الأم أو فليتكرم الأب بترجمتها لكم:

إنكم تنعمون بخيرات كنا نحن محرومين منها، وتستمعون بمتع ما كنا نسمع بها، وما هذا الذي عددت لكم إلا الأقل الأقل منها، ولكننا –على ذلك كله- كنا خيراً منكم.

كان آباؤنا يضربوننا، على حين نجد الآباء اليوم يدللون أولادهم ويلينون لهم، وكنا نرى طاعة والدينا واحترام معلمينا فرضاً علينا، فما كان منا من يجرؤ على مخالفة أمر أبيه، ولا كان في الآباء من يرضى لنفسه أن يخالف أبنه أمره، وكان للأب سطوة وسلطان، لا حكم في الدار إلا حكمه، وكان الواحد منا يبلغ مبلغ الرجال ثم لا يتأخر في العودة إلى الدار عن المغرب، ولا ينكر على أبيه أن يشتمه علانية أو يضربه في الملأ، وكنا نبر أمهاتنا ونعلم أن حقهن من حق الله وبرهن من بره، أما الأستاذ فمن كان منا يفكر في إزعاجه أو التهاون بأمره.

فهل يعرف أبناء اليوم لآبائهم وأمهاتهم، وهل يعرف تلاميذ اليوم لمعلميهم وأساتذتهم مثل هذا الحق؟

لقد كان في دمشق ثانوية واحدة، ولكن هذه الثانوية أخرجت أكثر رجالات الأمة، ولم تكن تمضي سنة لا تقدم فيها كاتباً أو شاعراً أو نابغاً في الطبيعة أو في الرياضيات... وعندنا اليوم في دمشق أكثر من عشر ثانويات رسمية للطلاب، فأين الأدباء والعلماء ورجال الفن الذين خرجوا منها؟

 

منشور سنة 1939:

أنا يا ساداتي ليسانسيه في الحقوق من أربعة أيام فقط، وقد اتخذت لهذه الشهادة الجميلة الكبيرة المزينة بعشرة أختام وتوقيعات لأصحاب الفخامة والدولة والمعالي وما لست أدري لماذا، اتخذت لها إطاراً جميلاً ثميناً حصلت عليه بوسيلة من الوسائل، علقتها في داري في الغرفة التي يجب أن تكون غرفة استقبال، ووقفت سبعاً وسبعين دقيقة خاضعاً أمامها خاشعاً، وذكرت تلك الأعوام الستة عشر التي انفقتها في تحصيلها، وكان خيراً لي أن أقضيها في حانوت حلاق أجيراً أتمتع بالجمال والمال، أو ممثلاً في جوقة أعيش عيش النعيم والتعظيم، وتأملت فيها معظماً مبجلاً، وتجرأت فلمستها كما يلمس الإنسان تحفة ثمينة ليزيد أحساسه بها، وجلست بعد ذلك أفكر: ماذا أصنع بها بعد أن زالت من نفسي رغبة النجاح ونشوة الظفر؟

 

منشور سنة 1939:

وكل ما أعرفه اليوم هو شيءٌ من اللغة والأدب والتاريخ قرأته بنفسي وزاولته بعد خروجي من المدرسة، أما المدرسة فلم تعلمني إلا أسماء العلوم وأوصافها العامة، ولم أخرج منها إلا بالروح التي صبَّها فيّ شيوخنا ومعلمونا. إن المدرسة لا تعلم التلميذ شيئاً ولكنها تدله على الطريق وترسم له الخطة، أفلا يجب إذن على المعلمين أن يدلوا التلميذ على الطريق السوي والخطة المستقيمة؟ أفلا يجب عليهم –قبل أن يعلموه قوانين الحكمة "الفيزياء باصطلاح تلك الأيام"ومعادلات الكيمياء ونظريات الهندسة التي سينساها ويجهلها- أن يعلموه من هم أجداده وما هي حضارتهم، وأن يصبوا في نفسه أخلاق العروبة وآداب الإسلام، وأن يحببوا إليه العلم حتى يُقبل عليه بلذة وشغف، لا لنيل الشهادة والنجاة من الامتحان، بل ليستفيد منه في ترقية حياته وحياة أمته وخدمة بلاده وقومه.. وأن يفهموه "حقائق الحياة" ويعرضوها عليه عارية لا يسترها شيء؟

 

أذيعت سنة 1946:

عيدي الذي فقدته

يا آنسين بالعيد، يا فَرِحين به: هل تسمعون حديث رجل أضاع عيده، وقد كانت له أعياد، أم يؤذيكم طيف الشجى إذ يمر بأحلام أفراحكم الضاحكة؟ إذا كنتم تصغون إلى حديثي فلكم شكري، وإن أنتم أعرضتم عني فما يضرّني إعراضكم، وإن من نِعَم «المِذياع» أنه لا يدري المتكلم فيه مَنْ ينصت له ومن يَشْغب عليه، ولا يسمع مدحاً ولا قدحاً، وما يرى إلا «العلبة» يكلمها، وما ترد علبةٌ على متكلم جواباً.

ولا تقولوا إذا سمعتم حديثي: هذا رجل لا يتكلم إلاّ عن نفسه. فكذلك الأدباء كلهم؛ لا يتكلمون إلاّ عن أنفسهم، ولكنهم إذ يصفون أحلامها وآلامها يصفون أحلام الناس كلهم وآلامهم، فهم تراجمة العواطف، وألسنة القلوب، وصدى الخواطر، حتى ليقول القارئ إذ تمرُّ به آثارهم: ما هذا؟ إن في هذا التعبيرَ عما أحسّ به، إنه وصفٌ لي أنا وحدي ... وما هو له وحده، إنه وصف لكل نفس بشرية.

ألا ما أعظم فضل الأدباء على الناس! ولكن الناس لا يشكرون.

 

يا سادة:

لقد مشيت -بعدُ- في الزمان، وسحت في البلدان، فكبرت ورأيت أياماً قال (التقويم) إنها أيام عيد، رأيتها في دمشق بلدي، ورأيتها في الأعظمية في بغداد، ورأيتها في البصرة ذات الشط والنخيل، وفي الحرش من بيروت، وفي القاهرة أم الدنيا ... ولكني لم أعد أجد في ذلك كله تلك البهجةَ التي كانت للصّرماية الحمراء والعقال المقصَّب، والعربة ذات الشراع الأحمر والجلاجل، والثياب الملونة الزاهية التي تحكي زهر الربيع.

أفتغيرت الدنيا أم قد أضعتُ عيدي؟

أتغيرت الدنيا يا ناس، أم الناس قد فقدوا فرحة العيش حينما تركوا تلك الحياة السمحة القانعة الطاهرة المبرّأة من أدران حضارة الغرب؟

تلفتوا أيها السادة حولكم، واسألوا من تلقون من الكهول عن ذلك الزمان... تجدوا في عيونهم عَبْرة، وفي قلوبهم حسرة، وعلى ألسنتهم جواباً واحداً: رحم الله تلك الأيام، لقد كانت أيام انشراح...

 

كانوا لا يعرفون دسائس السياسة، ولا التزاحم على الرياسة، ولا شبه العلم، ولا رذائل الحضارة؛ لا يختلفون على مذهب اجتماعي، ولا يقتتلون لمصلحة حزب سياسي، ولا يقرعون أبواب الوظائف، إن تعلموا العلم تعلّموه لله لا للشهادات، وإن طلبوا المال طلبوه من التجارة لا من المضاربات والاحتكار والرشوات، وإن أرادوا تسلية ولهواً قصدوا الربوة أو الميزان أو الشاذِروان، ينصبون سَماوَرات الشاي وسماط الأكل وبساط الصلاة، لا يعرفون سينما ولا ملهى ولا ماخوراً ولا «نادي دمشق»! المساجد ممتلئة بهم، ومدارس العلم حافلة بأبنائهم، والعلماء هم الأمراء؛ طلبوا العلم للآخرة لا للدنيا فأعطاهم الله الدنيا والآخرة، والبيوت جِنان الأرض، والنساء حور تلك الجنان لا يعرفن التبرج ولا التكشف، ولا يراهنّ أحد في الطريق إلا خارجات لضرورة لا بدّ منها ومعهنّ الزوج أو الأب، يسبقهن وهنّ يتبعنه، لا يعرفن بيوت الفجور ولا أماكن العصيان ولا «دوحة الغضب»، ولا يخطر على بالهنّ أن الدنيا ستبلغ من الفساد أن سيكون فيها «فرق مضلاّت»...

 

نظرت اليوم في سجل ميلادي فوجدتني على أبواب الثلاثين، فتركت عملي وجلست أفكر: ماذا بقي لي من هذه السنين الثلاثين يا أسفى؟ لم يبقَ إلاّ ذكريات واهية تحتويها بقية قلب تناثرت أشلاؤه على سفوح قاسيون في دمشق، ومسارب الأعظمية في بغداد، وغابات الصنوبر في لبنان... أي والله، وعلى طريق الأهرام في مصر، وضفاف «الشط» في البصرة، وحوائط النخيل في يثرب... أشلاء من قلبي وأشلاء. فماذا أفدت من عمري الضائع وشبابي الآفل؟ لا شيء! لا مجد ولا مال ولا بنين. لم أفد إلاّ اسماً مشى في البلاد فحمل قسطه من المدح والذم والتمجيد والشتم، ولكني كنت في معزل عن هذا كله فلم ينلني منه شيء. إن اسمي ليس مني؛ إنه مخلوق من حروف، ولكني إنسان من لحم ودم. فهل تشبعني الشهرة، أو يكسوني الثناء؟ ولم أملك إلاّ قلباً أحبَّ كثيراً وأخلص طويلاً، ولكنه سقط كَلِيماً على عتبات الحب والإخلاص، ورأساً حشوته بما وجدت من العلوم والمعارف، فأثقلته علومه عن التقدم فاحتلت مكانَه الرؤوسُ الخفيفة الفارغة!

 

يا رحمة الله على تلك الأيام! أيام كنت أغلق فيها بابي عليّ، ثم أقبل على كتبي أجالس فيها العلماء والأدباء وأجد في حديثهم الصامت لذة ومتاعاً. كنت أقرأ لأني كنت أجهل الحياة، فلما عرفتها لم أعد أطيق قراءة ولا بحثاً. ولماذا أقرأ؟ ولماذا أتعلم؟ ولماذا أكون فاضلاً؟ والحياة حرب على أهل العلم والفضل، والناس كالحياة لأنهم أبناؤها وتلاميذها!
ألا يحيا الكاذب المنافق سعيداً موقراً ويموت الصادق الشريف فقيراً محتقَراً؟ ألا يُصدّق الناس الشيخ المشعوذ لأنه يدخل إلى نفوسهم من باب الدين ويُكذّبون العالم الفاضل؟ أليس طريق الشعبذة (الشعوذة) وادعاء الكرامات والمَخْرَقة على الناس بعلم أسرار الحروف واستحضار المردة واستخراج الجنّ من أجسام بني آدم، آثرَ عند عامة الناس من العلم الصحيح والأدب المحض؟ ألا يتمتع هذا اللص بالثقة التي لا يحلم بها عالِم متخصص أو باحث مدقق، وتنهال على يده الأموال وتزدحم على يده الشفاه؟ ألا يبلغ المنافق ذو الوجهين أعلى المراتب وأسماها ويبقى الصادق الشريف في الحضيض؟ ألا يركب الجاهل السيارة الفخمة ويسكن القصر العظيم ويحتل المرتبة العلمية العليا، ويمشي العالم إلى بيته الحقير لا يدري به أحد؟ أليست أسواق الرذيلة عامرة دائرة، وأسواق الفضيلة داثرة بائرة؟
ألا يظفر الكاذب المفتري بالبريء؟ ألا يغلب القوي الضعيف؟ ألا ينتصر المال على العلم؟
فلماذا أقرأ؟ ولماذا أتعلم؟ ولماذا أكون فاضلاً؟

 

وكيف أنسى ما أضعت على نفسي من خير، وما عرض لي من فرص فما افترصتها؟

إن من رفاقي في كلية الحقوق مَنْ هو اليوم من كبار المحامين الذين يشار إليهم، ومن ينال على وقفة واحدة في المحكمة مئة جنيه في دمشق الفقيرة، فلماذا أعرضت عن المحاماة لم أشتغل بها وأقبلت على مهنة آخذ فيها خمسة جنيهات على مئة درس ألقيها على أربعين طالباً، يحتاج إسكاتهم وضبطهم إلى شرطيين مسلحَين بالبنادق الرشاشة؟!

وكيف أنسى أني كنت من عشر سنين أقود طلاب دمشق كلهم وأغامر بهم في ميادين السياسة، وأني لو شئت لكنت نائباً من زمن طويل؟ إن الناس لم ينسوا ذلك فكيف أنساه أنا؟ إنهم يعلمون أن في قميصي خطيباً ما يقوم له أحد في باب الارتجال والإثارة وإيقاظ الهمم وصب الحمم، ولكن من الناس من يعقل الحسد ألسنتهم عن شهادة الحق.

 

ومن يصدّق أني أتمنى لو كنت غبياً جاهلاً عييّاً لأستريح وأهنأ، لأني وجدت الذكاء يدفع إليّ الألم ويؤدي إلى الشقاء، وأني لأهمل القراءة عمداً كي أنسى ما علمت، فأغدو جاهلاً فلا آلم إن تقدمني الجهال من أمثالي ولا ألوم الحياة على ظلمها إيّاي ... فلا أستطيع، وأراني مدفوعاً إلى الازدياد من هذا العلم، كأنّ القدر يسوقني بعصاه إلى الاستكثار من القراءة، فأزداد بالعلم ألماً حين أرى علمي وَبالاً عليّ وأرى الجهّال يسبقونني ويسرقون منزلتي! ولو أني استبدلت بإحياء الليالي في المطالعة والدرس وثني الركب بين أيدي العلماء رحلةً واحدة إلى (تلك) الديار أعود منها بعد شهرين بشهادة في اللغة العربية لم تكتب سطورها بالعربية لكان ذلك خيراً لي وأجدى عليّ من علوم الأرض كلها لو حصلتها.

ولكني كرهت أن أتوكأ في سيري إلى غايتي على غير أدبي، ونزّهت نفسي عن أن أجعل عمادي ورقة صار يحملها الغبيّ إليّ ثقتي بالحب واطمئناني إلى الكتب وسكوني إلى النّاس؟

 

ما آلمني شيء في الحياة ما آلمتني الوَحدة. كنت أشعر -كلما انفردت- بفراغ هائل في نفسي، وأحس بأنها غريبة عني ثقيلة عليّ لا أطيق الانفراد بها، فإذا انفردت بها أحسست أن بيني وبين الحياة صحارى قاحلة وبِيداً ما لها من آخر، بل كنت أرى العالم في كثير من الأحيان وحشاً فاغراً فاه لابتلاعي، فأحاول الفرار، ولكن أين المفرُّ من نفسي التي بين جنبيّ ودنياي التي أعيش فيها؟

إن نفسي عميقة واسعة، أو لعلي أراها عميقة واسعة لطول ما أحدق فيها وأتأمل جوانبها، فتخيفني بسعتها وعمقها ويرمضني أنه لا يملؤها شيء مهما كان كبيراً ... وهذا العالم ضيق، أو لعلي أراه ضيقاً لاشتغالي عنه بنفسي وشعوري بسعتها، فأراه يخنقني بضيقه.

إني كلما انفردت بنفسي، فتجرأت على درسها والتغلغل في أعماقها، بدت لي أرحبَ وأعجب. فما هذا المخلوق الذي يحويه جسم صغير لا يشغل من الكون إلاّ فراغاً ضيقاً كالذي يشغله صندوق أو كرسي... ويحوي هو «المكان» كله، ويشمل «الزمان»، وينتقل من الأزل إلى الأبد في أقل من لحظة، وينتظم «الوجود» كله بفكرة، وتكاد الحياة نفسها تضل في أغواره؟

انغمست في الحياة لأملأ نفسي بمشاغل الحياة وأُغرق وحدتي في لجة المجتمع، واتصلت بالسياسة وخببت فيها ووضعت وكتبت وخطبت، فكنت أحسُّ وأنا على المنبر بأني لست منفرداً وإنما أنا مندمج في هذا الحشد الذي يصفق لي ويهتف... ولكني لا أخرج من النديِّ ويرفضُّ الناس من حولي وأنفرد في غرفتي حتى يعود هذا الفراغ أهول مما كان، وترجع الوحدة أثقل؛ فكأنما ما نقصت هناك إلا لتزداد هنا، كالماء تسد مخرجه فينقطع، ولكنك لا ترفع يدك حتى يتدفق ما كان قد اجتمع فيه ... فماذا يفيدني أن أُذكر في مئة مجلس أو يمر اسمي على ألف لسان، وأن يتناقش فيّ الناس ويختصموا، إذا كنت أنا في تلك الساعة منفرداً مستوحشاً متألماً؟

صرت أكره أن ألتقي بالناس، وأنفر من المجتمعات، لأني لم أجد في كل ذلك إلاّ اجتماعاً مزيفاً: يتعانق الحبيبان، ولو كُشف لك عن نفسيهما لرأيت بينهما مثل ما بين الأزل والأبد، ويتناجى الصديقان ويتبادلان عبارات الود والإخاء، ولو ظهر لك باطنهما لرأيت كلاًّ منهما يلعن الآخر، وترى الجمعية الوطنية أو الحزب الشعبي، فلا تسمع إلاّ خطباً في التضحية والإخلاص ولا ترى إلاّ اجتماعاً واتفاقاً بين الأعضاء، ولو دخلت في قلوبهم لما وجدت إلاّ الإخلاص للذات وحب النفس وتضحية كل شيء في سبيل لذة شخصية أو منفعة!

وجدتني غريباً بين الناس، فتركت الناس وانصرفت إلى نفسي أكشف عالمها وأجوب فيافيها وأقطع بحارها وأدرس نواميسها، وجعلت من أفكاري وعواطفي أصدقاء وأعداء، وعشت بحب الأصدقاء وحرب الأعداء!

وسيظل الناس تحت أثقال العزلة المخيفة حتى يتصلوا بالله ويفكروا دائماً في أنه معهم وأنه يراهم ويسمعهم؛ هنالك تصير الآلام في الله لذة، والجوع في الله شبعاً، والمرض صحة، والموت هو الحياة السرمدية الخالدة. هنالك لا يبالي الإنسان ألاّ يكون معه أحد، لأنه يكون مع الله.

 

أنا رجل يتصورني القراء من بعيد «شيئاً» أكبر من حقيقتي، فلماذا أفضح نفسي عندهم؟ وعمَّ أتحدث إليهم، والأحاديث كثيرة، وما حدث لي يملأ كتباً؟

ثم قلت: لماذا لا أتحدث عن هذا... عن حقيقتي في نفسي وصورتي عند القراء؟ ولي في هذا الباب طرائف عجيبة. وأنا أكتب من أكثر من عشرين سنة في جرائد الشام ومجلات مصر ولبنان كتابة شيخ مكتهل، فكان القراء يحسبونني شيخاً أشيَب الشعر محنيّ الظهر يدبُّ دبيباً، وعلى وجهه من كتابة الأيام والتجارب سطور من «الأخاديد» فوق سطور. وما كنت أحب أن أذيع هذه الطرائف لأنها لا تنفع السامعين وإن كانت قد تلذّ لهم، ولكن المحطة أرادت أن أحدّث المستمعين عن بعض ما حدث لي، مضحِكاً كان أم غير مضحك. ولا بأس فالضحك ينفع الجسم ويدفع الدم ويزيد الشهية، أما المصيبة فأن تجيء النكتة باردة لا تضحك، أو أن أكون ثقيلاً يتخفف. والثقيل إذا تخفّف صار طاعوناً... والعياذ بالله.

جاءني مرة ثلاثة من الغرباء عن البلد، لم يعجبني شكلهم ولم يطربني قولهم، فوقفت على الباب أنظر إليهم فأرى الشكل يدل على أنهم غِلاظ، وينظرون إليّ فيرون فيّ «ولداً». فقالوا: هذه دار فضيلة الشيخ الطنطاوي؟ قلت كارهاً: نعم. فقالوا: الوالد هنا؟ قلت: لا. قالوا: فأين نلقاه؟ قلت: في مقبرة الدحداح، على الطريق المحاذي للنهر من جهة الجنوب. قالوا: يزور أمواته؟ قلت: لا. قالوا: إذن؟ قلت: هو الذي يُزار ... فصرخ أحدهم في وجهي صرخة أرعبتني وقال: مات؟ كيف مات؟ قلت: جاء أجله فمات. قالوا: عظّم الله أجركم، إنّا لله وإنا إليه راجعون، يا خسارة الأدب! قلت: إن والدي كان من أجلّ أهل العلم ولكن لم يكن أديباً. قالوا: مسكين، أنت لا تعرف أباك!

وانصرفوا وأغلقت الباب، وطفقت أضحك وحدي مثل المجانين. وحسبت المسألة قد انتهت، فما راعني العشية إلاّ الناس يتوافدون عليّ فأستقبلهم، فيجلسون صامتين إن كانوا لا يعرفون شخصي، ومَن عرفني ضحك وقال: ما هذه النكتة السخيفة؟ قلت: أيُّ نكتة؟ فأخرج أحدهم الجريدة وقال: هذه، هل تتجاهل؟ فأخذتها وإذا فيها: «نعي الكاتب الـ ... كذا وكذا، علي الطنطاوي»!

لقد عشت دهراً لو قيل لي فيه إنه سيأتي عليك يوم تجوز فيه بهذه المدرسة فلا تقف عليها إلاّ وقفة التذكر والحنين، ثم تمضي لطيتك وتنساها بعد خطوات، لما صدقت! فكيف هانت عليّ هذا الهوان وقد كانت بالأمس نصف دنياي؟ وهل دنيا التلميذ إلاّ داره ومدرسته والطريق بينهما؟ وقد كانت أبداً في فكري وحسّي: في الصباح حين أتوجه إليها، وفي النهار حين أكون فيها، وفي المساء حين أعود منها؛ قد تجمعت فيها أفراحي كلها وأتراحي وأصدقائي جميعاً وأعدائي، وكانت بضعة مني. بل كيف أنكرت ذلك الطفل الذي كان في سنة 1918 تلميذاً فيها يحمل اسمي وملامح وجهي؟ كيف جوزت لنفسي أن أطّرح آراءه، وأهزأ بأفكاره، وأحقّر ما كان يعظمه؟ لقد ذهب المسكين ولا أدري أين ذهب، وجئت من بعده، ولكني لم أنسَ حوادثه. فهل الذاكرة هي الشيء الفرد الذي يبقى ثابتاً في الإنسان على حين تبدل العقول والأجسام؟

ماتت دمشق التي نشأنا فيها، دمشق الإسلامية المرحة الفاضلة التي لم يكن فيها ماخور مشهور ولا ميسر ظاهر ولا عورات باديات ولا حانات ولا مُلهيات، وكانت فيها المرأة لبيتها والرجل لأهله، والعلماء عاملين بعلمهم مطاعين في أمتهم، والحي كالبيت الواحد في تعاون أهله وتعاطفهم، والمساجد عامرة والرجولة بادية، وأهل الدين لا يأكلون به الدنيا ولا يتخذونه تجارة ... فيا أسفي على دمشق التي ماتت! ويا رحمة الله على تلك الأيام: أيام لم نكن نعرف من الدنيا إلا المتع الفاضلة والفضائل الممتعة، نلهو ونلعب ولكن لا كلهو فتية اليوم ولا كلعبهم. كان أقصى ما نأتيه أن نركض في الأموي، أو ننقسم عند المساء قسمين فنقيم بيننا سوق حرب سلاحها المقالع والعصي. وقد نجرح أو نكسر، ولكننا نتعلم الرجولة والقوة، ثم نرجع متفقين. وأن نتلهى عن الدرس بقراءة قصة عنتر وحمزة البهلوان، نتلقى منهما ما ينقصنا من علم الكر والفر والمبارزة والقتال وأن نمكر بالمدرسين، وإن أممنا لهواً وأردناه فشهود خيال الظل (كراكوز)، وهو سينما تلك الأيام، ولا يراه منا إلا مقدوح في خلقه. أما التأنق والتجمل والترقق فلم نكن ندري منه شيئاً، وكان من العيب في أيامنا لبس البذلات لما تصور من أعضاء الجسم، فكنا نجيء إلى المدرسة بالقنابيز (الجلابيب)، وكنا نتعجل الشباب فنتخذ دواء (كان معروفاً) يطول به الشارب وينمو به قبل الأوان.

 

يا لهذا المغرور الأحمق الذي أصاب ذرة من العلم، وعبث بالكون عبث الوليد يرفع ويضع، فلم يعد يرضيه إلاّ أن يدّعي الألوهية أو «يؤلِّه» هذا العلم ... يا لهذه القوة الكاذبة وهذه السطوة الفارغة، هذا القويّ الجبار الذي فتت الصخر وأذلّ البحر، يذلّه مخلوقٌ من أصغر مخلوقات الله لا تراه لهوانه العين، يعيش الملايين منه في قطرة ماء، مخلوق واحد من أضعف المخلوقات يلقي الإنسان محطوماً، ويطيِّر هذه الأفكار كلها من رأسه حتى يعود ذليلاً خانعاً ... فكيف -ويحك- لو أصابك الله بعذاب من عنده؟ يا للأحمق المغرور!

تألمت في هذا المرض لكني تعلمت؛ تعلمت في الحياة درساً جديداً (وما الحياة إلاّ دروس ...) هو أن المرض نعمة ليس بنقمة، وأنه لازم للإنسان لا يدرك قيمة الصحة ولا يعرف معنى الحياة ولا يرجع إلى نفسه إلاّ إذا مرض، هنالك يدرك معاني هذه الأشياء التي يمرّ بها وهو صحيحٌ مرّاً سريعاً لأنه مشغول عنها بما لا نهاية له من الصغائر والترّهات. وإن للمريض -قبل لذّة الصحة- لذتين؛ لذة هذا العطف الذي يُحاط به والحب الذي يغمره ... ولن أنسى أبداً عطف مدير الكلية وناظرها عليّ وحبَّ الطلاب إياي، وإني لأسيغ ذكرى الألم إذا تصوّرت هذين الطالبين اللذين كانا يقيمان الليل كله بجانبي، إذا قلت «آه» أو انقلبت من جنب إلى جنب كانا واقفَين أمامي، آثراني على أهلهما وفضّلا راحتي على راحتهما، أما عطف إخوتي وأهلي فلست أذكره.

 

هذا ما كنت أجده لا أبالغ ولا أتخيل، فأرجو أن يصدّقني القراء. وهذه نعمة من نِعَم الله الخفية على الإنسان ومظهرٌ من مظاهر القوة الهائلة التي أعطاه، فلا يحكم الإنسان على المريض أو البائس بظاهره فيشكّ في عدل الله ورحمته، ولكنْ ليدخل إلى الداخل، لعلّ وراء الجدار الخَرِب قصراً عامراً، ولعل خلف الباب الضخم كوخاً خَرِباً، ولعل في هذه الثياب الرثة وهذا الجسم الممزَّق البالي نفساً مشرقة سعيدة وإنساناً كاملاً.

ترفّعْ عن المساكين وتكبّرْ على الفقراء يُرجِعْك المرضُ إلى صفوف المساكين والفقراء، فتَالَم كما يَالَمون، وتصيح مثل ما يصيحون. وكل ما في الحياة يسوّي بينك وبينهم. هل تنشق -أيها الغني- من الهواء هواء معطَّراً وينشقه الفقير بغير عطر، أم أن الهواء (وهو قوام الحياة) لك وله، قد سُوّي فيه بينك وبينه؟ هل تشرب ماء العيون معسولة مذاباً فيها السكر ويأخذها الفقير ملحاً أجاجاً؟ إن الهواء والماء والشمس والقمر والصحة والمرض والولادة والموت ... كل أولئك سطور خطَّ فيها اللهُ على صفحة الحياة أن الناس متساوون. هل سمعتم أن ابن الملك يولد -إذ يولد- مرتدياً الحرير، يمشي على رجليه إلى سريره ويلقي بنفسه خطبة ميلاده ويشرف من شبّاكه على شعبه، وابن السوقي يولد أخرس عارياً؟ افتحوا القبر ––المجصَّص الفخم وارفعوا ما فوقه من نصب وتماثيل وكتابات ونقوش، هل تجدون فيه عظاماً تضوع بالمسك وتفوح بالندِّ لأنها كانت تلبس الحرير وترتدي الديباج؟

إني كلما أخذت القلم لأكتب أحسست أنه يحرن ولا يملكني زمامه، وأنه يستعصي عليّ ويستعصم مني، وأجدني أميل إلى مطالعة كتاب أو النظر في صحيفة، فأقبل على القراءة وأعوض على ذهني ما فاته منها في هذا الزمن الطويل. وإني لا أزال أحتاج إلى تعلم كثير مما أجهل، ولا يزال في الكتب ما لا أستوعبه في شهرين أو ثلاثة، ولست قائلاً مقالة ذلك الدعيّ الذي زعم أنه قرأ ديوان الفرزدق في خمسة عشر يوماً، ولا والله ما يفهم قصيدة منه واحدة في شهر ... ولا الذي ظن أنه علم كل شيء حتى ما يسائل واحداً عن علم مسألة لكي يزدادها! فأسلمتني المطالعة إلى الزهد في الإنشاء، ومال بي الزهد إلى إيثار الدعة وابتغاء السلامة ومحبة الخمول بعد الرغبة في الذكر، فسبحان مقلِّب القلوب!

ولقد كنت أشكو الغربة وأضيق بها، فصرت أشكو فقدها. ويا حبذا الغربة، وأنعم بها مثيراً للشعور موقظاً للهمم. كنت أتألم منها فأصف ألمي، وأشتاق فأصور شوقي، وأرى فيها جديداً فأنتبه إليه فأكتب فيه، فرجعت أمرُّ على المشاهد غافلاً عنها لأني آلفها كلها وأعرفها، ورجعت لا آلم ولا أسر، ولا أقول إني راض ولا مبتئس ... وهذا لعمري شرّ ما يمر على الأديب من الأحوال، وهذا هو الموت! ولربما شغلني سفساف الأمور وأضاع عليّ الكثير من وقتي.
وهل ينفع القراء أن يعلموا أن عملي منذ شهر الطواف في أحياء دمشق من شرقها إلى المغرب، ومن شمالها إلى القبلة، أفتش عن دار أستعيض بها عن داري ، لأن حماقة صاحبها كرهت إليّ جمال مستشرَفها وطيب موقعها ... وأن أعصابي في ثورة دائمة عفتُ معها الحياة، من صبية عشرة (أحياهم الله لأبوَيهم) يسكنون الطبقة التي تحتنا، لا يهدؤون لحظة ولا يسكنون ولا يفترون عن بكاء أو صياح أو غناء أو قرع باب أو كسر شبّاك ... وقلبي يخفق وأعصابي تتمزق ولا أنتفع من نفسي بشيء، وإن شكوت إلى أحد سخر مني وضحك عليّ!
فليتصور القراء مبلغ ما أجد من الضيق والأذى، فيا ليت أني لم أُعطَ ملكة الكتابة، أو ليتني -إذ أُعطيتها- عرفت كيف أستفيد منها، فما شيء أصعب على الرجل من أن يريد ولا يقدر أو يقدر ولا يريد.

وليثق القرّاء أن يوماً يمرّ عليّ لا أكتب فيه شيئاً أو أعد في نفسي شيئاً لأكتبه لهو يوم بؤس عليّ لا يوم نعيم، وأن أول ما أفكر فيه -إذا سرني أمر أو ساءني، أو أعجبني أو راعني- كيف أصوره وأعرض على الناس صورته كي أنقل إليهم شعوري وأقاسمهم عواطفي؛ لا أفعل ذلك للشهرة والمجد الأدبي، ولا للنفع ولا للضرر، فقد بلغت من الشهرة ما يصح الوقوف عليه لو كانت الشهرة أكبر همي، ولكني رغبت عنها لأني وجدت ما نلت منها لم يُنلني خيراً قط. ثم إنه ليس بين الرجل وبين أن يشتهر في بلادنا بصفة الأدب إلاّ أن يكتب فصلاً أو فصلين، فإذا هو ومَن ملأ الأسماع أدباً حقاً وبلاغة باقية سواء! ولكني أكتب –علم  الله- لأدفع عن نفسي الملل وما يصيبها من الألم إذا أنا لم أكتب، فكأنني أعمل بالغريزة التي تدفع النحل إلى اتخاذ العسل والعقارب إلى نفث السم وكل حي من الحيوان إلى ما سُخِّر له من نفع أو ضرر! ولا أعلم أأحسن أم أسيء، ومتى يكون الإحسان وكيف يجيء، وكل ما أعلم أن فكرة تخطر على بالي تأتي بها نظرة أو سمعة، فتنمو فيها حتى تملأ ذهني وتسيطر عليّ فلا أملك عن تدوينها تأخراً؛ فآخذ القلم فإذا هي تجر وراءها أخوات لها، وإذا أنا أمضي في الكتابة لا أكف حتى يكون القلم هو الذي يقف، ثم أبعث بذلك إلى المجلة أو الجريدة، فإذا أبطأت بنشره أو أهملته سخطت وثرت، وإن نشرته فرحتُ به وقرأته مستمتعاً، فإذا مضى عليه يوم عدت إليه فرأيت عيوبه، فقلت: ليتني نقصت من هنا وزدت من هناك وحذفت هذا أو أثبتّ ذاك ... ثم لا يمنعني ذلك أن أعود إلى خلتي من الإسراع كَرّة أخرى. ولقد حاولت التنقيح والصناعة مرة فأفسدت من حيث توهمت الإصلاح، فعدت إلى طبعي. فإذا كان في الناس من يعجبه ما أكتبه فالحمد لله.

 

إني أركض أبداً وراء المستقبل؛ ففي المستقبل أبلغ آمالي، وفيه أصلح نفسي، وفيه أنيب إلى ربي، وفيه أكتب تلك المعاني التي طالما جاشت بها نفسي ولم يجرِ بها قلمي، وفيه أؤلف الكتب الكبار التي طالما أزمعت تأليفها ... وفيه أصنع كل شيء. ولكن المستقبل لن يأتي أبداً، وحين يأتي يصير «حاضراً» وأذهب أفتّش عن «مستقبل» آخر، فأنا كالفرس الذي يعدو ويشتد ويكدُّ نفسه ليدرك حزمة الحشيش، والحزمة معلقة في عنقه، يبصرها أبداً أمامه ولا يصل إليها، فلا يزال يسعى حتى يدركه الكلال فيقع، أو تعترضه حفرة فيسقط فيها ... ولكن الحفرة التي أسقط فيها أنا لا قيام منها ولا مناص من ورودها، ولا يستطيع أن يجتنبها كبير ولا صغير، ولا غني ولا فقير، ولا أمير ولا أجير.

وإذا أنا وصلت إلى الأمل الضخم هان عليّ وذهب بهاؤه وامَّحت روعته، كأن الآمال سراب لا يلمع إلاّ من بعيد.

وأنا أصرف العمر في قطع العمر وأجعل أكبر همي إضاعة يومي، كأني أُعطيت الحياة لأعمل على تبديدها، فإذا لم أجد ما أمزق به الوقت واضطررت إلى مواجهة الزمان في ساعة كساعات الانتظار ضقت بعمري، وضجرت وأحسست كأني سأجنّ!

إني أركض أبداً وراء المستقبل؛ ففي المستقبل أبلغ آمالي، وفيه أصلح نفسي، وفيه أنيب إلى ربي، وفيه أكتب تلك المعاني التي طالما جاشت بها نفسي ولم يجرِ بها قلمي، وفيه أؤلف الكتب الكبار التي طالما أزمعت تأليفها ... وفيه أصنع كل شيء. ولكن المستقبل لن يأتي أبداً، وحين يأتي يصير «حاضراً» وأذهب أفتّش عن «مستقبل» آخر، فأنا كالفرس الذي يعدو ويشتد ويكدُّ نفسه ليدرك حزمة الحشيش، والحزمة معلقة في عنقه، يبصرها أبداً أمامه ولا يصل إليها، فلا يزال يسعى حتى يدركه الكلال فيقع، أو تعترضه حفرة فيسقط فيها ... ولكن الحفرة التي أسقط فيها أنا لا قيام منها ولا مناص من ورودها، ولا يستطيع أن يجتنبها كبير ولا صغير، ولا غني ولا فقير، ولا أمير ولا أجير.

وإذا أنا وصلت إلى الأمل الضخم هان عليّ وذهب بهاؤه وامَّحت روعته، كأن الآمال سراب لا يلمع إلاّ من بعيد.

لا تقولوا: إنك تكتب في الدين وفي الفضيلة وإنك تدعو إلى الخير، لأني عزمت على أن أقول الليلة الحق ولو كان على نفسي.

الحق -يا سادة- أن الدعاة اليوم إلى الله (لا أستثني واحداً ممن أعرف منهم) كلهم ممثلون؛ يلبسون في المجلة أو على المنبر ثياب المسرح فيبدون بالجبة والعمامة، فإذا انقضى «الفصل» خلعوها وعادوا إلى بيوتهم، فعكف عابد الدينار منهم على معبوده ما له إلاّ جمع المال همّ، وعابد الشهوة عليها، وعابد الجاه، وعابد المنصب ... تعددت الأصنام والشرك واحد!

إنهم ممثلون وأنا أول الممثلين. ولو كنت صادقاً لما ألّفت في سيرة أبي بكر وعمر ثم عدلت عن سنتهما وسرت غير سيرتهما، ولو كنت صادقاً إذ أدعو إلى الإسلام لكنت في سري وجهري وفي لساني ويدي واقفاً عند أمر الإسلام ونهيه، ولو كنت صادقاً لما انغمست في حمأة هذه الحياة التي سال علينا سيلها من الغرب، ولو كنت (وكان عشرة مثلي، صادقين) لما بقي في الأرض فساد. ولقد طهّر الأرضَ من أوضارها منبر واحد من الخشب، ثلاثُ درجات ليس لها درابزين ولا عليها قبة ولا لها باب، فلِمَ لا تطهر الأرضَ مئةُ ألف منبر مزخرفة منقوشة محلاة لها أبواب جميلة وقِباب؟ ألأنّ الناس فسدت طبائعهم؟ ألأنّ الزمان قد دنا آخره؟

لا؛ بل لأن القائمين عليها وعّاظ من خشب، يحملون سيوفاً من خشب!

 

 

لقد ولّى الشباب وذبلت زهرة العمر وجاءت الكهولة، إن نسيتها ذكّرتني بها كل جارحة من جوارحي وكل عضو من أعضائي؛ إن أثقلت الطعام قالت المعدة: حاذر، إنك لم تعد شاباً. وإن مارست ما كنت أمارس من الرياضة قال القلب: قف، إنك لست بشاب. وإن تعرضت للبرد قالت المفاصل: تنبه، لقد فارقت عهد الشباب! وإن تطلعت إلى الحب أو ابتسمت للجمال، قال الفؤاد المَلول السّامان ... ويا ما أشد ما يقول الفؤاد السأمان الملول! وإن اشتعلت في الأعصاب نيران الحماسة وأخذت (ذلك) القلم الذي كنت أكتب به في الأيام الخوالي، تراءت لي هموم الأسرة فأطفأت نار الحماسة في أعصابي.

كنت وحيداً خفيفاً وكان لي جناحان من أحلامي وأماني، فأثقل ظهري بناتي الأربع وأمهن وعماتهن وعمة أبيهن، واصطدم جناحايَ بأرض الواقع، وتبيّنتُ ضلال الأحلام وكذب الأماني، فتحطم الجناحان، فكيف يطير بغير جناحين مَن يحمل همَّ ثماني نساء؟

 

 

إني لأسأل مرة ثانية: ما الشهرة؟

إن الشهرة وهمٌ ليس له في سوق الحقيقة قيمة وليس له في ميزان الواقع وزن، حتى إن هذا الحرف (أي الشهرة) لا يصح لغة، ولا تكون الشهرة في الفصيح إلاّ بالعيب والعار والفضيحة، ولكن الألسنة أدارتها على هذا المعنى فكتبنا للناس ما يفهمون.

إن الشهرة سراب زائف. إنها مثل «المستقبل» الذي يركض وراءه الناس كلهم فلا يصلون إليه أبداً، لأنهم إن وصلوا إليه صار «حاضراً» وعادوا يفتشون عن مستقبل آخر يعدُون إليه؛ كحزمة الحشيش المربوطة برأس الفرس، يسعى ليدركها وهي تسعى معه أبداً!

إنني أقول هذا من أعماق قلبي مؤمناً به، ولقد مرّ عليّ زمانٌ كان أحلى أمانيّ فيه أن أسير فيشير إليّ الناس بالأيدي يقولون: "هذا علي الطنطاوي"، وأن أعلو خطيباً كلَّ منبر، وأن أجد اسمي في كل صحيفة، وكان قلبي يتفتح للجمال ويستشرف للحب، فلما جربت هذا كله وذقت لذته صار كل ما أرجوه أن أتوارى عن الناس وأن أمشي بينهم فلا يعرفني منهم أحد.

 

لقد مرّ بي أكثر العمر، ورأيت الحياة ونلت لذاتها وجرعت آلامها. لم تبقَ متعة إلاّ استمتعت بها، فلا اللذائذ دامت ولا الآلام، ولا الشهرة أفادت ولا الجاه. ولقد شهدت حربين عالميتين، ورأيت تعاقب الدول على الشام من العثمانيين إلى الفرنسيين إلى مَن جاء بعد، ومَن قام ومَن قعد، ومَن أتى ومَن ذهب، ولو أردت الوزارة وسلكت طريقها لبلغتها من زمان كما بلغها من مشى على إثري في الدراسة وفي الحياة، ولو شئت لكنت من المشايخ الذين تُقبَّل أيديهم ثم تُملأ بالمال، فيملكون الضياع والسيارات ويصيرون -بحِرفة الدين- من كبار أبناء الدنيا! ولكني ما وجدت شيئاً يدوم. تذهب الوزارة فلا تترك إلاّ حسرة في نفوس أصحابها، ويصحو الناس فيعلمون أن الذي يأكل الدنيا بالدين لا يمكن أن يكون من الصالحين المصلحين ... فزهدت في المناصب والمراتب والمَشْيَخات، وهانت عليّ وصَغُرت في عيني، ولم يبقَ لي من دنياي (الآن) إلاّ مطلب واحد: يقظة قلب أدرك بها حقائق الوجود وغاية الحياة وأستعد بها لما بعد الموت. وهيهات يقظة القلب في هذا العالم المادي!

إن الذي يبلغ ذروة الجبل تنكشف له الجهة الأخرى فيرى ما بعد الانحدار، وأنا قد بلغت ذروة العمر وانحدرت ولكني لم أبصر شيئاً ... إن الطريق مغطى بالضباب، وقد أضعتُ مصباحي في زحمة الحياة ومعترك العيش!

وعرفت لذائذ الحياة كلها، فما الذي بقي في يدي وأنا أموت غرقاً من لذائذ الحياة كلها؟ وما الذي استبدلته بالعمل الصالح الذي لا أرجو النجاة الآن إلاّ به؟

لقد كان إبليس يشغلني عن الخشوع في الصلاة بالتفكير في البنطال أن يُفسد كيَّه السجودُ، ويخوّفني أن تذهب صحتي بقطع المنام لصلاة الفجر أو صيام أيام الحر من آب، وأن أخسر حسن رأي الناس فيّ إن جهرت بقولة الحق أو أن ينالني من ذلك أذىً في جسدي أو في رزقي! فوجدتني الآن أخسر الناس، إذ بعت النعيم الباقي، بهذا الوهم الزائل (3)؛ كزنوج إفريقية الذين يعطون كنوز بلادهم وخيراتها ليأخذوا خرزات لماعة، أو ساعة طنانة، أو هنة هينة من هنات الحضارة!

أو كأهل الجزيرة التي أراد الأميركيون أن يُخلوها ليتخذوها مكاناً لتجربة قنبلة ذرية يفجرونها فيها، فبعثوا إلى أهلها رسلاً منهم يخبرونهم وينذرونهم: إن هذه الجزيرة ستدمَّر وإنه لن يبقى فيها لحي مقام، وإنها صارت دار ممر وإن أمريكا هي دار المستقر، وإن مَن سلَّمَ أثاثه ورياشه وماله أعطوه في أميركا خيراً منها وأبدلوه بالخيمة في الجزيرة داراً في نيويورك، وإن الطيارات ستتوالى على الجزيرة لنقل أهلها فليكونوا جميعاً على استعداد، فإنه لا يدري أحدٌ متى سيُنقل، وليعلموا أنه ليس لأحد أن يحمل معه من متاعه شيئاً إلاّ ما كان قدّمه وسيجده أمامه.

هذه شكوى. ولكن ممّن؟ ولمن؟ لست أدري؟

أسمع الآن أذان الفجر وأنا في الفراش، أكتب وأجفاني مطبقة من النعاس، فاليد تكاد تجري بنفسها وأنا لا أبصر، أما الخط فخرابيشُ لا يقرؤها إلاّ أنا.

ذلك أني لبثت أتقلّب في الفراش إلى الآن؛ أغفي لحظة ثم أستيقظ. وما ذاك عن مرض، فأنا ولله الحمد نشيط قوي أمارس الرياضة وأحس دبيب الصحة في عضلاتي كأني شاب في الثلاثين. وما عن همِّ العيش والفكر في المال، فإنه يَرِدُ عليّ والحمد لله ما يكفيني ويزيد عني. وما عن خلاف في البيت أو مشاكل مع الناس، فأنا مستريح في بيتي وقد تركت الناس فلا أعاملهم ولا أقاربهم ولا أشتري ولا أبيع، ولا أشتغل بسياسة ولا رياسة، فاسترحت من الناس.

 

أقف في الطريق لأدوّن فكرة طرأت عليّ تصلح لحديث أو مقال، وأكتب في زحمة الترام أن ذكّرني الترام بشيء يصلح لحديث أو مقال، وإلى جنب سريري الورق والقلم مربوط بالمصباح، فكلما خطرت لي فكرة أضأت المصباح وكتبت. ويقول مدرّسو الأدب إن الأفكار تجيء في المناظر الجميلة، في الرياض حيث تزقزق العصافير وتهدر السواقي والمرء مستريح نشيط، أما أنا فلا تجيئني الأفكار إلاّ في الفراش وأنا محطم من النعاس، فأنا أشعل النور كل ليلة وأطفئه عشرين مرة، لذلك يهرب مني الأهل فلا يستطيع أن ينام أحد في الغرفة التي أنام فيها.

أما الناس فقد هربت منهم أو هربوا مني، فأنا من سنين منفرد معتزل لا أكاد أزور أحداً ولا يزورني الناس إلا قليلاً. وإن زارني صديق على شدة الشوق إليه والرغبة فيه لم أستطع أن أستقبله، وهل يستقبل الطالب أحداً ليلة الامتحان؟ إن عليّ في كل ليلة إعداد مقالة يمتحن بها القراء أو السامعون أدبي، ليروا هل أنا حيث كنت أم قد أدركني الونى والكلال فسقطت في المعركة.

لقد صيّرتني هذه المقالات وهذه الأحاديث غريباً وأنا في بلدي، وحرمتني حديث المجالس ولقاء الإخوان. لقد طار النوم من عيني الآن فقمت إلى المكتبة ... وسألتني ربة الدار والنوم يغالبها: هل من شيء؟ فلم أجب ... إنها ستسمع الجواب في هذا الحديث.

وهذه أيضاً من مصائب الأدب. للناس أسرار بينهم وبين أهليهم وأسرار يطوون عليها جوانحهم، والأديب المسكين ليس له سرّ، عليه أن يشرك القراء معه في أسراره كلها، حتى في أخباره في بيته، حتى في أدق مشاعره وأعمق عواطفه، عليه أن يصفها للناس ويحدثهم بها، فخفايا الأديب معلَنة وأسرار الأديب مذاعَة، فيا بؤس الأدباء!

هذه حالي يا أيها السامعون، وهذه هي الليلة الرابعة التي لا أنام فيها.

وبعد، فإنكم -يا سادتي- تسمعون حديث المحدث أو تقرؤون مقالة الكاتب فلا تتصورون ماذا أنفق في ذلك من جهد وما حمل من تعب حتى وصل ذلك إليكم. إنه كرغيف من الخبز تأكلونه بلا فكر فيه أو بحث عن حاله، ولو فكرتم لعلمتم ماذا عملت فيه من يد وما صُبّ فيه من جهد، من يوم حرَثَ الأرضَ الزارعُ إلى أن عجنَ العاجنُ وخبَزَ الخبّاز.

 

نحن إذ نعدو على طريق الحياة؛ نستبق كالمجانين ولكن لا ندري علامَ نتسابق، نعمل أبداً من اللحظة التي نفتح فيها عيوننا في الصباح إلى أن يغلقها النعاس في المساء، نعمل كل شيء إلا أن نفكر في أنفسنا أو ننظر من أين جئنا وإلى أين المصير!

وكنت أرجو أن أكون خطيباً يهز المنابر وكاتباً تمشي بآثاره البرد، وكنت أحسب ذلك غاية المنى وأقصى المطالب، فلما نلته زهدت فيه وذهبت مني حلاوته، ولم أعد أجد فيه ما يُشتهى ويُتمنّى.

وما المجد الأدبي؟ أهو أن يذكرك الناس في كل مكان وأن يتسابقوا إلى قراءة ما تكتب وسماع ما تذيع، وتتوارد عليك كتب الإعجاب وتقام لك حفلات التكريم؟ لقد رأيت ذلك كله، فهل تحبون أن أقول لكم ماذا رأيت فيه؟ رأيت سراباً ... سراب خادع، قبض الريح!

إني من سنين معتزل متفرد، تمر عليّ أسابيع وأسابيع لا أزور فيها ولا أزار، ولا أكاد أحدّث أحداً إلاّ حديث العمل في المحكمة أو حديث الأسرة في البيت. فماذا ينفعني وأنا في عزلتي إن كان في مراكش والهند وما بينهما مَن يتحدث عني ويمدحني، وماذا يضرني إن كان فيها من يذمني أو لم يكن فيها كلها مَن سمع باسمي؟

 

هل تعرفون السراب؟ إن الذي يسلك الصحراء يراه من بعيد كأنه عينٌ من الماء الزلال تحدق صافية في عين الشمس، فإذا كد الركابَ وحثّ الصحابَ ليبلغه لم يلقَ إلاّ التراب.

هذه هي ملذات الحياة؛ إنها لا تلذ إلاّ من بعيد.

يتمنى الفقير المال، يحسب أنه إذا أعطي عشرة آلاف ليرة فقد حيزت له الدنيا، فإذا أعطيها فصارت في يده لم يجد لها تلك اللذة التي كان يتصورها وطمع في مئة الألف ... إنه يحسّ الفقر بها وهي في يده كما يحسّ الفقر إليها يوم كانت يده خلاء منها، ولو نال مئة الألف لطلب المليون، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لابتغى له ثانياً، ولا يملأ عينَ ابن آدم إلاّ التراب.

 

ولم أرَ أضلَّ في نفسه ولا أغشَّ للناس ممّن يقول لك: لا تنظر إلاّ إلى الساعة التي أنت فيها، فإن:

ما مضى فاتَ والمؤمَّل غيبٌ ... ولكَ السّاعةُ التي أنت فيها

لا والله؛ ما فات ما مضى ولكن كُتب لك أو عليك، أحصاه الله ونسوه. والآتي غيب ولكنه غيب كالمشاهَد. وما مَثَل هذا القائل إلاّ كمَثَل راكب سفينة أشرفت على الغرق ولم يبقَ لها إلاّ ساعات، فما أسرع إلى زوارق النجاة إسراع العقلاء ولا ابتغى طوق النجاة كما يبتغيه من فاته الزورق، ولكنه عكف على تحسين غرفته في  السفينة الغارقة يزين جدرانها بالصور ويكنس أرضها من الغبار، يقول لنفسه: ما دامت السفينة غارقة على كل حال فلِمَ لا أستمتع بساعتي التي أنا فيها؟ يُفسد عمرَه كله بصلاح هذه الساعة، وإذا عرض له العقل يسفّه عملَه فليضرب وجه العقل بكأس الخمر التي تعمي عينيه فلا يبصر ولا يهتدي، وإن من الخمر لخمرة المال وخمرة السلطان!

انتهى

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply