بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
كان من جملة من أهدر دمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، فرَّ عكرمة هارباً على وجهه لما علم بذلك حتى وصل بحر جدة، فطلبت امراته أُمّ حَكِيمِ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَكَانَتِ امْرَأَةً عَاقِلَةً وأَسْلَمَتْ - الْأَمَانَ لِزَوْجِهَا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ، فَخَرَجَتْ فِي طَلَبِهِ حتى أدركته وقد هم أن يركب البحر، وَقَالَتْ لَهُ: جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ أَوْصَلِ النَّاسِ وَأَبَرِّ النَّاسِ وَخَيْرِ النَّاسِ، وَقَدِ اسْتَأْمَنْتُ لَكَ فَأَمَّنَكَ، فَرَجَعَ مَعَهَا، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَكَّةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «يَأْتِيَكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا، فَلَا تَسُبُّوا أَبَاهُ، فَإِنَّ سَبَّ الْمَيِّتِ يُؤْذِي الْحَيَّ، وَلَا يَبْلُغُ الْمَيِّتَ»، فَلَمَّا بَلَغَ بَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَبْشَرَ وَوَثَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ فَرِحًا بِقُدُومِهِ.
وَإِذا حَمَيتَ الماءَ لَم يورَد وَلَو أَنَّ القَياصِرَ وَالمُلوكَ ظِماءُ
وَإِذا أَجَرتَ فَأَنتَ بَيتُ اللَهِ لَم يَدخُل عَلَيهِ المُستَجيرَ عَداءُ
وَإِذا مَلَكتَ النَفسَ قُمتَ بِبِرِّها وَلَوَ اَنَّ ما مَلَكَت يَداكَ الشاءُ
أيها السادة الأماثل في القطعة العالية التي سقتها آنفاً من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم درسان بليغان وحكمتان عظيمتان... لا تتناهيان روعة وجدة وجمالاً...
أولاهما: أن كثيراً من أفعالنا التي نأتيها وأقوالنا التي نتلفظ بها لا نلقي لها بالاً ولا نتوقع لها مآلاً... فقد تكون ضعيفة النفع أو عديمه... وقد تكون متعدية الضرر فتزعج أو تكسر خواطراً أو تجرح مشاعراً ممن يسمعها أو تنقل له أو تصل إليه... وهو ما يؤسس له عليه الصلاة والسلام بقوله لأصحابه: فَلَا تَسُبُّوا أَبَاهُ، فَإِنَّ سَبَّ الْمَيِّتِ يُؤْذِي الْحَيَّ، وَلَا يَبْلُغُ الْمَيِّتَ...
بالعقل... والمنطق... وبحساب بسيط... تسب الميت؟ لن يتأثر... ولكنه يؤذي أقرباءه وذويه... فأنت خاسر في الحالتين...
ومثل هذا يقال لمن يلعن إبليس صباح مساء... ماذا يجني من وراء ذلك؟... ماذا لو استبدل اللعن بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أي صيغة ذكر... فكِّر في الأمر قليلاً وانظر في المسألة على الأقل بدافع من حب الذات والبحث عن المصلحة الشخصية... فستقلع بعدها عن كثير مما لا يعود عليه بالفائدة من فعل أو قول.
الدرس الثاني: احترام المشاعر... ومراعاة الخواطر والاعتبارات الخاصة والعامة في حياة الناس وهو معنى جميل... وخلق حضاري عال ومتطور... ويدل على إيمان راسخ وإسلام ظاهر ونبل عظيم كما عكسه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال هذا الموقف وغيره من المواقف الثابتة.
روى مسلم عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَى عَلَى أَزْوَاجِهِ وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ، فَقَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدًا سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ» قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: «تَكَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلِمَةٍ لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ».. وهي رفقاً بالقوارير... شبه النساء بالقوارير الزجاجية... كيف تداريها كي لا تنكسر؟ وكذا النساء... كالقوارير... رقيقات... تكسرهن الكلمة... ويبكيهن الحرف القاسي... وتحزنهن النظرة غير العادية... يعشن بالمشاعر الطيبة ويقتتن على كلمات الحب والاحترام... فأي لفتة هذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أَمّا الجَمالُ فَأَنتَ شَمسُ سَمائِهِ وَمَلاحَةُ الصِدّيقِ مِنكَ أَياءُ
وَإِذا رَحِمتَ فَأَنتَ أُمٌّ أَو أَبٌ هَذانِ في الدُنيا هُما الرُحَماءُ
وَإِذا بَنَيتَ فَخَيرُ زَوجٍ عِشرَةً وَإِذا اِبتَنَيتَ فَدونَكَ الآباءُ
إن احترام المشاعر يعني فيما يعنيه احترام الخصوصية وإجلال الإنسانية في الإنسان... روى البخاري أن سَهْل بْن حُنَيْفٍ، وَقَيْس بْن سَعْدٍ كانا قَاعِدَيْنِ بِالقَادِسِيَّةِ، فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ، فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالاَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا».
أَنتَ الَّذي نَظَمَ البَرِيَّةَ دينُهُ ماذا يَقولُ وَيَنظُمُ الشُعَراءُ
المُصلِحونَ أَصابِعٌ جُمِعَت يَداً هِيَ أَنتَ بَل أَنتَ اليَدُ البَيضاءُ
احترام المشاعر أيها السادة يعني احترام المكانة الاجتماعية في الإنسان، وقد ورد في الأثر - وقيل هو من كلام الفضيل بن عياض رحمه الله -: ارْحَمُوا عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ، وَغَنِيًا افْتَقَرَ، وَعَالِمًا بَيْنَ الْجُهَّالِ "... هذا من مراعاة المشاعر الذي منه أيضاً قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ»...فمن كان معروفاً بالصلاح أو ذا جاه بين الناس ومنزلة اجتماعية مهمة وعهدت منه الاستقامة، ولكن نفسه غلبت مرة فزل، أن نرعى ماضيه الجميل ونحترم مشاعره ونتجاوز عن زلته ما لم تتعلق بحق من حقوق المسلمين، على ما قال الشاعر:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد *** جاءت محاسنه بألف شفيع
وهو يعني أيضاً احترام الحاضر الحسن وعدم تذكير الإنسان بالماضي غير الجميل... فما مضى فات وانتهى... وربك الغفور ذو الرحمة... وكم نرى أناساً يذكرون التائبين بحالهم السابقة قبل التوبة دون احترام لمشاعرهم أو تقدير لشخصهم وإنسانيتهم وكأنهم أرسلوا عليهم حافظين، وفيما روى البخاري في صحيحه عبرة فقد روى أن الْغَامِدِيَّة لما زنت وأرادت أن يطهرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا، فَأقْبِل خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ، فَرَمَى رَأْسَهَا فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ: «مَهْلًا يَا خَالِدُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ».
فما أروع احترام المشاعر... وما أجمل أن يأخذ مكانه من أخلاقنا وتعاملاتنا اليومية في البيت وخارجه... اللهم وفقنا لذلك... فأنت نعم المولى ونعم النصير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد