ولكنكم تستعجلون


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

هكذا قال النبي لذلك الصحابي الذي أمضه البلاء، وأرهقته المحن وعض قلبَه الضرُ ..

جاء الصحابي الجليل بنفس منهوكة وفؤاد جريح، يحمل على كتفيه أثقال التعذيب وأحزان البأساء، جاء إلى النبي يرجو منه أن يواسي الأسى ويمسح الألم ..

جاء وقد ظن أن أول مس للمحنة كافٍ في القفز على السنن الكونية للدعوة ..

وأن بداية الألم هو نهاية الطغاة !

لم يطق ذلك الصحابي انتفاشة الباطل ولم يصبر على تقلب الذين كفروا في البلاد ..

لقد أراد من النبي دعوةً تحصد زرع الباطل وكفى !..

أراد الصحابي أن يستنصر النبي ربَه.. فيتنزل النصر سهلاً رُخاء بلا كلفة ولا تبعة ولا شُقة ..

أليس الله على كل شيء قدير؟

أليس الله بكافٍ عبده؟

إذن ..

فلمَ يستأخر النصر وَ يبطئ الفتح؟

لِمَ يتطاول الطريق وترهق النفوس ويأكل القهر الفؤاد من أطرافه؟!

هل تدري ماذا لقي ذلك الصحابي من الأذى في ذات الله، والبلاء والكرب؟

روى أبو ﻧﻌﻴﻢ ﻓﻲ اﻟﺤﻠﻴﺔ ﻗﺎﻝ:

"ﺳﺄﻝ ﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺑﻼﻻً ﻋﻤﺎ ﻟﻘﻲ ﻣﻦ اﻟﻤﺸﺮﻛﻴﻦ؟

ﻓﻘﺎﻝ ﺧﺒﺎﺏ: ﻳﺎ ﺃﻣﻴﺮ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ اﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻇﻬﺮﻱ ..

ﻓﻘﺎﻝ ﻋﻤﺮ: ﻣﺎ ﺭﺃﻳﺖ ﻛﺎﻟﻴﻮﻡ !

ﻗﺎﻝ خباب: ﺃﻭﻗﺪ المشركون ﻟﻲ ﻧﺎﺭاً ﻓﻤﺎ ﺃﻃﻔﺄﻫﺎ ﺇﻻ ﻭَﺩَﻙ ﻇﻬﺮﻱ !"

لقد جاء خباب بن الأرت إلى النبي كما في البخاري ..

ﻗﺎﻝ: ﺷﻜﻮﻧﺎ ﺇﻟﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﻭﻫﻮ ﻣﺘﻮﺳﺪ ﺑﺮﺩﺓ ﻟﻪ ﻓﻲ ﻇﻞ اﻟﻜﻌﺒﺔ ..

ﻗﻠﻨﺎ ﻟﻪ :

ﺃﻻ ﺗﺴﺘﻨﺼﺮ ﻟﻨﺎ؟ !

ﺃﻻ ﺗﺪﻋﻮ اﻟﻠﻪ ﻟﻨﺎ؟ !

ﻗﺎﻝ:" ﻛﺎﻥ اﻟﺮﺟﻞ ﻓﻴﻤﻦ ﻗﺒﻠﻜﻢ ﻳﺤﻔﺮ ﻟﻪ ﻓﻲ اﻷﺭﺽ ..

ﻓﻴﺠﻌﻞ ﻓﻴﻪ ﻓﻴﺠﺎء ﺑﺎﻟﻤﻨﺸﺎﺭ ..

ﻓﻴﻮﺿﻊ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺳﻪ ..

ﻓﻴﺸﻖ ﺑﺎﺛﻨﺘﻴﻦ ..

ﻭﻣﺎ ﻳﺼﺪﻩ ﺫﻟﻚ ﻋﻦ ﺩﻳﻨﻪ !

ﻭﻳﻤﺸﻂ ﺑﺄﻣﺸﺎﻁ اﻟﺤﺪﻳﺪ ﻣﺎ ﺩﻭﻥ ﻟﺤﻤﻪ ﻣﻦ ﻋﻈﻢ ﺃﻭ ﻋﺼﺐ ..

ﻭﻣﺎ ﻳﺼﺪﻩ ﺫﻟﻚ ﻋﻦ ﺩﻳﻨﻪ !

ﻭاﻟﻠﻪ ﻟﻴﺘﻤﻦ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ.. ﺣﺘﻰ ﻳﺴﻴﺮ اﻟﺮاﻛﺐ ﻣﻦ ﺻﻨﻌﺎء ﺇﻟﻰ ﺣﻀﺮﻣﻮﺕ ﻻ ﻳﺨﺎﻑ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ ﺃﻭ اﻟﺬﺋﺐ ﻋﻠﻰ ﻏﻨﻤﻪ..

ﻭﻟﻜﻨﻜﻢ ﺗﺴﺘﻌﺠﻠﻮﻥ! "..

ولكنكم تستعجلون ..

وتنسون أن لله سنةً لا تتخلف، وقدراً مكتوباً لا يتأخر، تنسون ويزيغ البصر عن أن النصر مع الصبر ..

 

ولكنكم تستعجلون ..

فتظنون أن النصر منحة سهلة مبذولة لكل أحد !

تظنون أن الفتح شأن قريب يطوله كل من مدّ يده ..

 

ولكنكم تستعجلون ..

فتغفلون عن موانع النصر، وعوائق الفتح ..

يطلب أحدهم النصر وقد ألقى معاصيه عقباتٍ في طريق نصره !

 

ولكنكم تستعجلون ..

وتريدون النصر قبل أن يغربل الصف، ويتميز الصادقون، ويُنفى عن الطريق كل فسل خَرِب القلب؛ يشوّه بناء الأمة الصقيل، وبناء الأمة لا يقبل الخبث .

 

ولكنكم تستعجلون ..

وتنسون أنه قد بقيت بقية مع أهل الطغيان، سيأتي بهم الله ويهديهم، وسيكونون من أهل الصدق والبلاء الحسن، ولو تم ما تعجلتم به لما كان ذلك .

 

ولكنكم تستعجلون ..

وتطمعون في نصر قريب سهل يذبل في نفوسكم وهجُه فيسهل عليكم تضييعه !

والنفوس مجبولة على الضِّنة بكل أمر تعبت في تحصيله وبذلت جَهدها في بلوغه، أما الكسب السريع الميسور فيهون إفلاته ولا يشق تضييعه .

 

ولكنكم تستعجلون ..

فتبغون فتحاً لم تطهره الدماء والدموع، ولم تبذل فيه المهج والأموال.

 

فلا تتعجلوا ..

وانظروا للمُثُل الأولى، انظروا إلى السابقين في هذا الطريق، إلى الأسوة الحسنة.. فيمن كان قبلكم..

 

ولقد كانت الدلالة النبوية -للأسوة الحسنة من السالفين- عظيمة في تربية القلب عالية في بنائه ..

فإن المؤمن لا يزال يطمح ببصره إلى من سلف، كلما طأطأ برأسه لينقش من قدمه شوكةً من البلاء ! عاد فرفع رأسه ينظر إلى من سبقه في الطريق ليحث السير ويتابع الخُطا ويلحق بالأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين -الذين سبقوه- وحسن أولئك رفيقاً .

ولو كان النصر نفحة ميسورة تتنزل بمجرد صدق صاحب المبدأ في مبادئه؛ لكان أولى الناس بذلك الأنبياء الذين:  "مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله".

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply