بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ألزمت الأنظمة الديمقراطية حكوماتِها –بعد استقلال القضاء فيها– بأمور، تضمن نزاهتها، تجاه معارضي الدولة، وأنها لا تتعرض لهم إلا بموجب التشريع، فمن حامت حوله تهمة ما، تضمن الأنظمة الديمقراطية له محاكمةً عادلة، في ضوء ضمانات كفلها الدستور والقانون، من أبرزها:
أولا: ضمانة الاتهام:
وتعني أن المتهم برئ من كل تهمة حتى تثبت إدانتُه أمام القضاء، فلا يؤخذ الناس بالظن والتخمين، ولا يؤخذون بمجرد كونهم ضايقوا الدولة في أمر ما، فلا يعتقلون ويحبسون إلا بوجود تهمه حقيقية تستوجب ذلك، ولابد من وجود قرينة تظهر أن المتهم ارتكب أمراً محرما بنص القانون.
كما تلزم هذه الضمانة الدول الديمقراطية استصدار مذكرة إيقاف من القضاء، تبرزها الشرطة المكلفة بحفظ الأمن عند إلقاء القبض على المتهم، ولا يلقى القبض عليه إلا بموجب هذه المذكرة.
أرقى صورة لهذه الضمانة شاهدتها كانت في مملكة النرويج الديمقراطية ، فلا تسمح الديمقراطية النرويجية إلقاء القبض على المتهم أمام أطفاله وعائلته ، وإن القضاء النرويجي يقدر شعور كل أحد ، لذلك لا يسمح للشرطة بالقبض في المنزل ، بل تراقب الشرطة تحركات المتهم خارج منزله ، لِتُلقِي عليه القبض ، وتخبر العائلةَ بعد ذلك بأدب ولطف ، بأن أباهم ذهب للمشاركة في الضيافة وسيعود قريبا ، وتعطيهم رقمها للاستفسار عنه .
وتُلزم هذه الضمانة كلَ الدول الديمقراطية بسجن المتهم أيام معدودة ، ما بين يوم واحد إلى أسبوع، لتقديم المتهم إلى المحاكمة والقضاء، ولا تبيح للشرطة حجزه بأكثر من هذه المدة، حتى لاتنتزع منه أقوالا تحت التعذيب أو الضغط، لا تَمُتُّ بصلة إلى الحقيقة، ومن حقه أن يصطحب محاميا أثناء فترة الاستجواب، وللمحامي أن يمنعه من الإجابة التي يرى فيها منزلقا قانونياً.
وحين حاول توني بلير وأمثاله، توسيع أيام الحبس على ذمة التحقيق، واجه معارضة شديدة، ورأى المعارضون أن ذلك يمس الحريات العامة للإنسان، فبالرغم من أن البرلمان البريطاني اقر هذا التوسيع إلى خمسة عشر يوما، إلا أنه كلف بلير منصبه، فمن أعظم أسباب استقالته التي وقعت قبل بضعة وأربعين يوما، توسيعه أيام الحبس دون محاكمة إلى خمسة عشر يوما، ولربما يكلف هذا التوسيع الحزب الحاكم في بريطانيا فقدان السلطة منه، والجلوس على مقاعد المعارضة.
وقد تكون التهمة عامة ، كاتهام أدارة من الإدارات أو وزارة من الوزارات، أو شعب من الشعوب أو دولة من الدول، فيكون من حق كل إنسان له انتماء إلى تلك الإدارات...... أن يحاكم المتهم، وربما طالبه المدعي بتعويض مالي، لما نال المتهم من سمعته ومكانته الاجتماعية.
ثانيا: ضمانة التحقيق:
ويعنون بذلك عدم استخدام الوسائل المؤثرة مع المتهم، كالإغراء ببراءة ساحته من التهمة، أو تخفيف العقوبة عنه، متى تعاون مع القضاء، أوكإرهابه بأنواع من التعذيب تقشعر لسماعه الجلود والأبدان، فضلا عن تحمله، كما تعطي هذه الضمانة للمتهم إذنا باصطحاب محامٍ يدافع عنه أمام القضاء، وربما تبرعت الدولة بمحام لعدم قدرة المتهم على دفع أجوره، أو رفضه وجود محامٍ يدافع عنه، كما أن وجوده كفيل بعدم الممارسات غير القانونية، وإبداء المشورة في الاستجواب.
إذاً القضاء الديمقراطي يلزم الدولة بتوفير كل ما شأنه تحقيق العدالة، ومن أساسيات العدالة ونظمها تقديم القضية إلى القضاء في صورة محددة، وإجراءات قانونية{PROCEDURE} لا تتم المحاكمة بدونها، وهذا لا يتوفر في الأعم الأغلب إلا عن طريق المحامي ومن ثم يُلزم القضاءُ الدولةَ بإيجاد محام يدافع عن المتهم، حتى لو رفض المتهم ذلك، وإنه قادر على الدفاع عن نفسه.
ومن أبجديات ضمانة التحقيق وجود الأدلة المادية، أو القرائن القاطعة التي تقود إلى التهمة، وقد تنوعت الأدلة المادية، فمنها الصوت المسجل، ومنها الكيمرة الفوتوغرافية، الحافظة للحادث بالصورة، ومنها طرح تساؤلات وعَدُّ نبضاتِ القلب، ففي كل سؤال يزداد فيه خفقان القلب يكون مؤشراً إلى وجود التهمة، وصلة المتهم بها، بالإضافة إلى اعتماد الأدلة التقليدية، من الاعتراف والشهادة..........
وجل الأنظمة الديمقراطية تستعين في التحقيق بما يسمى بشاهد الملك – king witness -، وهو أحد المرتكبين للجريمة ، يعفو عنه القضاء بشرط أن يدلى بتفصيل كل جزء من أجزاء الجريمة ، وبكل مرتكب من مرتكبيها.
ثالثا: ضمانة المحاكمة:
وتعني الحكم على المتهم بالعقوبة التي يقررها القانون، بلا زيادة أو نقصان، فإن زيد عليها فللمتهم حق استئناف الحكم ونقضه، إذا رأى أنه مجحف به، وإذا حكم القاضي بعقوبة أقل مما يقدره القانون، فللنيابة حق استئناف الحكم، وطلب الزيادة بما يقرره القانون.
فحين ينص القانون بسجن السارق مدة ما بين خمس سنوات إلى سبع سنوات، وحَكَمَ القاضي بثمان سنوات، فللمتهم حق استئناف الحكم، لأن فيه زيادة عما قرره القانون، وإن حكم القاضي بأقل من خمس سنوات، فللنيابة والإدعاء العام استئناف الحكم، وطلب الزيادة في العقوبة.
وتنحصر ضمانة الحكم في أنها تعطي السِوَاَر المحكم للقانون وللمتهم، فلا يستطيع أحد القضاة النيل من القانون، فيحكم بأقل من العقوبة المقررة فيه، كما أن هذه الضمانة تكفل للمجرم حقه في العقوبة المحددة، فلا يستطيع القاضي الزيادة في العقوبة عما حدده القانون.
كما تكفل ضمانة المحاكمة حق المتهم في استدعاء الشهود، الذين يرى أن شهادتهم تنفعه في قضيته، وتُلْزَمُ المحكمة بتلبية الطلب، وإحضار من طلب المتهم إحضارهم، بغض النظر عن مناصبهم وجاههم الاجتماعي، ولربما طلب المتهم شهادة الرئيس، أو رئيس الوزراء، أو شهادة أحد الوزراء، كل ذلك قابلٌ للتنفيذ، ولا تتلكأ المحكمة في تلبية الطلب، فالأنظمة الديمقراطية تكفل للمتهم محاكمة عادلة.
أضف إلى ذلك أن المتهم من حقه الاعتراض على تشكيل المحكمة، بجميع أعضائها، أو حصر اعتراضه في قاضٍ معين، فيستبدل ذلك القاضي، أو تشكل محكمة جديدة بأعضاء جدد، فضمانة المحاكمة في الأنظمة الديمقراطية الغربية العريقة، لا تحاكم المتهم إلا في محكمة يرتضيها، أو على أقل تقدير يطمئن إلى عدالتها، ونزاهة قُضَاتِها.
كما تعني ضمانة المحاكمة طلب التأجيل في القضية، لمزيد من الدراسة، أو تقديم أدلة جديدة، أو عدم استعداد المحامي، أو المتهم لهذه الجلسة، كل ذلك مكفول عن طريق ضمانة المحاكمة، وهذا ما يجعل الناس يرتاحون إلى القضاء الديمقراطي، ويشيدون به، بغض النظر عن كونه حقق مطلبهم، أو رفضه من غير تبرير.
رابعا: ضمانة التنفيذ:
وتعني تنفيذ العقوبة التي قررتها المحكمة، وحكم بها القاضي، بلا زيادة، فإن حكمت المحكمة بسجنه، فلا يوضع في سجن انفرادي، لأنه زيادة في العقوبة، ولا يكلف بتنفيذ أعمال داخل السجن، كطحن الدقيق وكنس غرف المساجين، وحراثة الأرض وزراعة الأشجار.....، لأن كل ذلك زيادة في العقوبة التي قررتها المحكمة.
فضمانة التنفيذ تنحصر في الجهة التي تشرف على تنفيذ العقوبة المعينة، وليس لها حق الاجتهاد في طريقة التنفيذ.
لذا يروى التاريخ في القضائي البريطاني، أن أحد قضاته حكم بإعدام مجرم، فشرح ملابسات الحكم وطريقة تنفيذه، فنص بوضع الحبل في العنق، ولم ينص على سحب الألواح الخشبية، التي يقف عليها المجرم، لتسقط جثته، فينقطع الحبل الشوكي فيموت، فحين وضع المشرف الحبل في العنق، وأراد سحب الألواح التي يقف عليها المجرم، منعه المحامي من سحبها، وهدده بالمحاكمة في جريمة قتل، إن سحب الألواح، لأن حكم التنفيذ لم ينص على سحب الألواح، رغم أن تحرير الحكم وملابساته وقرائنه، واضحة في إزهاق روح المجرم، فامتنعت الجهة التنفيذية عن السحب، واستؤنف الحكم، وقرر القضاة تبرئة المجرم، واُعْتُبِرَت العقوبة قد نُفِّذت، وان المجرم نال نصيبه ، فلا داعي لمحاكمته مرة أخرى.
وربما نص حكم التنفيذ، فحدد ساعة معينة، ودقيقة معينة، وثانية معينة، لتنفيذ الحكم، فلا تنفذ العقوبة إلا في التحديد المعين، فإن نفذت قبل ذلك أو بعده حوكمت الجهة التنفيذية، وربما بُرِّئت ساحة المجرم، لعدم تنفيذ العقوبة في الوقت المحدد.
ولضمان التنفيذ الدقيق نجد في كل دولة ديمقراطية لائحة معينة، تحدد علاقة السجين بسجانيه، ومن أهم بنود هذه اللائحة، توفير الرعاية الطبية له مجانا، وضمان حقه في الشكوى ضد إدارة السجن، والمطالبة بمقابلة محاميه داخل السجن، متى رأى مبرراً لذلك.
كما يضمن التنفيذ زيارة أهله له زيارة دورية، ويعطي أجرة يومية، مقابل كل يوم يقضيه داخل السجن، إذا كانت جريمته غير جنائية.
وتعتبر مملكة النرويج أسبق الدول تطويراً لضمانة التنفيذ، إذا أعطت لائحة السجن بيات ليلتين للسجين داخل أسرته، لتخفيف العناء عنها، ومنح كل عشرين سجينا غسالا يقوم بشؤون ملابسهم، وكل خمسين سجينا طبيبا يقوم برعايتهم طبيا، وكان منطلقها في كل ذلك تحقيق إنسانية الإنسان، بغض النظر عن كونه حراً أو مسجونا.
خامسا: ضمانة رد الاعتبار:
وتعني هذه الضمانة أن من برأت المحكمة ساحته من التهمة ، وأصدرت براءته ، فمن حقه أن يحاكم المُدَّعِى الكذوب، ويطالبه بتعويض يسد ما نال منه، وقد يكون هذا التعويض ماليا، فإن عجز عن دفعه ربما تحول إلى سجن فترة معينة، لاتهامه بريئاً بتهمة شوهت سمعتَه ، وربما كان رد الاعتبار بصورة يتناسب مع التهمة ومكانة البريء.
وما أكثر القضايا المقدمة ضمن رد الاعتبار، في القضاء الديمقراطي، وربما تكون القضية ضد دولة ما، كالقضية التي رفعها عبدا لقدير خان، رجل القنبلة الإسلامية النووية الباكستانية، ضد دولة هولندا، حين اتهمته بسرقة الأسرار النووية، من المعمل الذي كان يعمل فيه، فجرت محاكمته واثبت القضاء براءته، فطالب برد الاعتبار، فصدرت وثيقة من القضاء الهولندي نفسه برد اعتباره، وان الرجل برئ من هذه التهمة، وأُلْزِمَتْ كلُ الصحف التي نشرت خبر اتهامه، بنشر وثيقة براءته، ورد اعتباره كاملا غير منقوص.
ولا شك أن هذه الضمانات وغيرها هي من مقاييس التحضر الإنساني، وهي جديرة بالبقاء والاحترام، فإن التعامل مع المتهم الضعيف، يكشف لك عن مدى احترام إنسانية الإنسان في الدستور والقانون أو القضاء، لأن القوة تغرى بالاستبداد، والضعف يزيد من ذلك الاستبداد، فمتى امتنع القوى أياً كان نوع قوته عن إيذاء الضعيف وإذلاله، كان ذلك وِسَامَ شرفٍ في شعوره الإنساني، ومعاملة المتهم أكثر دلالة من غيرها في إبراز احترام إنسانية الإنسان مما سواها.
ما ذكرت من الحقوق والضمانات هي الصفحة المضيئة للنظام الديمقراطي، ولكنها ليست الوحيدة، وإنما هناك صفحات قاتمة، تفوق التلألؤ الذي تتفاخر به الديمقراطية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد