موت الغرب وانهيار الحضارة الغربية


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

ظهرت في الساحة الغربية كتب ودراسات كثيرة تحمل عناوين مثيرة وملفتة للنظر، تتحدث عن انهيار الغرب، وسقوط وتلاشي حضارته. بعضها يحمل العنوان نفسه، وبعضها الآخر يتناول هذا الموضوع ضمن فصول خاصة؛ وتتناول الانهيار الأخلاقي والقيَمي في المجتمعات الغربية، وفشل مؤسسة الأسرة، وانتشار واتساع دائرة الجريمة بشتى أنواعها، وعجز الأنظمة المعاصرة عن مواجهة موجات العنف والفوضى الداخلية، وانتشار سُعار الانتحار، وفشل الفلسفات الحديثة في معالجة الروح والرؤى والأفكار المُلحة التي تُطرح على عقل الإنسان الغربي..الخ.

الحقيقة الظاهرية التي ُتريد تلك الدراسات والكتب إيصالها إلينا، هي كشف الواقع الحقيقي الذي يعيشه الغرب. لكنها في الوقت نفسه تكشف لنا عن الطرح الشفاف والتعاطي الموضوعي والصراحة الشجاعة التي يتعامل بها الغرب مع مشاكله بشتى أنواعها، فهي مشاكل حقيقية، وهي أرقام صادقة وواقعية، وأغلب هذه الكتب والدراسات تقوم على أبحاث ميدانية بأساليب علمية، لإماطة اللثام عن واقع الحياة الغربية الحالي، استشرافاً للمستقبل الغربي.

ولكن الحقيقة الموضوعية هي أن هذا الموضوع يحتاج إلى مزيد بيان وشرح وتعاطٍ منطقي معه من قبلنا نحن، حيث إن هذه الكتب والدراسات ومثيلاتها تقدم لنا معلومات غنيَّة عن الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية والدينية في الغرب لا لأجل الفضائحية، بل تُقدم تحت ضوء النقد وجلد الذات أو قل: (الصراخ أو التفكير الصاخب من أجل استيقاظ الغرب).

ومما يحسن بيانه أن الغرب ينزع منذ القدم نحو رؤية نفسه ونقدها بشكل دوري، والالتفاف حول الذات والتبصر فيها وفي إيجابياتها وسلبياتها. إنه يفكر بصوت عالٍ، وليس هذا بجديد على الغرب، فالكتب التي تتوقع موت وانهيار الغرب؛ هي سلسلة متواصلة من (نقد الذات) والتحذير من مقدمات وبشائر الانهيار الذي قد يضرب الغرب في المستقبل القريب!

لقد كان أهل الفكر والثقافة في الغرب يفكرون بصوت صاخبٍ مستصرخين أقوامهم للنهوض من حالة التردي التي يمرون بها في لحظتهم الآنيَّة، وذلك منذ كتابات ودراسات (غوبون) في كتابه الشهير (سقوط الإمبراطورية الرومانية) والكتاب الشهير (سقوط الحضارة الغربية) أو (تدهور الغرب) للمفكر الألماني (أوزفالد اشبنغل) مروراً بما كتبه الفيلسوف البريطاني (أرنولد توينبي) حول التاريخ، وكتابات الفيلسوف الألماني الشهير (فريدريك نيتشه) وخاصة كتابه المعروف (هكذا تكلم زرادشت) الذي وصف الحضارة الغربية بدقة وبصورة عجيبة ورمزية، وكتاب (موت الغرب) لمؤلفه (باتريك. بوكانن) وغيرهم كثير.

إن هذه الدراسات هي من باب (التصحيح والنقد) وهي وإن كانت صحيحة منطقية، إلا أنها تنزع إلى التركيز على الجانب المظلم أو الخلل، وتغفل الجوانب الإيجابية الكثيرة في الغرب.

ولعل من شهادة الحق التي نشهد بها للآخرين -الحضارة الغربية- هي قدرة الغرب على النهوض السريع بعد كل كبوة وعثرة يتعثر بها، فقدراته الذاتية على نقد نفسه، ومعاودة النهوض من جديد أصبحت سمة راسخة في الغرب، الذي أصبح مدرسة في سرعة إعادة تشكيل ذاته، وسرعته وشجاعته في مواجهة أزماته الداخلية والخارجية، بقدرات ذاتية.

ومما نجده في تراثنا الأصيل عن الغرب، شهادة الصحابي الجليل والعبقري العربي الفذ (عمرو بن العاص) رضي الله عنه، الذي احتك بالغرب في السلم والحرب، وفي القوة والضعف، فقال فيهم مقولة أوجزها بعبقريته الفذة في عبارات بحق توصف بأنها تشخيص لعمل العقل السياسي والاجتماعي الغربي.

قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص: (سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس) فقال له عمرو: أبصر ما تقول. قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال عمرو: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربع: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك). أخرجه الإمام مسلم.

فهنا خبر غيبي يخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن آخر الزمان، وأنَّه حينما تقوم الساعة يكون الروم -الغرب- أكثر الناس، وكأنَّ عمرو بن العاص رأى أن للبقاء جملة من الأسباب والأساسيات التي يقوم عليها، ولذا نجده ينظر إلى الروم -وهو الخبير بهم- فيتأمل إيجابياتهم التي مكنتهم من المحافظة على بنائهم وبقائهم، وهذه هي مهمة المثقفين الأولى، والتي تتمثل في تَمثُل الإيجابيات وجلبها، وتَصور السلبيات والتحذير منها، فضلاً عن صناعة وابتكار الإيجابيات، والتنبؤ بالسلبيات واجتنابها.

فعمرو بن العاص -رضي الله عنه- ذكر أولاً: أن الغرب أهل عقل وحلم عند الفتن واختلاط الأمور وتشابهها، وهذه حقيقة واضحة تبدو لمن تصفح تاريخ الغرب.

ثم ثانياً: أنهم أسرع استدراكاً ونهوضاً بعد كبوة أو مصيبة أو كما قال الإمام النووي: (أخبرهم بعلاجها والخروج منها)، وخذ مثالاً (ألمانيا) كيف نهضت بعد الحرب العالمية الثانية قوية فتية كأن لم يمسها بأس!

ثم ثالثاً: أنهم يبادرون إلى العودة إلى ما كانوا عليه بعد تراجع وانحسار.

ورابعاً: التكافل والتضامن الاجتماعي بينهم، ورعايتهم لحقوق بعضهم، وانتصارهم لحقوق ضعفائهم وأصحاب الحاجات عندهم، وهذه ظاهرة في المؤسسات المدنية، وحقوق الإنسان، وحقوق المساواة التي فَضلَ بها الغرب عن الشرق كثيراً.

خامساً: أخلاقهم السياسية وطبائعهم التحررية التي ترفض الاستسلام للظلم، والخنوع للديكتاتورية، فهم من أمنع الناس عن ظلم الحكام والملوك، فترى الشعوب تنتزع حقوقها، وتُقنن حقوقها في دساتيرها بما يضمنها مع تقلب الأحوال.

ولعل ملخص هذه الطبائع يكمن في العدالة الغربية النسبية التي تقوم عليها المجتمعات الإنسانية، بل العدل تقوم عليه السماوات والأرض، ولا تقوم إلا به، ولذا فإن الدول العادلة وإن كانت كافرة فإن الله يقيمها وينصرها، وأما الدول الديكتاتورية الظالمة وإن كانت مسلمة، فإن الله يخذلها، لأنها خذلت أعظم ميزان في السنن الكونية والشرعية، وهو ميزان العدالة والمساواة.

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28- 63): (فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يُروى: الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة).

وقال ابن تيمية -أيضاً- في مجموع الفتاوى (28-146): (أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام).

ولذا فإن تلك الدراسات الغربية التي تتحدث عن انهيار وموت الغرب -رغم ما يغلب على أكثرها من طرح علمي، ومنهجي منطقي، وتعاطي عقلاني- إلا أنها أحياناً تحنى منحى ظنياً، أو تطرح رؤى مستقبلية عبارة عن توقعات شخصية لأن غرضها الإيجابي ضرب الواقع الغربي بماس كهربائي كي يراجع نفسه، تحت وطأت (فزاعة) السقوط الوشيك!

فمثلاً: الفيلسوف الألماني (اشبنغل) الذي توقع تدهور وسقوط الغرب، حيث يقول: (إن حضارة الغرب جاوزت مرحلة الشباب والقوة ودخلت في مرحلة التدهور والشيخوخة). هو الذي كتب أيضاً عن توقعاته في وحدة العرب واشتداد شوكتهم قبل انتهاء القرن العشرين!!

إننا يجب أن نتعامل مع هذه الدراسات بمنطقية وعقلانية،حتى لا نقع تحت ضحية (التخدير العقلي) أو (أوهام النصر) الذي يرسم لنا صورة تمثل سقوط (الآخر) في ظل غفوتنا الطويلة عن اللحاق بركب الأمم. لكن البعض يسيء فهم مقصود هؤلاء، أو يجد في كتاباتهم أو مجرد عناوين كتبهم مادة مخدرة لعقله أو لنفسه، ويطلق لنفسه الأماني بسقوط غيره دونما أن يبحث عن ارتقاء نفسه!

إن الغرب يملك شجاعة وصراحة كافية في بيان عيوبه ونقد ذاته -ليس مطلقاً- ويبحث في ذلك، ولا يخافه، ووفق دراسات أكاديمية مدعومة من الجميع حكومة وشعباً، في مقابل سكوت وصمت مجتمعاتنا العربية عن عيوبها الجوهرية.

نحن لا نملك إحصائيات حول الجوانب السياسية والاجتماعية والأخلاقية في مجتمعاتنا العربية، وإن كانت اعتقد أن الواقع ينذر بانهيار في جوانب كثيرة، فحقوق الإنسان في الدول العربية تنذر بخطر كبير، وارتفاع نسب الفقر، وتفشي المخدرات والجريمة وانتشار الخطف والاغتصاب والسطو المسلح، والطلاق، أمر يحذر من كارثة، فهل نحن قوم لا نحب أن نتعاط مع قضايانا بموضوعية أو شفافية، وأم أننا لا نؤمن بالبحث العلمي؟!

إن البحث عن أسباب سقوطنا وموتنا وانهيارنا أولى وأجدر من التلهي بمراقبة سقوط الآخرين، الذي أصبح عائقاً عن البناء ونقد الذات، وهذا هو الانهيار الحقيقي والسقوط الفعلي.

كل الشعوب لها مميزات لا توجد في غيرها ومن تلك ما ذكره عمرو بن العاص في حق الروم، وأمتنا العربية الإسلامية تتميز بميزات لا تتوفر في غيرها من الأمم، كالجوانب الأخلاقية و والاجتماعية والجوانب العلمية التي فيها أساس بقاء وقيام واستمرار الحضارات، كما أن أمتنا تتميز بميزة فريدة لا توجد في غيرها، وهي أنها أمة (الوحي) الذي يعصمها من الانحراف الحضاري ويوحدها حضارياً، وهذه المميزات تحتاج إلى من يستثمرها وينميها كما استثمر الغرب مميزاته ببراعة، كما أنه لم يأت في ديننا الإسلامي ما يمنع من الإفادة مما عند الغرب من خير وعلم وتقدم.

فهل مشكلتنا تنبع من انتظارنا سقوط حضارة (الآخر) دون مبادرة منا إلى البناء؟ وهل هذا هو الذي عطل قدراتنا عن الإعداد للصعود؟!

إنَّ الانتصار الحقيقي لأي أمة ليس بانتظارها سقوط غيرها، بل بنهوضها على أكتاف أبنائها، وصناعتها للمجد وأسباب القوة بإرادتها وقدراتها الذاتيَّة، إن الأمم تنهض وتسقط، وسقوط بعض الأمم الكبيرة لا يعني نهوضنا إذا لم نكن أهلاً سياسياً وعلمياً وثقافياً لسد ذلك الفراغ العالمي، فهل أصبحت أمتنا مجرد متفرج عاطلٍ يشاهد الأمم الناهضة والساقطة في مسرح هذه الحياة؟!

قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply