عاشوراء.. حفلات حزن تصنع الأحقاد


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

وقف الحسين ومعه كوكبة من أهل البيت في الصحراء، وقفوا في بريّة موحشة جرداء، العطش أخذ منهم كل مأخذ. النساء، الأطفال قد بلغ بهم العطش مبلغه. فأخذ الحسين يلتفت هنا وهناك، فلا يرى إلا الكثبان الرملية المتحركة كأنها الأفاعي، ولا يفصل بينه وبين المجهول إلا السراب الساخن.

 لم يجد أحداً من أنصاره الذين عاهدوه وبايعوه وراسلوه في انتظاره، فنظر يميناً وشمالاً نظراتٍ حائرة حزينة، تبحث عن أمل، عن قطرة ندى، عن مجرد كلمة صادقة، وابتسامة طاهرة.

هدوء الصحراء يلف المكان بوحشة وهيبة رهيبة، الهدوء القاتل لا يقطعه إلا صوت صفير رياح السموم، وقف الحسين كأنه النصب أو كأنه تمثال برونزي حيّ وسط السراب. وقف وليس حوله إلا الصخور، مبعثرة هنا وهناك، وبقايا عظام وجماجم حيوانية.

بلغ بالحسين العطش غاية مبلغه، فجف لسانه وحلقه، وتيبست شفته. وفي صحراء التيه والضياع، ركض أحد أبناء الحسين صارخاً في البريّة: أبتاه، أبتاه، أريد ماء. قالها الفرخ الصغير بصوتٍ مبحوح، جاف. فنظر الحسين بوجهه نظرة تأمل ورحمة في وجه صغيره، بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

لقد علم أنه لن يفهم موقفه التبريري بعدم وجود الماء، وهو يعلم أنه هو الذي أخرجهم إلى هذا المكان الموحش بعد دعوة شيعة الكوفة له، كان يدرك تمامًا أن أي فلسفة لن تقنع هذا الطفل الصغير بعدم وجود ماء، ولن يفهم لماذا يمنع شيعة الحسين الماء عنهم.

قام الحسين وحمل الطفل، وغرق في النظر في عينيه البريئتين. أخذ الحسين يتحدث مع طفله بلغة العيون، عيون الأب الرحيم، عيون حفيد الرسول التي تشبه عيون الرسول، وعيون الابن الصغير الغرير الذي لا يعلم لـمَ هو هنا؟!

ولما استفحلت أسئلة عيون الصغير، قام الحسين ووضع لسانه في فم الطفل، فقام الطفل بلفظ لسانه، وقال: أبتاه لسانك جاف! فسقطت دمعة من عين الحسين وقال: أنا مثلك يا حبيبي عطشان. فهم الطفل الغرير مغزى ذلك، فعاد حزيناً إلى أمه.

سار الحسين بأهله، حتى إذا وصل أرضاً سوداء موحشة مقفرة، قال: أي أرضٍ هذه؟

فقيل له: هذه كربلاء!!

فقال: هي والله كربٌ وبلاءٌ، والله المستعان!

وما إن وصلها حتى أحاط به شيعة أهل الكوفة، إحاطة الأعداء لا الأصدقاء، إحاطة الخونة،  لا إحاطة الأعوان.

رجموه بالحجارة وهو عطشان، وضربوه بالأسهم، وأحرقوا خيامه، وسرقوا متاعه، وحاصروه ومنعوا عنه وعن أهله الماء. فتقدم فارس أهل البيت العباس، وجالدهم بالسيف، ورماهم بالسهام، فوصل النهر بعد معركة دامية، وأدخل يده في النهر وقربها إلى فمه يريد الشرب، فتذكر حال الحسين وهو وحده هناك بلا ماء، فقذف بشربة الماء، وبكى، وتقدم إلى صفوف أهل الكوفة يضربهم، حتى سقط في أرض الشرفاء. لقد مات العباس شهيداً عطشانًا، رحل دون قطرة ماء.

فتقدم الحسين إلى أهل الكوفة راجياً منهم شربة ماء لأجل طفله الصغير، فمنعوه وأهانوه، فتقدم كالليث  نحو الماء، فتجمع حوله قطيع من شيعة الكوفة، فشتتهم وفرق شملهم بضرباته الحيدرية، وجعلهم طعاماً لطيور السماء.

حتى إذا وصل إلى الماء، والسهام تتناوشه من كل صوب، ظفر بشربة ماء لطفله الصغير، فعاد مسرعاً كالليث يعدو فرحاً بشربة الماء لشبله، فاحتضن الحسين ابنه، ووضع شربة الماء في فمه، فنظر الطفل إلى والده والفرحة تغمره، ولما همّ بالشرب تذكر الصغير لسان والده الحسين وعطشه، فدفع الماء من فمه إلى فم والده، وقال بصوت كصوت العصفور: أبتاه أنت عطشان فأشرب أنت!

أكبر الحسين موقف هذا الشبل الصغير، وقال: يا حبيبي أشرب فإن أباك سيشرب هذا اليوم كثيراً، ولكن ليس من ماء الدنيا!

أخذ الصغير الماء بيديه ووضع الماء في فمه، وهو ينظر بعينيه نحو أبيه بفرح وسرور، وضع الماء على شفتيه. وهناك خلف النهر كان أهل الكوفة، فطار من أشقاهم سهم صوبه نحو الطفل، فتجاوز السهم النهر، ومر على الماء، واستقر في قلب الطفل الصغير. انتثر الماء وطار بعيداً، وطارت قطرات الدم على وجه الطفل، فنظر إلى أبيه الحسين، قائلاً: أبتاه سأموت عطشاناً!! ثم أغمض عينه وأسلم الروح!

سالت دماء الصغير على يد الحسين، وسقطت دمعاتٌ من عينيه على وجه ابنه، وألتفت ونظر إلى الجانب الآخر، فشاهد شيعة أهل الكوفة يصيحون فرحين بإصابة السهم قلب ابن الحسين! فرجع الحسين بذاكرته إلى الوراء، ويتذكر العشرة آلاف رسالة التي وصلته من أهل الكوفة تدعوه للقدوم إليهم كي ينصروه ويقفوا معه!!

نظر الحسين هناك .. فوجد العباس ميتًا!

وهناك.. فوجد الخيام تحرق!

وفي الجهة الأخرى.. وجد أهل الكوفة يرمون بقية أهله بالسهام!

وهنا.. وجد ابنه الطائر الصغير ميتاً مغمض العين، وشفته جافة لم تذق الماء..

وقف ونظر إلى السماء وبكى..

كان مقتل الحسين جريمة شنيعة، لا يتذكرها المؤمن إلا ويحزن ويسترجع، لكن الذين خذلوا الحسين، قد أحدثوا في كل عامٍ مقتلة للحسين وذريته، يقتلونهم تحت شعار (الحزن على الحسين) أو تحت شعار (عاشوراء).

ولا يخفى على العقلاء أنَّ هدف هؤلاء، الذين يزرعون الكراهية بمثل تلك المناسبات، هو استنـزاف الشعور الجمعي غاية الاستنـزاف، وتوظيفه في أجندة تخدم أيديولوجيتهم الخاصة. إن هذه الآلام الحقيقية أو "المفبركة" توظفُ  "كبروبيغندا" تغذي الضمير الجمعي نحو هدف مُوَاحَد ومُوحِـد!

إن هذه الآلام ليست إلا سلسلة حلقات توظيف الأحداث أو المخيلة؛ لاستدرار عواطف الشعوب الطيبة، لأي شيء؟

لتغذية الانتقام والكراهية، فكلما مر بالشيعي طيف وصور الحسين وهو في معركة كربلاء، كلما كان أكثر استعدادًا وقابلية للانتقام من أعدائه، الذين تصورهم "حفلات عاشوراء" بأنهم ليسوا إلا أهل السنة.

من المؤكد أن ما نشاهده هذه الأيام، أيام "عاشوراء" ليس إلا صناعة لآلام مزيفة على حساب الآلام الحقيقية. فهل "التطبير"، أي: ضرب الرؤوس والظهر بالسيوف والخناجر والسلاسل، هو عملية غفران لذنب الخيانة؟ أم هو مواساة للحسين؟ أم وسيلة لزيادة الغضب الشعبي للانتقام؟ أم أنَّ وراء القضية ما وراءها؟

إن صنّـاع "آلام عاشوراء" الكبار ليس هدفهم تكفير كبيرة خيانة الحسين رضي الله عنه، بل الأمر له وجه آخر مخفيّ أو معلن حسب الظروف الزمنية والمكانية!

أن هدف اللاعبين الكبار في صناعة "آلام عاشوراء" له وجه آخر أسود ومخيف، فكما كان هؤلاء هم من دبر مؤامرة الحسين الأولى، فهم أيضاً من يدبر المؤامرة في كل عام مرة، ويقتلون الحسين في عاشوراء في كل سنة تحت اسم "آلام عاشوراء"

فهؤلاء الصنّـاع لهم هدف استراتيجي يتمثل في استغلال هذه الآلام لأهداف أخرى غير المعلنة، ويدل على ذلك النتائج التي تظهر لنا كل سنة من وراء أيام محرم وخاصة عاشوراء، فهؤلاء لهم أجندة خطيرة وهي:

تغذية الكراهية والحقد والبغضاء بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة باسم الحسين، فبالأمس قتلوا الحسين باسم الحسين، واليوم يفرقون الأمة باسم الحسين!

وهؤلاء لأن غايتهم غير شرعية، فوسائلهم أيضا غير شرعية، فلا مانع بأن يُستَفاد من تراث آلام الأمم الأخرى ويوظف في حكايات عاشوراء، ولا مانع من أخذ كل شيء يمكن أن يستدر عواطف عوام الشيعة، لتحقيق المكسب المالي على المستوى الشخصي، وتحقيق العداوة والبغضاء على المستوى العام للأمة الإسلامية.

ومن يتأمل تاريخ هذه المسيرات عبر التاريخ الإسلامي، يجد أنها من أهم عوامل ضرب الوحدة الإسلامية، بل معول هدم الوحدة والأخوة الإسلامية، ومحرك للبغضاء والتشاحن، ومغذية للكراهية والحقد بين المسلمين.

فما كان يحصل بين السنة والشيعة عام 338هـ في بغداد، وعام: 406،408، 421،422،425،439،443، 444، 447،482، 510.. إلخ، لأكبر دليل على أن هذه المسيرات التي تلقب بالحسينيات أو العزاء أو نحوه ليست إلا مسماراً في نعش وحدة الأمة!

ويكفي أن يستمع المسلم أو يشاهد فعاليات هذه المسيرات، فخيار هذه الأمة يلعنون، والصحابة على ألسنة "الرواديد" يكفرون، وأعراض أمهات المؤمنين تنتهك وتباح لكل رخيص، ونبرة الطائفية تعلو، ولغة السيف والانتقام هي الأقوى، ورائحة الدماء تفوح، ولغة التهديد والوعيد تحتد وتبرز، وكل ذلك في مسيرات سوداء صارخة منتقمة!

ومن تأمل حال المسيرات والعزاء بشكل دقيق، أي خالط هذه المسيرات بنفسه، يكتشف أمراً محيراً، وهو: أنه ليس في هذه المآتم أي شيء يدل على وجود مأتم  حقيقي، غير اللباس الأسود!

فاللباس بشكل عام أنيق وجميل، وهناك تنافس على الأزياء كل سنة، للفت الأنظار، وجلب نظرات الإعجاب من الشباب والفتيات!

فبناطيل "الجنـز" الجديدة في كل مكان، و"التيشيرتات" الأنيقة تزيّن الشباب، والأجسام المتناسقة والعضلات المفتولة تفتن فتيات المآتم، بل إن الترقيم والمعاكسات ينشط بشكل غريب في مآتم الحسين!

ومن أعجب الأمور أنه في عاشوراء يوم قتل الحسين وأهل بيته عطشاً وجوعاً وحرقاً، وبينما أهل السنة يصومون هذا اليوم، يقوم الشيعة بتوزيع الحلوى (!!)، وإقامة أطيب أنواع الموائد للطعام والشراب، فالمحموس، والشراب البارد، والسنبوسة..إلخ، على قدم وساق يتجمع عليها الشيعة الحزينين على مقتل الحسين!!

ومع هذه الآناقة والشياكة، والمطاعم والمشارب، واجتماع الأهل والأحباب، تنظم المسيرات الحسينية في أيام المآتم العاشوريّة حفلات أناشيد!!

وفي كل مسيرة يتنافس الجميع في جلب أفضل (رادود حسيني) كي يطرب المجتمعين بصوته العذب الشجيّ! وهؤلاء الرواديد أصبحوا من وجوه القوم مكانة وثراءً، بسبب العائد المادي الهائلة لهذه الحفلات الحسينية!

ويبرز التنافس –وفي الغالب غير شريف- بين الرواديد لكسب الأسواق العالمية، فأفضل سوق للرواديد، هو في دول بعض الخليج حيث الحفلات الغنية، ثم يليها أوروبا.. وهكذا، ويكون التنافس ساخنًا، ويصل إلى تبادل الاتهامات والطعن والمهاترات!

وتبدأ المسيرات الحسينية بالغناء والأهازيج، ويتمايل الرادود والمغني يميناً وشمالاً، ويتمايل الناس معه في طرب واستمتاع، ويضربون على صدورهم محدثين نغماً منتظماً، وبشكلٍ  موحد، وكل رادودٍ يحرص على جمع أكبر عددٍ ممكن حوله.

ومع وجود الهدف  المصالحي الشخصي، يظل هدف الأكثرية واحدًا، وهو صياغة الأشعار والكلمات بما يخدم الهدف الأساسي وهو تفريق كلمة المسلمين، وتغذية الكراهية والحقد!!

يقول الشيخ العالم الشيعي الكبير "مرتضى مطهري": (إذا تجاورت النحل وتعاشرت تبادلت العقائد والأذواق وإن تباعدت في شعاراتها، من ذلك مثلا سريان عادة التطبير أي ضرب الرؤوس والقامات وضرب الطبول والنفخ في الأبواق من المسيحيين الأرثوذكس القفقازيين إلى إيران وانتشرت فيها انتشار النار في الهشيم، بسبب استعداد النفوس والروحيات لتقبلها).

في كتابه: (الإمام علي في قوته الجاذبة والدافعة – 180).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply