بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ما أعظمها من مصيبة حين يتحول الإيجابيون والمؤثرون وطلبة العلم والدعاة والمستشارون من الإنتاج المعرفي والعلمي والتطبيق العملي وتحقيق الأهداف وخدمة المجتمع إلى الاستهلاك فحسب.
وحين يتحول هؤلاء الصفوة من البحث عن الدقائق الضائعة طمعاً في توظيفها والاستفادة منها إلى إهدار الساعات الطوال على توافه شبكة الإنترنت!
وحين يكتفي القادرون على التأثير والتغيير بمجرد المتابعة والرتويت والتفضيل وكتابة تعليق هنا أو هناك!
إنها مصيبة حين يصبح هَمّ الواحد من هؤلاء الذين آتاهم الله شيئاً من العلم أو الفهم أو الوعي وهجّيراه: متابعة الواتساب والسناب وتويتر وانستغرام للإحاطة بـ “ماجريات الشبكة العنكبوتية”.
وحين يكون وقت أحدهم الذي يمضيه على جواله أكثر من الوقت المعطى لكتابه وتلاميذه وصلاته وتلاوته وأهله وأهدافه.
وحين يقدم أولئك “القدوات” أنموذجاً سيئاً، وقدوةً غير حسنة في التعامل مع مضيعات الأوقات وترتيب الأولويات والتعامل مع التقنيات.
وحين يتساوى أفاضل القوم وأراذلهم، ويتساوى مثقفيهم وعامتهم في أسلوب التعاطي السلبي والتأثّر التبعي بما يتم طرحه في شبكات التواصل.
إنها مصيبة حين يظن أولئك أنهم فاعلون ومؤثرون لمجرد كونهم رجع صدى لما يطرحه الآخرون، وردة فعل لمبادرات الغير.
وحين يظنّ الواحد منهم أن هذه الإضاعة –المجرّمة شرعاً– هي من باب فقه الواقع أو الاهتمام بأمور المسلمين، وهي لا تعدو أن تكون إدماناً بكل ما للكلمة من معنى، وتطبيقاً فعلياً لحديث المنهيات الثلاث (قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
وحين يتواطأ هؤلاء على التساكت عن هذا الإدمان الإلكتروني لأنهم واقعون فيه، فيشرعنونه بدلاً من أن يعالجوه في أنفسهم وفي غيرهم.
أيها المباركون:
ما أحوجنا لثورة ضد هذا الإدمان الإلكتروني الخطير، يقودها القدوات التائبون ضد هذا الانسياق السلبي الأعمى مع التقنية والشبكات وما يدور فيها.
وما أحوجنا إلى وضع الأطر والأسيجة والعلامات التحذيرية أمام هذا التعلق والهيام والعشق والذوبان في شبكات التواصل مهما تلبس بلبوس حسن، وبدعوى المكاثرة والمزاحمة.
وما أحوجنا إلى مواصلة الإنكار على هذا الإدمان، وتطوير أدوات الإنكار وتنويع أساليبه، وعدم القبول بالأمر تحت ذريعة “ماعمّت به البلوى”.
تنويهات لا بد منها:
1. هذا الحديث السابق.. موجّه منّي إليك أنت أيها القارئ شخصياً! وليس لرجل ثالث تتوهم أنني أقصده وأعنيه، فإحدى مشكلاتنا: شعور الواحد منا بأن هذا الكلام ينطبق على (أولئك) وليس عليه (هو)، كما تقوله “نظرية الرجل الثالث” في التأثير الإعلامي، والتوهم بأنك أنت تقدم نموذجاً للاعتدال والاتزان المزعوم في التعامل مع التقنية، مع أنك في الواقع لست كذلك.
2. حذارِ من أن تعتبر حديثي هذا موجهاً للأسماء الشهيرة التي ذاع صيتها، من المشايخ والدعاة المعروفين، بل حديثي لك أنت، فكم من أدوار ومهام وأعمال تنتظر هَبّتك، ووقتك، وهمّتك، وكم من مساحات من التأثير تحتاج لمثلك كي يقوموا بها، ويؤثروا من خلالها، فلم تعد صغيراً على التأثير، ونظرتك لنفسك على أنك لست الشخص المناسب للتأثير، هي مشكلة أخرى تحتاج إلى أن تتعالج منها.
3. إنما يقاس حجم المشكلة بالتفكير في الفرص البديلة، فكم من الوقت تمضيه على جوالك، وما المهام التي كان بالإمكان إنجازها لو انقطعت شبكة الإنترنت لمدة أسبوع عن العالم كلّه؟
4. أستثني من بعض حديثي هذا من كانت مشاريعهم الدعوية والتعليمية قائمة على توظيف تلك التقنيات لإيصال رسالتهم بشكل جاد ومستمر وممنهج، فهؤلاء على ثغر عظيم يمكنهم من خلاله إنقاذ من يمكن إنقاذه، وتوظيف التقنية لخدمة أهدافهم، بدلاً من أن توظّفهم التقنية لخدمة أهدافها.
5. حديثي عن هذه المشكلة لا يعني بحال من الأحوال أنني سالم منها، وأنني الطبيب الذي يصرف وصفات العلاج لمرضاه وهو معافى، بل أنا واحد منكم، أصابني من هذا الداء ما أصابكم، لكنني لم أجد بُداً من أن أقوم من بين الصفوف واعظاً لنفسي ولأحبتي، لكي يتحقق فينا قول الله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)، وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لتأمُرنّ بالمعروف ولتنهوُنّ عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)
وما أسعدني برسالة لاحقة منك تُبشّرني فيها بدخولك مع نفسك في برنامج علاجي فعلي، ووصولك لمرحلة التشافي من هذا الوباء.
دمت مؤثراً فاعلاً إيجابياً، وجعلك الله مباركاً أينما كنت.
وتقبل كل تقديري ومحبتي وودّي واعتذاري وقسوة عبارتي فإنني أرجو أن تكون قد صدرت من قلب محبّ مشفق.
وألقاك على خير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد