علمني الإمام السيوطي


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

في الساعة العاشرة تقريبًا، من أحد أيام عام 1418هـ ذهبت بصحبة اثنين من الأصدقاء إلى مكتبة العبيكان، وقد كانت ملاذنا الثقافي تلك الحقبة، نجد تحت سقفها الكبير شعورًا بالثقافة حتى ولو لم نشتر كتبًا! كانت أشعة شمس الصباح المتسللة من زجاج المكتبة تعطي شكلًا جميلا للكتب والناس والأشياء داخل المكتبة..

صعدنا إلى الطابق الثاني، وكنت وقتها مهووسًا بالكتب، والقراءة، والثرثرة حول هذه الأمور، وبينما نحن في أحد ممرات الطابق الثاني نتناقش حول كتاب للإمام السيوطي، إذا بأحد العاملين في المكتبة يمرُّ بنا، ثم يعطينا رأيًا حول ذلك الكتاب، أو حول الإمام السيوطي (نسيت!)، ولعلَّ غرورًا ما أحبَّ تلك اللحظة أن يطلَّ برأسه من خلال كلماتي، فقلت وكأنِّي أريد أن أنصح ذلك العامل بأن ينشغل بعمله ويتركنا ونقاشنا: متى توفِّي الإمام السيوطي تقريبًا؟ اختبار قدرات! هكذا بكل فجاجة وصراحة، اختبار كان الراسب فيه هو المختبِر لا المختبَر! اختبار ظهرت نتيجته قبل البدء بالإجابة! رفع رأسه وأعلمني بلهجة سوريَّة غاضبة نوعًا ما أنَّ الإمام السيوطي قد مات عام تسعمئة وإحدى عشرة للهجرة (911ه).. وهو تاريخ وفاته رحمه الله بدقَّة!

شعرت بالحرج، وبأن ذلك الكبر الذي أطلَّ برأسه قد رجع خاسئًا وهو حسير..

الموقف لا أحسد عليه، بل حتى نظرات صاحبيَّ كان فيهما قدر من التشفِّي الذي كنت أستحقُّه بلا نقاش، ولا أقول هذا الكلام الآن، بل في لحظتها شعرت بأنِّي أستحق ما جاءني.. وبأنِّي قد تلقيت درسًا ممهورًا بختم الإمام السيوطي رحمه، فلا أقرأ كلامًا بعدها له _رحمه الله_ أو أرى اسمه، أو أقع على عدد 911 في أي كتاب، أو نهاية رقم جوَّال، أو رقم رحلة طيران.. إلا وأحس بباب غرفة شوهاء داخل قلبي ينفتح ويطلُّ من خلال ظلمتها وجه قميء جدًّا..

 

أزمة الثياب الرثَّة:

جاء ذِكر أحد طلبة العلم في إحدى المناطق، وقد رفعه الله بالعلم مكانًا عليًّا، فأخبرني محدثي أنَّه كان يحتقر هذا الشخص قديمًا عندما كان يراه ينتقل من درس إلى درس، فيراه هزيل الجسد، بالي الثياب، فيقول بسخرية: هل يظن هذا أنَّه سيغدو طالب علم في يوم من الأيام؟

ومرَّت الأيام، وأراد الله أن يُري صاحبي أنَّه على كل شيء قدير، وأن الناس ليسوا بثيابهم، ولا بأجسادهم، وإنَّما بهممهم، وأعمالهم..

دخل الإمام الشافعي بلدة، وكان يرتدي ثيابًا رخيصة، فلم يؤبه له، ولم يعلموا أن الذي أتاهم هو من الشخصيات التي يصعب أن تتكرر، فقال _رضي الله عنه_:

عليَّ ثيابٌ لو تباع جميعهــــا

بفَلْس لكان الفلس منهنَّ أكثرا

وفيهنَّ نفس لو تقاس ببعضها

نفوس الورى كانت أجلَّ وأكبرا

لا تجعل الثياب الرثَّة إحدى أزماتك، ولا تضف إلى عقدك النفسيَّة عقدة الجسد الهزيل.. فعبد الله بن مسعود كان ذا ساقين هزيلتين، حتى إن الصحابة ضحكوا عليهما لما كشفتهما الريح، وهو يرقى على إحدى الأشجار، فجاء النبي بالمعيار الحقيقي، فقال: "والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد".

وجبل أحد لمن لم يزر المدينة ليس جبلا بالمفهوم الذهني للجبل، بل سلسلة جبال تروعك ضخامتها وهيبتها.. تُرى ما وزنها؟ بل تُرى ما وزن هاتين الساقين العظيمتين؟

 

فتنة المتبوع:

ما الذي يجعلنا نمارس الأستاذية على الآخرين؟ مع أنهم لم يصارحونا برغبتهم في حَنْيَ الركب لدينا، والتتلمذ على ترَّهاتنا؟

لماذا يريد الإنسان الذي بداخلي اجتياح الإنسان الذي بداخلك؟

لماذا لا تتوقف عمليات المناورة الاجتماعية هذه، لنتصافح من جديد، ولنلغ فكرة أن المجد والتميُّز والنجاح منطقة لا تتسع إلا لجسد واحد، وعقل واحد، وفكرة واحدة!

لماذا لا نفهم أننا لسنا محور الكون؟ وأنه بإمكاننا أن نكون جيِّدين، دون أن نقضي على جودة وطموح وتميُّز الآخرين؟

رحم الله رجالات السلف الصالح الذين عرفوا كثيرًا من أدواء النفوس، وداووها قبل ظهور المدارس النفسية التحليلية والسلوكية، وقبل طباعة "دع القلق وابدأ الحياة" و"العادات العشر" و"القبعات الست".

فهذا إبراهيم النخعي _رحمه الله_ لما رأى أن الاستناد إلى السارية يشعره أنَّه فوق من حوله بمرتبه، رفض أن يستند! قال تلميذه الأعمش: جهدنا بإبراهيم أن نجلسه إلى سارية فأبى! بل كان _رحمه الله_ لا يبتدئ حديثًا حتى يُسأل! إمعانًا منه في وضع شخصيَّته في قالب يجعل حجمها غير قابل للتمدد!

وهذا الحارث بن قيس _رحمه الله_ كان يجلس إليه الرجل والرجلان، فإذا تتابع الرجال بالجلوس حوله نهض وتركهم!

وكأن روحه تردد:

خذوا كلَّ دنياكمُ واتركوا

فؤادي حرًّا طليقًا غريبَا

وهذا علقمه طُلب منه أن يقعد لتعليم الناس السُنَّة، فقال: أتريدون أن يُوطأَ عقبي؟ أي أن يزدحم الناس حولي! والعجيب أن الأمر الذي نتحارب عليه، هو الأمر الذي يهرب منه علقمة! الفلاشات، الجماهير، الشهرة!

وهذا سعيد بن جبير _رحمه الله_ رأى الناس يتجمهرون ويمشون خلفه، فلم يشعره التجمهر بالنشوة، لم يظن أن ذلك من عاجل بشرى المؤمن، بل نهاهم وقال لهم: إن صنيعكم هذا مذلة للتابع، وفتنة للمتبوع!

إنَّه العلم الذي يحمل معه العمل، لا العلم الذي يأتي حاملًا حقيبة الآفات النفسية!

وقبله ابن مسعود _رضي الله عنه_ قالها صريحة لمن يمشي خلفه، بطريقة لا أظنها سهلة على كثير منا: "لا تطؤوا عقبي، فوالله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما تبعني رجل منكم"!

فكانت حياتهم صدى لوصيَّة المصطفى حين قال: "بحسب امرئ من الشر أن يشار إليه بالأصابع في دين أو دنيا إلا من عصمه الله".

 

موسم الحاجة إلى غرور:

إذن فقبل أن تعيد إلى الآخرين حقوقهم في المجالس، فلا تحتقر هذا، ولا تظلم ذاك، ولا تنزل من قدر زيد، ولا تستهن بقدرات عمرو، ضع نفسك في مكانها الطبيعي، اعرف حدودك الجغرافيَّة، إن الذين يسألون الآخرين متى مات الإمام السيوطي، ماتت في دواخلهم قبل ذلك معانٍ مهمَّة أظهرها قوله سبحانه وتعالى {والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.. أنت لا تعلم شيئا، فلماذا تنفخ صدرك بمعلومات مبعثرة، أو حتى مرتَّبة، يسبقها الجهل، ويتبعها الجهل، ويتخللها الجهل؟

الذي يجب عليك بخصوص الإمام السيوطي _رحمه الله_ هو الترحُّم عليه، أو الاستفادة من علمه، أو إهداء كتبه للآخرين، أما أن يكون أيقونة غرور تضيفها لأيقونات شخصيَّتك الضعيفة التي راكمتها على سطح مكتب حياتك.. ثم تضغطها عند الحاجة إلى تنفُّج ما، فلا!

 

خزي:

كان الشيخ علي الطنطاوي شابًّا واسع الاطلاع، عميق الثقافة، ضليعًا في اللغة والأدب والبيان.. وكان ذا قلمٍ يطاوعه إذا كتب، فيأتي بالفرائد والشرائد، فيظن قارئه أنَّه يقرأ لشيخ في الخمسين، لا لشابٍّ في الخامسة والعشرين..

وكان يبعث بما يكتب إلى مجلَّة الرسالة، وهي أشهر مجلة في تلك الحقبة، فتنشر مقالاته مع مقالات عمالقة ذلك الزمن كالرافعي والعقاد..

وكان أن يمَّم الشيخ عليٌّ بغداد في تلك السنوات معلمًا، فلما ذهب إلى الثانوية التي وُجِّه للتعليم فيها، سار في ممرات المدرسة، متوجهًا إلى القاعة التي سيكون مدرسًا لطلابها، وقد كان _رحمه الله_ شابًّا قصير القامة، قريب الملامح من الفتيان، يظنُّه الناظر طالبًا لا معلمًا، فلما وصل إلى القاعة تسللت إلى سمعه كلمات أستاذ مادَّة الأدب وهو شيخ كبير في السنِّ يودِّع طلابه بحزن، ويخبرهم أن الشيخ عليًّا الطنطاوي سيكون خير خلف له، ويهنئهم على أن سيرشفوا من علمه وأدبه، وفي تلك الأثناء قرر علي الطنطاوي أن يدلف إلى القاعة ليشكر ذلك الأستاذ النبيل ..

فما إن طرق الباب وأطلَّ، حتى أتته سبَّة مقذعة من ذلك الأستاذ، وقد ظنَّه لقصر قامته، وشبابيَّة ملامحه طالبًا يريد شيئا..

فابتسم عليٌّ.. وأراد أن يتكلم فأردف ذلك الأستاذ بشتيمة أخرى.. ثم قال له: أتريد أن تعلم أنَّك حمار؟ تعال وكلمنا عن الشاعر "البحتري"!

فدخل علي، وافتتح كلامه بمقدمة عن عصر الشاعر، ثم تحدث عن ولادته، ونشأته، وعرَّج على بداياته، ثم استطرد بشيء عن أبي تمَّام، وتأثر البحتري بشعره، واستفادته منه، ثم أتى بشيء من شعره، وعمل مقارنة بينه وبين أبي تمَّام.. وهكذا أخذ يتدفَّق في حديث الأديب المتفنن، وكان الأستاذ في تلك الأثناء فاغرًا فاه، قد بلغ منه التعجُّب، والخزي أيضًا، مبلغًا عظيمًا، ثم بعد أن أنهى عليٌّ حديثه سأله الأستاذ: من أنت؟ فقال بابتسامة: أنا علي الطنطاوي.. وكان ما كان ..

لو سألنا ذلك الأستاذ عن أمنيته، لقال: أن يرجع الزمن دقائق، فأسكت عن كلماتي اللاذعة، إذ إنها لم تكن ضروريَّة..

كل من حولك لديهم مميزات، وعندهم ما يجعلهم يرون أنفسهم أناسًا ذوي أهميَّة، ليس شرطًا أن يكونوا مثل علي الطنطاوي، ولكنَّهم عند أنفسهم أهم من علي الطنطاوي عندك!

 

ذكرى:

الناس مثلك تمامًا، يحبون أن يظهروا بمظهر جميل، سواء كان ذلك الجمال وسامة في الشكل، أو ثقافة، أو جمال صوت، أو كل ما يعده الآخر ميزة، فلا تكن المواقف التي تجمعك مع الآخرين هي أسوأ ذكرياتهم، فلا يذكرونك إلا بمعيَّة صوتك وأنت تحتقر الأشياء التي يظنونها جميلة، ونظراتك وأنت تشير إلى الآخرين أن انظروا؛ إن بحضرتنا غبيًّا ما!

كن ذكرى جميلة في خيال من حولك، لعلَّ دعوة تأتيك وأنت في قبرك، أو ذِكرًا حسنًا يشيد بمحاسنك في مجلس ما، أو قيمة تنتقل بفضلك إلى جيل قادم.. كن عطرًا يتضوَّع في ذاكرة الأيام..

 

همسة:

ليس هناك ما يجعل احتقارك للآخرين ضروريًا، فلا تطوِّق نفسك بالمواقف المخجلة، ولا تصب على ذكرياتك الجميلة ذَنوبًا من شعور الخزي.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply