الهاربون إلى براءة الصحراء


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

الضغوط التي يعانيها الإنسان من تعقيد المدنيَّة، بأشخاصها وأعمالها، ترهق الروح وتقهر النفس، حتى يعود الإنسان يجهل نفسه، وكأنه قد تحول إلى إنسانٍ آخر غير الإنسان الذي يعرفه، إنسان يجهله، حتى روحه قد أصبحت غريبة عنه.

ما أسهل بكاء إنسان المدنيَّة، وشعوره بالحزن والغربة، ليس عن الحياة فقط، بل حتى عن نفسه. يتضخم ذلك الشعور الحزين في نفسه بمرور دولاب الحياة المدنية فوق ظهره، ليصيبه مرض العصر، الاكتئاب، ذلك المرض الذي يعزل الإنسان عن الفرحة والسعادة، ويصيّره جزيرة مهجورة أو سفينة محطمة، بقايا إنسان مُبعثرة، كل قطعة تجهل الأخرى وتنافرها، ولا يجد من يلملم شعث هذه النفس المبعثرة.

يا لها من ضيقة تخنق إنسان هذا العصر، عصر الصخب والأضواء واللهث خلف الأضواء التي تُعمي الأعين والأصوات التي تُصم الآذان. إنسان هذا العصر إنسان مغتربٌ وسط الزحام، وحيدٌ يسير مع الجموع، متفرقٌ وهو جزء من كتلة غير متجانسة!

تخنقه الحياة التي اختزلها هو في نوافذ ضيّقة، ضيَّق بها على نفسه، وهجر براءته الأولى، وحبه الفطري للحياة، وعلاقاته البريئة بالآخرين، واستبدل بها أظلة لا حقيقة لها. لقد تخيل أن السعادة في الصاخب واللامع، لقد ظن أنها هي الحياة، لكنه وجدها سراب، كلما ركض وراءه ابتعد عنه، حتى انهارت قواه الروحيَّة، وسقط صريع الهموم والأحزان، قد مرض بالاكتئاب، وبكت الحياة حاله، وأشفقت الكائنات عليه، ونظرت النجوم إليه نظرة شفقة وهي تراه يرهق روحه، ويختفي من نفسه الحزينة خلف أقنعة مبتسمة تزيِّف حياته بألوان فاقعة.

أيتها المدنيَّة، لقد ملَّ الإنسان قسوتك، ويأس من الركض خلف سرابك، فقد أثقلتِ كاهله، وأحزنت قلبه، وجرحت روحه، وتركتيه على قارعة الطريق ينـزف وحيدًا!

أخبرني بكل صدق إن كنتِ لا زلتِ تصدقين!

إلى أين يفر؟

وإلى أين يهرب يا تُرى؟

إني أسمع صوتًا صارخًا في البريَّة، يُناديني أن هَلُّمَ إليَّ، إنه صوتٌ دافئ حنون، إنه صوتٌ أعرفه وقد سمعته وأنا صغير، إنه صوتٌ ينبع من أعماقي يُناديني كي أهاجر وأرحل، وأترك كل أصنام المدنيَّة، وزيفها وبريقها اللامع، وأمضي وحيدًا تاركًا خلفي الجموع اللاهثة. أمضي نحو هذا الصوت، صوت الفطرة، صوت الروح، صوت الصحراء.

لقد خلعتُ جسدي وتركته خلفي في المدينة، تحللتُ من علائقي الماديَّة ورحلتُ بروحي نحو الصحراء!

ما أجملها، كغادة فائقة الجمال وناعمة، عروس ذهبيَّة الشعر، زرقاء سماؤها، وعذبة ماؤها. لم أجد غيري معها، صارت تمنحني ذاتها وحدي، لقد كان صوتها خالدًا في نفسي، هواؤها أعاد إليَّ حياة روحي بعد أن ذبلت.

لا حدود تحد من بصري ولا حدود تحد من انطلاقة روحي، لقد تمددت روحي تمدد الصحراء بأفقها غير المحدود، لقد ذابت روحي في زهراتها وحبات رمالها، حتى غدوتُ جزءًا منها، أسمع صوت فراشاتها وطيورها، وأجري مع قطرات مياهها، وأتدفق مع نبض موجودات التي تعج بالحياة.

كل آلام إنسان المدينة وأحزانه وأمراضه تركتها خلفي هناك في المدينة، وأصبحت إنسانًا آخر، لقد ولدتُ ولادة ثانية، ولادة بالروح متجردة من علائق المادة ومن شوائبها، بنفسٍ صافية وروح راضية.

أصبحت أرى الرعاة الفقراء وهم في قمة السعادة، يسرحون بأغنامهم، ويمرحون مع الخراف الصغيرة، ولا يحملون همَّ وأحزان المدينة، وإذا حلَّت الظلمة، لم يركنوا إلى بنيانٍ مغلولة ولا جدرانٍ موصدة، بل احتضنتهم الكثبان الدافئة أو افترشوا الروض الباسم المعطر بالزهور البرية، وتحلقوا حول ضوء شعلتهم البسيطة، يتأملون النجوم الصافية كأجمل ألماسات نثرت على قطعة مخملٍ أسود. يضحكون ببراءة، ويتحدثون أحاديث بسيطة، ولا يقطع حديثهم إلا بعض أصوات صغار الخراف، تقترب منهم وقد ألفتهم.

هدوء خالد، تتجرد فيها الأشياء، حتى تكاد تمسك بأنفاسك، وتتحسس روحك، فتتحدث مع النجوم حديث العاشق مع عشيقته، أو تصمت وتتأمل في الوجود فتفيض نفسك بأحاسيس لن يعرفها إلا من ذاق طعم تلك اللحظات، فتفيض عينك بدمعات ساخنة في خلوتك، تغسل روحك، فتلد من جديد كطفلٍ بريء، تُحس بالنعمة الغامرة، التي لا مثيل لها، وتود أن تعيش بقية حياتك في هذا النعيم الذي لا تريد له أن ينقطع عنك أبدًا. نعيم الإيمان العظيم وقد تجلت أمامك بصفاءٍ ونقاءٍ جميع براهين الخالق العظيم، فترتقي من إيمان أبناء المدينة إلى إيمان الفطرة، إيمان أبناء الصحراء.

عاش المفكر الغربي "ر.ف.س. بودلي" مؤسس مكتبة (بودلين بأكسفورد) ومؤلف كتاب (ريح في الصحراء)  تجربة غنية وثرية بين مجموعة من المسلمين البسطاء، وصفها بقوله: "تلك السنوات السبع التي قضيتها مع هؤلاء الرعاة كانت أكثر السنوات سكينة وسعادة".

وهو الذي كان يصف حاله حين كان يعيش في أوروبا بأنه القلق الكئيب، الذي يحس بصدمة وخيبة الأمل، وعدم السعادة والسكينة!

يروي المفكر الغربي "بودلي" لنا قصته بنفسه، حيث يقول:

"ذهبت للعيش مع العرب، وكنت في غاية السعادة إثر اتخاذ هذا القرار، فقد تعلمت منهم كيفية التغلب على القلق، ووجدتهم يؤمنون بالقضاء والقدر، شأنهم شأن كل المسلمين. وذلك هو السبب في أنهم يعيشون حياتهم في هدوء، دون تسرع أو قلق، حتى عند حدوث شيء ما يستدعي القلق، فهم يعلمون أن ما قدر لا بد وأن يحدث، ولا أحد يستطيع تغيير أي شيء إلا الله، وعلى أية حال، فهذا لا يعني أنهم يتواكلون ولا يفعلون شيئاً عندما يواجهون أية ضائقة. لقد اقتنعت أثناء السنوات السبع التي قضيتها مع العرب أن العصبية والجنون اللذين يتصف بهما الأوروبيون والأمريكيون هما نتيجة لحياة التسرع والعجلة التي نعيشها والتي نطلق عليها حياة التحضر، وطول المدة التي قضيتها في الصحراء لم أشعر بأي قلق، ووجدت هناك في جنة الله الرضا عن طيب نفس، كما وجدت السلامة البدنية التي يبحث عنها كل شخص منا بتوتر ويأس، كثير من الناس يسخرون من هؤلاء الذين يؤمنون بالقضاء القدر، ولكن علينا أن نكون قادرين على تبصر الكيفية التي تحدد بها أقدارنا. لقد كان لهذه الفلسفة من الأثر في تهدئة أعصابي ما يفوق تناول ألف قرص من المهدئات".

دمتم جميعًا بسعادة وفرح، وسلام داخلي ينبع من أعماقكم ترون به كم الحياة جميلة وفسيحة، وجنة يسمع صوتها من مسه الروح بسلام. ودمتم، انتهى.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply