بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عن أبي أمامه -رضي الله عنه-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قلب شاكر، ولسان ذاكر، وزوجة صالحة تعينك على أمر دنياك ودينك، خير ما اكتنز الناس)(1)
كلمات إيمانية تكتب بماء الذهب، وأحاديث محمدية كالواحة الغناء، يشعر ساكنيها أنهم في سكينة وروحانية، لذتها تفوق كل لذة، ويتعجبون من هؤلاء المعرضون عن هذا الخير، أو من الباحثين عن طريق النجاة ذات اليمين وذات الشمال، وهو أمامهم في كتاب ربهم وهدي نبيهم.
القلب الشاكر(2):
القلب الشاكر قلب عامر بالإيمان، خال من أدران الشرك والمعاصي، ولأن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. كان الشكر من أجل المقامات، وقد أمر الله عباده به، ونهى عن ضده، فقال تعالى: {وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[النحل:114] وقال تعالى: {وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}[البقرة:152]
وقسم سبحانه وتعالى الناس إلى شكور وكفور، فأبغض الأشياء إليه الكفر وأهله، وأحب الأشياء إليه الشكر وأهله، فقال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[الإنسان:3]
كما قرن الشكر بالإيمان، وأخبر أنه لا غرض له في عذاب خلقه إن شكروا وآمنوا به، فقال جل ذكره: {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً}[النساء:147]
بل جعله الله تعالى غاية خلقه وأمره، فقال تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل:78] وقال: {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[العنكبوت:17]
وأخبر سبحانه أن رضاه في شكره، فقال تعالى: {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}[الزمر:7]
وأن أهل الشكر هم المخصوصين بمنته عليهم من بين عباده، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}[الأنعام:53]
وأثنى جل شأنه على أهل الشكر، ووصف به خواص خلقه، فقال تعالى في إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ}[النحل:120-121] وقال عن نوح عليه السلام: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً}[الإسراء:3] وفي تخصيص نوح ها هنا بالذكر، وخطاب العباد بأنهم ذريته، إشارة إلى الإقتداء به، فإنه أبوهم الثاني، لأن الله تعالى لم يجعل للخلق بعد الغرق نسلا إلا من ذريته، فأمر الذرية أن يتشبهوا بأبيهم في الشكر، فإنه كان عبدا شكورا.
واشتق تبارك وتعالى لأهل الشكر اسما من أسمائه، فإنه سبحانه هو الشكور، وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره، بل يعيد الشاكر مشكوراً، فالشكر هو غاية الرب من عبده، وأهله هم القليل من عباده، وهم خواصه، فقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ:13]
فمن يشكر الله فقد عبده حق العبادة، ومن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته تعالى، {وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[البقرة:172]
ولعظم مكانة الشكر كان هدف إبليس الأول هدمه في نفوس العالمين، فقال تعالى إخبارا عن إبليس اللعين: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف:16] قيل هو طريق الشكر {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف:17]
وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: (أفلا أكون عبدا شكورا)(3)
وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيده، وقال: (يا معاذ، إني والله لأحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك)(4).
وعنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها)(5) فكان هذا الجزاء العظيم الذي هو أكبر أنواع الجزاء، كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ}[التوبة:72] في مقابلة شكره بالحمد.
والشكر قيد النعم وسبب المزيد، كما قال عمر بن عبد العزيز: "قيدوا نعم الله بشكر الله عز وجل"(6)
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال لرجل من همزان: "إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد"(7)
وكان أبو المغيرة إذا قيل له كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال: "أصبحنا مغرقين في النعم، عاجزين عن الشكر، يتحبب إلينا ربنا وهو غني عنا، ونتمقت إليه ونحن إليه محتاجون"(8)
وعن سفيان في قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}[القلم:44] قال: "يسبغ عليهم النعم، ويمنعهم الشكر" وقال غيره: "كلما أحدثوا ذنبا، أحدث لهم نعمة"(9).
وحقيقة الشكر هي: ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناء واعترافا، وعلى قلبه شهودا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادا وطاعة. ولابد أن يكون فرح العبد بنعمة الله تعالى من حيث إنه يقدر بها على التوصل إلى القرب منه تعالى، والنزول في جواره، والنظر إلى وجهه على الدوام، وأمارته أن لا يفرح من الدنيا إلا بما هو مزرعة للآخرة ويعينه عليها، ويحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله تعالى وتصده عن سبيله، لذلك قال أحد العلماء: "شكر العامة على المطعم والمشرب والملبس وقوت الأبدان، أما شكر الخاصة فعلى التوحيد والإيمان وقوت القلوب".
والشكر مبني على خمسة أركان هي (10):
اعتراف العبد بنعمته تعالى، وخضوع الشاكر للمشكور، وثناؤه عليه بها، وحبه له، وأن لا يستعملها فيما يكره.
«اعتراف العبد بنعمته تعالى» هو ركن الشكر الأعظم الذي يستحيل وجود الشكر بدونه، فكثير من الناس تحسن إليه وهو لا يدري، فلا يصح من هذا الشكر، فلا تأتي من العبد حقيقة الشكر إلا باعترافه وإقراره أن كل النعم منه تبارك وتعالى، فإن خالجه ريب في هذا لم يكن عارفا لا بالنعمة ولا بالمنعم، بل إنه بمجرد إقراره بأن النعم كلها منه جل وعلا يجعله في مصاف الشاكرين، كما قال داود عليه السلام: "يا رب، كيف أشكرك وشكري لك نعمة علىَّ من عندك تستوجب بها شكرا" فقال: "الآن شكرتني يا داود"(11)
ويتبع ذلك الركن «خضوع الشاكر للمشكور» بأن يظهر الفقر والفاقة إلى تلك النعمة، ويكون على يقين بأن وصولها إليه بغير استحقاق منه ولا بذل ثمن، بل يرى نفسه فيها كالطفيلي، كما قال حمدون القصار: "شكر النعمة أن ترى نفسك في الشكر طفيلياً"، وقال الجنيد: "الشكر أن لا ترى نفسك أهلاً للنعمة"(12)
ويتبع ذلك الركن «ثناء العبد على الله بهذه النعمة» وهو نوعان: ثناء عام، وخاص، فالعام وصفه تعالى بالجود والكرم والبر والإحسان وسعة العطاء ونحو ذلك، أما الخاص فهو التحدث بنعمته جل وعلا والإخبار بوصولها إليه من جهته، كما قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[الضحى:11]، والثناء يلزم «المحبة» إذ لا يمكن أن يتحقق بدونها.
أما الركن الخامس فهو الذي به كمال الشكر وتمامه، ألا هو: «استعمال نعم الله تعالى في طاعته، والتوقي من الاستعانة بها على معصيته».. قال رجل لأبي حازم: ما شكر العينين يا أبا حازم؟ فقال: "إن رأيت بهما خيرا أعلنته، وإن رأيت بهما شرا سترته" قال: فما شكر الأذنين؟ قال: "إن سمعت بهما خيرا وعيته، وإن سمعت بهما شرا دفعته" قال: فما شكر اليدين؟ قال: "لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقا لله هو فيهما" قال: فما شكر البطن؟ قال: "أن يكون أسفله طعاما، وأعلاه علما" قال: فما شكر الفرج؟ قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المعارج:29-30] قال: فما شكر الرجلين؟ قال: "إن علمت ميتا تغبطه استعملت بهما عمله، وإن مقته رغبت عن عمله، وأنت شاكر لله" (13)
وأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه، فمثله كمثل رجل له كساء فأخذ بطرفه ولم يلبسه، فما نفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر.
اللسان الذاكر:
أما اللسان الذاكر فقد حاز صاحبه الخير كله، لأن الذكر هو المنزلة الكبرى التي منها يتزود العارفون وفيها يتجرون وإليها دائما يترددون، وهو منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب العارفين التي متى فارقتها صارت الأجساد لها قبوراً وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورا، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب والسبب الواصل والعلامة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب.
به يستدفعون الآفات ويستكشفون الكربات وتهون عليهم به المصيبات، إذا أظلهم البلاء فإليه ملجؤهم وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم، فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون، يدع القلب الحزين ضاحكا مسرورا ويوصل الذاكر إلى المذكور بل يدع الذاكر مذكورا، وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة والذكر عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة بل هم يؤجرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال قياما وقعودا وعلى جنوبهم، فكما أن الجنة قيعان وهو غراسها فكذلك القلوب بور خراب وهو عمارتها وأساسها.
والذكر باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته.. قال الحسن البصري: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة وفي الذكر وقراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق (14).
قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}[العنكبوت:45] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[المنافقون:9] وقال: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}[الأنفال:45].
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟) قالوا بلى يا رسول الله. قال: (ذكر الله)(15)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (سبق المفردون) قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: (الذاكرون الله كثيرا والذاكرات)(16)
وعن عبد الله بن بسر -رضي الله عنه- أن رجلا قال: يا رسول الله، إن شرائع الإيمان قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به. فقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله تعالى)(17).
- فكفاك يا من تطمع في الحسنات أن تتشبث بهذا الحديث الكريم حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: (أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟) فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: (يسبح مائة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة)(18)
- كفاك يا من أثقلت الذنوب كاهله وتسلط عليه الشيطان أن تلزم العمل بهذا الحديث حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك، ومن قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر)(19)
- وكفاك يا من ترغب في الخير أن تكون من أهل هذا الحديث، فعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن أعرابياً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله علمني كلمات أقولهن. قال: (قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم) قال: فهؤلاء لربي فما لي؟ قال: (قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني) فلما ولى الأعرابي قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لقد ملأ يديه من الخير)(20)
- وكفاك يا من تعلقت نفسه بالجنة قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)(21)
فالذكر حقاً كنز الدنيا كما هو كنز الآخرة أيضا .. فعن أبى موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟) فقلت: بلى يا رسول الله. قال (قل: لا حول ولا قوة إلا بالله)(22)
والخير في هذا الجانب كثير وكثير ولولا خشية الإطالة لامتد الحديث صفحات وصفحات.
الزوجة الصالحة:
أما الزوجة الصالحة فهي خير المتاع الذي من حرمه فقد حرم السعادة في الدنيا والآخرة، لأن أثر الصحبة الصالحة في تهذيب النفس أمر لا ينكره إلا معاند، فالطبع لص كما يقولون تؤثر فيه سلوكيات المخالطين سلبا وإيجابا، ولذلك كان اختيار الرفيق قبل الطريق سمة العقلاء، فما بالك برحلة تمتد العمر كله.
والزوجة الصالحة التي تعرف حق الله تعالى أجدر أن تعرف حق الزوج، لأن رضا الله تعالى من رضاه وسخطه تعالى من سخطه، فتجدها تتفقد مواطن راحة زوجها بالعناية، وتبتعد عن كل ما يكرهه، فإذا خرج للعمل هتفت به قائلة: "اتق الله فينا، فإنا نصبر على الجوع، ولا نصبر على تبعات اللقمة الحرام" ثم إذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله وولده، فشتان بينها وبين من هي في سخط دائم على أقدارها وزوجها وأولادها، وفي ذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الدنيا متاع، وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة)(23)
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثة من السعادة، وثلاثة من الشقاء، فمن السعادة: المرأة الصالحة تراها فتعجبك، وتغيب عنها فتأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون وطيئة [أي هنية سريعة المشي سهلة الانقياد]، فتلحقك بأصحابك، والدار تكون واسعة كثيرة المرافق، ومن الشقاء: المرأة تراها فتسوؤك، وتحمل لسانها عليك، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون قطوفاً [بفتح القاف أي بطيئة السير]، فإن ضربتها أتعبتك، وأن تركتها لم تلحقك بأصحابك، والدار تكون ضيقة قليلة المرافق) (24)
وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي النساء خير؟ قال: (التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره)(25)
لذلك كان اختيار المرأة الصالحة من أهم الشروط التي وضعها الإسلام لبناء الأسرة الكريمة .. فعن أبى هريرة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)(26)
ويوضح الغزالي في الإحياء منهج اختيار الزوجة فيقول:
أن تكون صالحة ذات دين، فهذا هو الأصل، وبه ينبغي أن يقع الاعتناء، فإنها إن كانت ضعيفة الدين في صيانة نفسها وفرجها، أزرت بزوجها، وسودت بين الناس وجهه، وشوشت بالغيرة قلبه، وتنغص بذلك عيشه، فإن سلك سبيل الحمية والغيرة لم يزل في بلاء ومحنه، وإن سلك سبيل التساهل كان متهاوناً بدينه وعرضه، ومنسوبا إلى قلة الحمية والأنفة، وإذا كانت مع الفساد جميلة كان بلاؤها أشد، إذ يشق على الزوج مفارقتها فلا يصبر عنها ولا يصبر عليها (27)
وقال الأصمعي: "ما رفع أحد نفسه بعد الإيمان بالله تعالى بمثل منكح صدق، ولا وضع نفسه بعد الكفر بالله تعالى بمثل منكح سوء" (28).
فمن أنار الله بصيرته وأراد أن يسلك سبيل السعادة في الدنيا والآخرة لم يرض بالزوجة الصالحة بدلاً.
روي أن شريحا القاضي قابل الشعبي يوما، فسأله الشعبي عن حاله في بيته، فقال له: من عشرين عاما لم أر ما يغضبني من أهلي، قال له: وكيف ذلك؟ قال شريح: من أول ليلة دخلت على امرأتي رأيت فيها حسنا فاتنا، وجمالاً نادراً، قلت في نفسي: فلأطهر وأصلي ركعتين شكرا لله، فلما سلمت وجدت زوجتي تصلي بصلاتي، وتسلم بسلامي، فلما خلا البيت من الأصحاب والأصدقاء، قمت إليها فمددت يدي نحوها، فقالت: على رسلك يا أبا أمية، كما أنت، ثم قالت: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلي على محمد وآله، إني امرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك، فبين لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأتركه، وقالت: إنه كان في قومك من تتزوجه من نسائكم، ومن قومي من الرجال من هو كفء لي، ولكن إذا قضى الله أمرا كان مفعولا، ولقد ملكت فاصنع ما أمرك به الله، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولك!...
قال شريح: فأحوجتني -والله يا شعبي- إلى الخطبة في ذلك الموضع، فقلت: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلي على النبي وآله وأسلم، وبعد، فإنك قلت كلاما إن ثبت عليه يكن ذلك حظك، وإن تدعيه يكن حجة عليك، أحب كذا وكذا، واكره كذا وكذا، وما رأيت من حسنة فانشريها، وما رأيت من سيئة فاستريها!.
فقالت: كيف محبتك لزيارة أهلي؟ قلت: ما أحب أن يملني أصهاري، فقالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك فآذن له، ومن تكره فأكره؟ قلت: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء، قال شريح: فبت معها بأنعم ليلة، وعشت معها حولا لا أرى إلا ما أحب، فلما كان رأس الحول جئت من مجلس القضاء، فإذا بفلانة في البيت، قلت: من هي؟ قالوا: ختنك -أي أم زوجك-، فالتفتت إلى، وسألتني: كيف رأيت زوجتك؟ قلت: خير زوجة، قالت: يا أبا أمية إن المرأة لا تكون أسوأ حالاً منها في حالين: إذا ولدت غلاماً، أو حظيت عند زوجها، فو الله ما حاز الرجال في بيوتهم شراً من المرأة المدللة، فأدب ما شئت أن تؤدب، وهذب ما شئت أن تهذب، فمكثت معي عشرين عاما لم أعقب عليها في شيء إلى مرة، وكنت لها ظالما (29).
إن هذا الحديث ليحمل في طياته الدواء الناجع الذي نعالج به تلك المادية التي أصابتنا وحالت بيننا وبين السعادة الحقيقية وأضحى كل شيء يقوم بالمال وصار لسان حال الناس يقول (من معه قرشاً يساوي قرشاً) فسادت حياتنا أزمات ونكبات لن تحل إلا بالعودة إلى نور النبوة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
الهوامش والمصادر:
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي أمامة. ج4 ص 104 برقم 4430 (صحيح) انظر حديث رقم: 4409 في صحيح الجامع للسيوطي . تحقيق الألباني، ورواه ابراهيم بن محمد الحسيني في البيان والتعريف ج2 ص 132 ط دار الكتاب العربي وعزاه للبيهقي
(2) انظر عدة الصابرين ــ لابن القيم ص 93 ــ الباب التاسع عشر في أن الصبر نصف الإيمان والباب العشرون في بيان تنازع الناس في الأفضل من الصبر والشكر.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري / ابن حجر / كتاب تفسير القرآن باب 328 برقم 3859 عن المغيرة بن شعبه
(4) رواه النسائي / كتاب السهو برقم 1286، وأبي داود / كتاب الصلاة 1301، وأحمد / مسند الأنصار برقم 21103 بألفاظ متقاربة
(5) رواه مسلم عن أنس بن مالك / كتاب الذكر والدعاء برقم 4915
(6) شعب الإيمان / البيهقي ج4 ص 130 برقم 4546
(7) المصدر السابق ج 4 ص 127 برقم 4532
(8) حلية الأولياء للأصبهاني ج 6 ص 248
(9) حلية الأولياء / الأصبهاني ج 7 ص 7
(10) انظر مدارج السالكين لابن القيم ج2 ص244
(11) تفسير الجامع لأحكام القرآن / ط دار الشعب ج 9 ص343
(12) حلية الأولياء / الأصبهاني ج 7 ص 145
(13) حلية الأولياء / الأصبهاني ج3 ص 243، وشعب الإيمان / للبيهقي ج4 ص134
(14) مدارج السالكين ــ ابن القيم ج2 ص 424 بتصرف
(15) رواه الترمذي في سننه / كتاب الدعوات برقم 3299 (صحيح) انظر حديث رقم: 2629 في صحيح الجامع السيوطي / الألباني
(16) رواه مسلم ـ كتاب الذكر والدعاء برقم 4834
(17) رواه الترمذي ـ كتاب الدعوات برقم 3297 (صحيح) انظر حديث رقم: 7700 في صحيح الجامع.
(18) رواه مسلم عن مصعب بن سعد عن أبيه ــ كتاب الذكر والدعاء برقم 4866
(19) رواه مسلم عن أبي هريرة ــ كتاب الذكر والدعاء برقم 4857
(20) رواه مسلم ــ كتاب الذكر والدعاء برقم 4862 والنسائي وابن ماجة قال الألباني في تحقيق الكلم الطيب: وليس في رواية (فلما ولى..) وإنما توجد في قصة أخرى من حديث عبد الله بن أبي أوفى
(21) رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود ــ كتاب الدعوات برقم 3384 (حسن) انظر حديث رقم: 3460 صحيح الجامع
(22) البخاري ــ كتاب المغازي برقم 3883، ومسلم واللفظ له ــ كتاب الذكر والدعاء برقم 4875 (23) رواه النسائي في سننه عن ابن عمرو. (صحيح) انظر حديث رقم: 2049 في ضعيف الجامع قال الألباني في صحيح ابن ماجه رقم: 1504 (صحيح).
(24) رواه الحاكم عن سعد (حسن) انظر حديث رقم: 3056 في صحيح الجامع.
(25) رواه النسائي ــ كتاب النكاح برقم 3179 (صحيح) انظر حديث رقم: 3298 في صحيح الجامع
(26) البخاري ــ كتاب النكاح برقم 4700
(27) إحياء علوم الدين / الغزالي ج3 ص 345
(28) سير أعلام النبلاء ج5 ص 345
(29) أحكام النساء لابن الجوزي ص 134ـ 135 وأحكام القرآن لابن العربي 1/417
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد