بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
بعدما انتهيت من قراءة كتاب البيان والتبيين مرتين اكتشفت ان الجاحظ بالنسبة لعصره مثل "National Geographic Channel" - قناة ناشونال جيوغرافيك - بالنسبة لعصرنا.
يعتمد الجاحظ في كتبه على دوام الملاحظة والتتبع والبحث وتقييد تلك الملاحظات والربط بينها بأسلوب بديع مع ذكر فلسفته ورأيه فيما لاحظ، يتخلل ذلك كله ذكر بعض القصص الادبية حتى لا يمل القارئ.
كتاب البيان والتبيين ياسادة ألفه الجاحظ بعد كتاب الحيوان ، كما ذكر ذلك في الفصول الاخيرة من الكتاب.
وقد حصر الجاحظ أنواع البيان بخمسة وهي اللفظ والإشارة والعقد والخط والحال.
ويقصد الجاحظ بـ(العقد) الحساب، قال الجاحظ "وأما القول في العقد، وهو الحساب دون اللفظ والخط، والحساب يشتمل على معان كثيرة ومنافع جليلة، ولولا معرفة العباد بمعنى الحساب في الدنيا لما فهموا عن الله عز وجل معنى الحساب في الآخرة".
بدأ الجاحظ كتابة بمقدمة ليست كالمقدمات المألوفة التي يبدأ بها الكتاب مؤلفاتهم، بدأء كتابه بالتعوذ من الفتن والتعوذ من العي والحصر ثم توالت حروفه بذكر الحصر والعي وعيوب البيان، مما جعلني في حيرة من أمري هل هذه مقدمة أم لا!!!
تعجبني الكتب التي من دون مقدمة، وحتى اكون معكم صريحا أكثر أنا اكره المقدمات، وكثير من الأحيان ابدأ في لب الكتاب تاركا المقدمة -طبعا سيقول اكثركم هذا غلط كبير، وسأقول له قرأت كثيرا من المقدمات فما وجدت فيها الا الثناء على النفس او الثناء على الكتاب الا القليل منها، وهذا لايهمني، لأن لب الكتاب هو الذي سيجعلني اثني على الكتاب ام لا من دون دعايات ومدح النفس.
تحدث الجاحظ في بداية الكتاب عن العاهات التي تصيب اللسان والفم فتمنعها من الفصحاة والبيان.
غريب هذا الجاحظ تخصص في ذكر العاهات فقد الف في البخلاء والبرصان والعرجان والعميان وهاهو يبدأ كتابه في البيان بذكر عيوب البيان!!!!
هل كان طبعه متشائم أم أن هناك سبب أخر لا أعرفه!!!!
ذكر الجاحظ العي والحصر، ثم ذكر اللثغة فقال "واللثغة في الراء تكون بالغين والذال والياء، والغين أقلها قبحا، وأوجدها في كبار الناس وبلغائهم وأشرافهم وعلمائهم".
ثم ذكر لثغة المبتدع واصل ابن عطاء وكيف استطاع ان يجاري العلماء مع أنه "كان ألثغ فاحش اللثغ، وإن مخرج ذلك منه شنيع، وأنه إذا كان داعية مقالة، ورئيس نحلة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل، وأنه لا بد له من مقارعة الأبطال". فاخترع له طريقة يستر فيها لثغته بتجنب الكلمات التي كان يفحش في نطقها بكلمات تشابه المعنى وان كانت غريبة وقليلة الاستخدام.
فذكر مثالا لحديث واصل بن عطاء عندما غضب من بشار بن برد الأعمى فقال عند ذلك: (أما لهذا الأعمى الملحد المشنف المكني بأبي معاذ من يقتله. أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية، لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ويقتله في جوف منزله وفي يوم حفله، ثم كان لا يتولى ذلك منه إلا عقيلي أو سدوسي).
تجنب في هذا الكلام حرف الراء ومع ذلك كان كلامه سلسا مفهوما، فجعل الملحد بدلا من الكافر، وقال لبعثت اليه ولم يقل لأرسلت اليه، وقال على مضجعة ولم يقل على فراشة.
ولو فكر في ذلك "أخصائي النطق والتخاطب أو - speech-language therapist - لاستطاعوا ان يخففوا على مرضاهم، عناء الاحراج أمام الناس، فلو قيل لهم إذا أردت أن تقول (اقترب) قل (أزف) وإذا أردت أن تقول (حركه) قل (أزه) وإذا أردت أن تقول (أجر) قل (ثواب) وإذا أردت أن تقول (فاتتني ركعة) قل (فاتتني سجدة) وغير ذلك من الألفاظ البديلة المناسبة للبيئة والمقام.
ثم ذكر الفأفأة والتمتمة واللجلجة والحبسة والحكلة وأثر الأسنان في الألفاظ، ثم ذكر أثر كبر اللسان في اخراج الحروف.
ثم ذكر بيان اللألفاظ واللسان وكان جل الكتاب يتحدث عن بيان اللسان.
والمتأمل في اللسان يجد انه أخطر عضو في الانسان، لذلك قال عليه الصلاة والسلام "المسلم من سلم المسلمين من لسانه ويده" اللسان اذا استخدم في شر يغسل ادمغة يحولها من متدينة الى ملحدة يحول دولة من آمنة الى ارهابية من غنية الى فقيرة بل هو يدمر دولة من دون سلاح .
ولكي تدركوا خطورة اللسان تأملوا هذا الحديث الذي ذكره البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، قال: «اضربوه» قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان).
امرهم بضربه باليد ولكنه نهاهم عن الضرب باللسان، لأن ضرب اللسان يبقى في القلب ولا يبرئ ، قال عليه الصلاة والسلام " ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا. قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم".
ثم تكلم عن "العصى" وفوائدها!!! -الفلاسفة لهم طلعات قد تكون هذه منها-، وقد يقصد با لعصى هي الاشارة.
لكن الأكيد أن كتاب الزهد وصفات اخلاق الزهاد الذي ختم به كتابه مسكة من مسكات الفلاسفة فما دخل صفات أخلاق الزهاد في البيان، إلا إن كان الخطاب الديني هو الجو العام في زمنه وأحبب ان يغازل به المتدينين في ذاك الزمان، فهو معذور.
فهذا غازي القصيبي الف قصيدة عن عمر بن عبدالعزيز من 45 صفحة وسماها "ديوان الأشج" لكنه انصدم من عدم مبالاة الناس والمتدينين خاصة بالديوان وقد ذكر ذلك في احدى مقابلاته انه لم يتوقع ردة الفعل هذه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد