بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
كثيراً ما كان يُزعجني منذ سنوات طويلة تلك المُبالغات في المديح والإطراء والثناء خصوصاً في وجه الممدوح وعلى مرأى ومسْمَعٍ من أقرانه ..
كنتُ أرى خطأ هذا المسلَك في ذاته، مع ما كان يظهر لي من قصور في بعض الممدوحين؛ أو أنهم كانوا يُظهرون من أخلاقهم السيئة أمام من لا يرجون مدحه خلاف ما يُبدونه من تصنُّعٍ أمام المادحين !!
عشرات الشباب الأخيار الفضلاء قطع المدح أعناقهم، وأعاق الثناء مسيرهم ؛ فلا أرضاً قطعوا ولا ظهراً أبقوْا ..
منذ صغري كنتُ أرى رفعاً لأشخاص غير أكفاء ، لم يكن لديهم من المؤهِّلات ما يستلزم المدح والثناء والتقديم لهم وتأخير غيرهم.. كانوا المُقدَّمين في كل شيء ، ثم انتهى ببعضهم الحال إلى الانتكاسة أو الفتور والانطواء !!
وما زلتُ أتذكَّر في مرحلة الجامعة (البكالريوس) كيف كان يُكال لبعض الشباب نوعاً من المدح في وجوههم، والتمييز لهم أثناء التعامل معهم على غيرهم؛ حتى قيل أمام الجميع لبعضهم: فلان سيكون من علماء المسلمين، وآخرُ كانوا يُثنون عليه في وجهه بكثرة العبادة حتى لقَّبوه بلقب أحد العلماء المُعاصرين الأفذاذ.. ثم آلمني والله ما آلت إليه أحوالهم؛ فقد قابلتهم بعد انقطاع عدَّة سنوات وقد تغيَّروا وتبدَّلوا؛ فلم يَعُد يبدو عليهم سمتُ الصلاح والعبادة والعلم أبداً؛ لا في أنفسهم ولا في واقعهم !!
وفي مرحلة الماجستير كان بعض مشايخنا يمدحون أحد الأقران حتى لقَّبوه بابن تيمية عصره، وقد كان خارق الذكاء؛ وكنتُ أعجبُ من هذا الكمِّ الكبير من الثناء عليه رغم جفائه مع أقرانه وتعاليه عليهم؛ تمنَّيْتُ وقتها أن أقول لمشايخي رفقاً بطلابكم لا تقطعوا أعناقهم.. مرَّت سنوات وسنوات ؛ وإذ بهذا الطالب من كبار العقلانيين الذين يُنكرون سُنَّة النبي ﷺ، ويدعو لأفكار علمانية سيئةٍ رغم تخصُّصه الشرعي !!
تردَّدتُ كثيراً في كتابة هذه الأسطر، وقد كنتُ أُفكِّر بجناية الثناء والمدح على بعض الأذكياء والفضلاء ، وكان يمنعني من الكتابة حوله صعوبة طرْقهِ وحساسية الحديث عنه؛ وبعدسنوات أبتْ نفسي إلاَّ الكتابة في هذا الموضوع الذي قلَّ من يطرقه، خوفاً على بعض الفضلاء من السقوط بسبب المدح والثناء ..
وحتى لا يُفهَم ما سبق فَهْماً خاطئاً؛ فإنَّ من حُرِمَ من المدح والتقديم والمكانة أصبح غالبهم اليوم -بفضل من الله- من طلاب العلم ولهم أثرٌ مُبارك، وما زالوا يسألون الله الثبات ..
وأمَّا في جانب المُبالغة في مدح بعض الدعاة والثناء عليهم فقد وصل الحال إلى إنزالهم فوق منازلهم؛ حتى عزف بعضهم عن الارتقاء بنفسه في طلب العلم، واستنكف آخرون عن قبول النصيحة بسبب تضخُّم الأنا الممدوحة في كل مكان!!
ذكر ابن القيِّم -رحمه الله- في كتابه بدائع الفوائد قصةً عجيبة؛ فقال: (سأل تلميذ أستاذه أن يمدحه في رُقعة إلى رجل ويُبالغ في مدحه بما هو فوق رُتبته؛ فقال: لو فعلتُ ذلك لكنتُ عند المكتوب إليه إمَّا مُقصِّراً في الفَهْم حيث أعطيتك فوق حقك، أو مُتَّهمَاً في الإخبار فأكونُ كذَّاباً) ٣ / ١٧٨
وأخيراً؛ فإنَّ ما حصل لهؤلاء الفضلاء وما قد سيحصل لغيرهم هو بسبب ابتعادنا عن هدي النبي ﷺ في جانب المدح والثناء؛ وهو أدبٌ نبوي قلَّ من يهتدي به في زماننا ..
فعن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: أثنى رجل على رجل عند النبي ﷺ؛ فقال: (ويلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك) مراراً ، ثم قال: (من كان منكم مادحاً أخاه لا محالة؛ فليقُل أحسبُ فلاناً والله حسيبه ولا أُزكِّي على الله أحداً أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه) رواه البخاري .
قد نحتاج لمدح الناجحين والثناء على المُتميِّزين ولكن بقدر، نُراعي فيه مقام الحال والزمان، مع الحذر من المُبالغة؛ حتى قال أحدهم في مدح آخر على رؤوس الأشهاد: قَلَّ أن يُوجَد مثل فلان وفلان !!
همسة :
إذا ابتُليتَ بمن يمدحك ويكيل لك الثناء في وجهك وسرى العُجب إلى قلبك؛ فتداركه قبل استحكام المرض فيه بالنظر إلى بعض عيوبك التي سترها الله عن الناس ..
أسألُ الله أن يُصلِح قلوبنا ..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد