بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فمن حكمة الله تعالى ابتلاء المؤمنين بتعاقب الفتن وتتابعها، كما يقول ﷲ ﷻ في كلام هاروت وماروت: "إنما نحن فتنة"، فإنه دال على أن من قضاء ﷲ الكوني ترتيب الفتن في الأرض، اختبارا لإيمان العباد وتمييزا للصف وامتحانا لهم، ولذلك نظائر دلت عليها الأدلة.
وإن من استحكام الغفلة على القلب الأمن من مواقعة الفتنة وعدم محاذرة آثارها، وقد ثبت في الصحيحين أن عمر كان يسأل الصحابة: "أيكم يحفظ حديث النبي ﷺ في الفتنة؟
فأجابه حذيفة: أنا
-ثم قال بعدُ-: "إن بينك وبينها باباً مغلقاً".
فهذا عمر يخشى الفتنة ويحذرها ويتطلب علمها ويستعلم صفاتها، وهو عمر ومن يأمن الفتنة بعد عمر؟!
وقد دل الدليل على أن قبول الفتنة مظلم القلب كما ثبت في مسلم أن النبي ﷺ قال عن أثر الفتن وعاقبة قبول القلب لها: "وأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء".
ومن طبائع الفتن عِظَم إحاطتها بالقلب:
ففي صحيح مسلم عن حذيفة قال النبي ﷺ: "تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عُوْداً عُوْداً".
وأسرع من تنصبّ إليهم الفتن من ابتلي بقسوة القلب، يقول ﷲ: "ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم".
وقد دلت الأدلة على تنوع الفتن وكثرتها، وأن منها أنواعا لا يسلم منه أحد، كما ثبت في الصحيحين لما سأل عمر الصحابة عن الفتن، فقال حذيفة: "فتنة اﻟﺮﺟﻞ ﻓﻲ ﺃﻫﻠﻪ ﻭﻭﻟﺪﻩ ﻭﺟﺎﺭﻩ ﺗﻜﻔﺮﻫﺎ اﻟﺼﻼﺓ، ﻭاﻟﺼﺪﻗﺔ ﻭاﻟﻤﻌﺮﻭﻑ" (البخاري ١٤٣٥، ومسلم ١٤٤).
فهي فتن منوعة ذات تلاوين واختلاف، منها فتنة الولد وفتنة الدنيا وفتنة العلم، وفتنة الاضطهاد وفتن سلطان الجمهور وفتن زلة العالم، وهلم هلم من أنواعها.
وقد جاء ذكر تفاوتها كما في مسلم، قال ﷺ في وصف الفتن: "ﻭﻣﻨﻬﻦ ﻓﺘﻦ ﻛﺮﻳﺎﺡ اﻟﺼﻴﻒ ﻣﻨﻬﺎ ﺻﻐﺎﺭ ﻭﻣﻨﻬﺎ ﻛﺒﺎﺭ" (٢٨٩١).
وجاءت الأدلة بذكر إحاطتها بالقلب، كما في سياق مسلم قال ﷺ: "تُعْرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا"(١٤٧).
وفيه أنها تعرض على القلوب كنسج الحصير، فإن الناسج ينسجها بالعود بعد العود يتابع في نسجا بعد نسج.
وفي قول النبي ﷺ: "فأيما قلبٍ أنكرها نُكتت فيه نكتة بيضاء" دلالة على أن قلب المؤمن إذا قوي على دفع الفتنة الأولى، قوي قلبه على رد مابعدها، ثم لا يزال يرد الفتن حتى يقوى قلبه على رد كل الفتن.
وفي قوله ﷺ: "حتى تكون القلوب على قلبين: أبيض كالصفا لاتضره فتنة مادامت السماوات والأرض".
وصف لقلب المؤمن الذي جمع بين الطهارة و الصلابة في الحق، جزاء رده للفتن.
ينجو من كل مدلهمة، ويسلم من كل فتنة، سواء كانت من فتن الدنيا أو فتن القبر أو فتن الآخرة.
بخلاف القلب الثاني فهو: "أسود مربادًّا كالكوز مجخياًّ لا يعرفُ معروفاً ولا يُنكر منكراً"
أسود: ظلماتٌ بعضها فوق بعض.
مرباد: كما قال القاسم بن سلام: بين السواد والغُبرة.
مُجخياً: أي مقلوباً لا ينفذ فيه الماء ولا يدخله.
كذلك ذلك القلب حين قَبِل الفتنة بعد الفتنة بعد الفتنة، أصبح قلبه لا يقبل الحق! ولا يعرف معروفاً، ولا يرى نوره،
وكذلك لا ينكر منكراً، ولا يرى ظلام المنكر!.
ألم ترهم؟!
في هذه الأيام -وقبل ذلك وبعد ذلك- يردون القطعيات من الشريعة!
تتعجب كيف تنكر قلوبهم واضحات المعاني في كتاب الله وسنّة رسوله ﷺ، لكنهم أذنوا للفتنة أن تلج قلوبهم! ثم لا تزال قلوبهم تضعف وتسوَدّ حتى غدت بذلك النحو.
ومن أنواع الفتن: الفتن العلمية!
وقد كان لمتقدمي هذه الأمة من الفحص عن دقيق علم الفتن! ما يتعجب منه أمثالنا.
ومن ذلك ما جاء عن سحنون وكانت تأتيه المسائل المشهورة فيأبى الجواب فيها، فسئل عن ذلك فقال: سرعة الجواب بالصواب أشد فتنة من فتنة المال".
ترتيب المدارك ١/ ٣٥٧
وقد دلت الأدلة أيضا أن العلماء الصالحين مغاليق للفتن في كل زمان، فقد روى البزار في مسنده أن أبا ذر كان يقول لعمر رضي الله عنهما: "يامغلاق الفتنة"، وإنما ذلك -والعلم عند الله- لما يعلمون من الكمالات التي وهبها ﷲ عمر، في العلم والعمل، وهو إذن لكل من نال نصيبا من العلم والعمل.
ومن الفتن العلمية: الفتنة بكلمة الضلالة، يقوم ناشرا للعلم يبثه ويتقفره ثم يميل بكلمة ضلالة يتبعه عليها خلائق، وقد روى الدارمي عن ﺯﻳﺎﺩ ﺑﻦ ﺣﺪﻳﺮ ﻗﺎﻝ ﻟﻲ ﻋﻤﺮ: "ﻫﻞ ﺗﻌﺮﻑ ﻣﺎ ﻳﻬﺪﻡ اﻹﺳﻼﻡ؟
ﻗﻠﺖ: ﻻ!
ﻗﺎﻝ: ﻳﻬﺪﻣﻪ ﺯﻟﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻭﺟﺪاﻝ اﻟﻤﻨﺎﻓﻖ ﺑﺎﻟﻜﺘﺎﺏ ﻭﺣﻜﻢ اﻷﺋﻤﺔ اﻟﻤﻀﻠﻴﻦ".
الدارمي (٢٢٠).
وسواء عليها أكانت زلة فرَطَت منه وندرت بغير قصد، أو كانت أحموقة ركبها بإصرار وعلم، فهي فتنة للخلق.
وزلة العالم فتنة لطائفتين:
- طائفة تقلده دينها فتشرب زلَلَه.
- وطائفة تجعل من زلَلِه مثابة تشنيع على أهل العلم، وترك بياض الحق لديه لسواد الزلة.
ولهذا كان العلماء يعلمون المبوأ الذي نزلوه، فيتحصنون غاية التحصّن أن يغدو أحدهم بابا لضلالة، ولما امتحن أحمد قال:
"رأيت العلماء ممن كان معي يميلون!
قلت: من أنا؟
وما أقول لربي غداً إذا وقفت بين يديه فقال: بعت دينك كما باعه غيرك!".
المقصد الأرشد ١/٣٢٨
ومن الفتن العلمية العظيمة: فتنة طلب الممادح، وحب الشرف، ولقد كان يشتهر في مدح العلماء الصادقين أنهم قد استوى مادحهم وذامهم في ذات الله، كما جاء في ترجمة ابن تيمية : "وكان مادحه وذامه في الحق عنده سواء".
الرد الوافر ٦٦، الشهادة الزكية ٣٣.
وهذه تراجمهم تواريخهم ملئت بأخبار تجردهم من حب المدح وخلوصهم من تأثير المدح والجرح على أقوالهم.
ولكن من رحمة ﷲ تقدير العواصم التي تعصم المكلف من آثار الفتن وتحفظه من شينها، ومن تلك العواصم: الفقه في الدين:
ولذا أخبر النبي ﷺ أن الجهالة قد تكون سببا للتشديد القدري والشرعي، وفي سنن أبي داود عن أنس عن النبي ﷺ قال: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد ﷲ عليكم".
وإنما نعني به العلم النافع، الذي يعود على القلب بالتقوى، وأما العلوم التي لا نفع فيها في دنيا وآخرة، فقال فيها الشاطبي: "ﻋﺎﻣﺔ المشتغلين ﺑﺎﻟﻌﻠﻮﻡ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻬﺎ ﺛﻤﺮﺓ ﺗﻜﻠﻴﻔﻴﺔ؛ ﺗﺪﺧﻞ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻔﺘﻨﺔ ﻭاﻟﺨﺮﻭﺝ ﻋﻦ اﻟﺼﺮاﻁ اﻟﻤﺴﺘﻘﻴﻢ ﻭﻳﺜﻮﺭ ﺑﻴﻨﻬﻢ اﻟﺨﻼﻑ ".
الموافقات ١ / ٥٣
ومن العواصم التي بيّن ﷺ عصمتها للأمة عن الفتن: الجهاد.
وقد بوّب أبو داود في سننه: "باب ارتفاع الفتنة عند الملاحم".
وأسند فيه حديث عوف بن مالك قال النبي ﷺ: "لايجمع الله على أمتي سيفين، سيفا منها وسيفا من عدوها".
ومن العواصم من الفتن كثرة الإنابة إلى ﷲ بالتوبة، فقد ذكر الله في سورة ص قصص ابتلاء ثلاثة من أنبيائه، داود وسليمان وأيوب، ثم ذكر سبب الخلوص من الفتنة: فوصف كل واحد بوصف الإنابة والتوبة، فقال: "نعم العبد إنه أواب".
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد