بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
منشور في مجلة الأدب الإسلامي الإلكترونية العدد 78
رسالة علمية نال بها الباحث صدام حسين علوان الدليمي درجة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب، جامعة بغداد عام (1429هـ).
أسباب اختيار الموضوع:
يقول الباحث في أسباب اختيار الموضوع: لقد كانت تجربتي الأولى لنيل درجة الماجستير، حافزاً لي فيما أحدثته فيَّ هذه الدراسة. إذ لم أستطع الخروج من تحت مظلة القرآن الكريم، والوقوف على الظواهر اللغوية في آياته، والاطلاع على ما كتبه المفسرون والبلاغيون في هذا المجال، فإن هناك الكثير ممن عملوا الكتب النافعة في معاني القرآن، وتكلموا في فوائده ليبسطوا القول في الإبانة عن وجوه الإعجاز والكمال في كتاب الله العزيز، وقد برعوا في لطيف ما أبدعوا وانتهوا إلى الغاية فيما كتبوا ووضعوا؛ لأن جميع المزيّات لا توجد إلا بالإسلام، ولا يوجد الإسلام إلا بالقرآن، ولا يُفهم القرآن إلا بعلوم القرآن التي بيَّنت وجوه البلاغة والكمال في هذا القرآن.
وقد وقفت مع الكثير من الموضوعات البلاغية التي تشد القارئ إلى الاهتمام بها، والبحث فيها، فكان موضوع (الالتفات في القرآن الكريم) قد استحوذ على تفكيري، وأصبح غايتي المنشودة في نيل درجة الدكتوراه.
فبدأت بقراءة القرآن فوجدت آياته غنية بهذا الموضوع الذي لم يتجاوز عدد صفحاته في كتب البلاغيين عدد أصابع اليد، فكان هذا الأمر حافزًا إضافيًا للدراسة فيه. فوقفت على مادته في القرآن ثم توسعت فيه مستمدًا مادته بعد فتوح الله وتوفيقه مما كتب علماء الإسلام قديمًا وحديثًا في القرآن الكريم وعلومه وعلوم اللغة العربية ومعاجمها فضلاً على الرسائل والبحوث المنشورة هنا وهناك.
فكان هذا البحث قائمًا على تلك القواعد الرصينة والفوائد البليغة. فلقد كان علماؤنا أصحاب حسٍّ مرهف ودقة متناهية في إدراك أسرار ذلك التعبير مستنبطين الفوائد من تغير أسلوب الكلام وتحوله إلى جهة أخرى.
ولمّا رأيت كثرة الكتب البلاغية وكتب التفسير التي أشارت إلى هذه الظاهرة قررت أن أكون واحداً ممن يشارك هؤلاء في دراسة ظاهرة بلاغية في القرآن الكريم عسى أن أحظى بثواب الدارين. واستشرت في ذلك أساتذتي الأفاضل، ومشرفي العزيز، فأشاروا عليَّ بالقبول لذا تقدمت بطلب لتسجيله موضوعاً لرسالة الدكتوراه.
بلغ عدد المواضع التي شملها البحث ما يقارب من (500) موضع تنوعت بين الضمير بأقسامه الثلاثة: المتكلم والمخاطب والغائب. وبين الفعل بأقسامه الثلاثة: الماضي والمضارع والأمر. وبين العدد بأقسامه الثلاثة: المفرد والمثنى والجمع.
مكونات البحث:
اقتضت طبيعة البحث أن يكون في ثلاثة فصول، يسبقها تمهيد وتتلوها خاتمة. بيَّن الباحث في التمهيد معنى الالتفات في اللغة، ومعنى الالتفات في الاصطلاح، ومواضع الاتفاق والاختلاف فيهما بين العلماء. كما وقف على المصطلحات التي أطلقت على هذه الظاهرة البلاغية. وبين ما ورد في القرآن الكريم والحديث الشريف من الالتفات بمعناه اللغوي لا الاصطلاحي.
أما الفصل الأول فكان بعنوان: الالتفات في الضمائر، وضمَّ خمسة مباحث مقسمة بحسب نوع الضمير ونوع الانتقال، وبحسب الآتي:
المبحث الأول: في ضمير التكلم: من التكلم إلى الخطاب، ومن التكلم إلى الغيبة.
ذكر الباحث فيه المواضع التي ورد فيها هذا التحول في الكلام، مستعرضاً آراء المفسرين والبلاغيين فيه. واقفاً على الباعث لهذا التغيير، ومنتهياً إلى بيان الرأي فيه معتمدًا على السياق في ذلك كله.
والمبحث الثاني: في ضمير الخطاب: من الخطاب إلى التكلم، ومن الخطاب إلى الغيبة.
واتبع الأسلوب نفسه في المبحث الأول مع شمول كل المباحث بما وقع في القراءات القرآنية من هذا الأسلوب أو ذاك.
والمبحث الثالث: في ضمير الغيبة: من الغيبة إلى التكلم، من الغيبة إلى الخطاب.
والمبحث الرابع: في الاسم والضمير: من الاسم إلى الضمير، من الضمير إلى الاسم.
والمبحث الخامس: في التذكير والتأنيث: من المذكر إلى المؤنث، من المؤنث إلى المذكر.
أما الفصل الثاني فكان بعنوان: الالتفات في الأفعال بدأه الباحث ببيان الأفعال، ودلالة كل فعل على زمنه المعروف، وكيفية خروجهِ عن الزمن المعين له إلى آخر لعلّة بلاغية مقصودة. وقد ضمَّ هذا الفصل ثلاثة مباحث توزعت كالآتي:
المبحث الأول: في الفعل الماضي؛ من الماضي إلى المضارع، من الماضي إلى الأمر، مع الإشارة فيه إلى ما ورد ضمن القراءات القرآنية فقط.
والمبحث الثاني فكان في الالتفات: في الفعل المضارع؛ من المضارع إلى الماضي، من المضارع إلى الأمر، من المضارع إلى اسم الفاعل، من المضارع إلى اسم المفعول.
وكان المبحث الثالث في الالتفات: في الفعل الأمر؛ من الأمر إلى الماضي، من الأمر إلى المضارع. معتمدًا المنهجية نفسها التي سار عليها في بداية المبحث الأول من الفصل الثاني.
أما الفصل الثالث والأخير فكان بعنوان: الالتفات في الأعداد، وضمَّ ثلاثة مباحث.
المبحث الأول: في الإفراد، من المفرد إلى المثنى، من المفرد إلى الجمع.
والمبحث الثاني: في التثنية؛ من المثنى إلى المفرد، من المثنى إلى الجمع.
والمبحث الثالث والأخير: في الجمع: من الجمع إلى المفرد، من الجمع إلى المثنى.
وتناول الباحث في الفصول الثلاثة ومباحثها ما ورد في القرآن الكريم لهذه الظاهرة البلاغية، معتمدًا على جهده الشخصي في الاستقراء من خلال النظر المباشر في المصحف الكريم.
وأما منهج الباحث في الآيات الكريمة التي اتخذها شاهداً للظاهرة البلاغية التي يدرسها في القرآن أن يعرض أولاً خلاصة ما قيل في الآية الكريمة من نوع الانتقال وباعثه. ثم ينتقل إلى تفصيل الأمر بعرض أقوال المفسرين والبلاغيين جاعلاً خاتمة الأمر- في الغالب- إلى السياق المؤيد أو المخالف لِما ذكره الفريقان.
فإذا انتهى من دراسة المواضع في أي قسم من أقسام الالتفات بحسب القراءة التي اعتمدها أصلاً في البحث وهي قراءة حفص عن عاصم (رضي الله عنهما)، انتقل إلى القراءات الأخرى وما وقع فيها من مواضع لهذا القسم أو المبحث مكتفياً بموضوعين، ومشيراً إلى مثيلاتهما في الهامش. حتى انتهى إلى آخر الرسالة حيث الخاتمة والمصادر.
وقد استفاد الباحث في مصادر البحث ومراجعه من بحثين ورسالة ماجستير.
أما البحث الأول فهو (فن الالتفات في مباحث البلاغيين) للدكتور جليل رشيد فالح، وأما الرسالة فكانت بعنوان (فن الالتفات في البلاغة العربية) للباحث قاسم فتحي سلمان. وكلاهما أفاد منه إفادة حسنة، فالأمور التي بحثها الدكتور جليل رشيد فالح بصورة مجملة وجدها الباحث مفصلة في رسالة الماجستير التي أشرف هو عليها.
وأما البحث الثاني فهو بعنوان (الالتفات في القرآن) للباحث الشاذلي الهيشري. والحقيقة أن دراسته لهذا الالتفات في القرآن كانت حافزاً للباحث لمخالفته في هذا البحث، إذ لم يظهر جمالية النص القرآني في إيراده هذه الظاهرة، بل ذهب إلى دراسة النص دراسة نظرية معقدة غاب فيها ذلك الجمال المنشود من النص القرآني. فقد قسم البحث إلى قسمين: نظري وتطبيقي فبدأ بالقسم الأول الذي عرض الالتفات على شكل علاقات مدرجاً تحتها أسماء أكثر تعقيداً فمما قال: (واستعمال الضمير استعمالاً عادياً هو بينة سطحية رئيسية ناتجة عن بينة عميقة ممكن استعمالها في حالة التأكيد، والتمثيل التالي يوضح البينتين:
إظهار إظهار إظهار.../ المفسر إضمار إضمار إضمار
النص: بنية عميقة ممكنة في حالة التأكيد. النص: بنية سطحية عادية)
أما القسم التطبيقي منه فليس بأحسن حالاً مما سبقه، فهو يبين موضع الالتفات، لكنه لم يورد نصاً واحداً صريحاً لأحد العلماء مكتفياً في شرح الموضوع وبيان نكتته بالرد إلى الهامش والإشارة إلى مصدر قد يكون نحوياً أو تفسيرياً أو معجمياً. لذا انعدم الانتفاع منه كليا.
فقرر الباحث في هذا البحث بيان جمال النص القرآني وهو يورد هذه الظاهرة معتمدا على أقوال العلماء في ذلك وبما انجلى له من الأمور المأخوذة من السياق.
نتائج البحث:
بعد هذه الرحلة في عالم القرآن الكريم، وتفسيراته العظيمة ومدارسة أقوال العلماء العارفين بكتاب الله العزيز، وتحليل الآيات القرآنية التي برزت فيها ظاهرة التحول والانتقال من أسلوب إلى آخر ، وهو ما عرفناه بـ(الالتفات)، تم استخلاص النتائج الآتية:
1- اتفاق أصحاب المعاجم على أن معنى الالتفات اللغوي هو التحول أو الصرف مـن جهة إلى أخرى.
2- لم يكن موقع (الالتفات) في علم البلاغة، من الأمور المتفق عليها بين البلاغيين. فبعضهم يعدُّه من المعاني، والآخر من البيان والآخر من البديع. والراجح أن يكون من المعاني، لأن المعنى هنا أساس ما قام عليه الالتفات.
3- أن الاتفاق الذي وجدناه في المعنى اللغوي للالتفات، قابله اختلاف في المعنى الاصطلاحي لهذه الظاهرة، مما قاد إلى الاختلاف في أقسام الالتفات عند علماء اللغة والتفسير عامة.
4- لم يكن مصطلح الالتفات هو الوحيد الذي أطلق على هذه الظاهرة في اللغة، بل قابله مصطلح آخر هو (تلوين الخطاب أو الكلام).
5- أن كل التفات هو عدول، وليس كل عدول التفاتًا.
6- بلغ عدد مواضع الالتفات في القرآن الكريم ما يقرب من (500) موضع، كان الالتفات في الضمائر أكثرها ورودًا، تلاه في الأفعال ثم الإعداد.
7- أن الانتقال (من التكلم إلى الغيبة) كان أكثر أنواع التفات الضمائر وقوعاً في القرآن الكريم، في حين كان الانتقال (من المضارع إلى اسم الفاعل أو المفعول) أقلها وروداً، إذ وقع كلٌّ منهما في موضع واحد.
8- أن شرط الالتفات الذي هو أن يكون الملتفت إليه هو نفس الملتفت عنه، لا يمكن اعتماده أصلاً لهذه الظاهرة، لأن أقسام الالتفات التي ذكرها البلاغيون تجاوزت هذا الشرط في كثير من مواضعها.
9- أن بواعث الالتفات لم تكن موضع اتفاق عند جميع البلاغيين والمفسرين . فبعضهم يؤيد وبعضهم يُنْقِص. لذا كان للسياق الدور الكبير في إبراز هذه البواعث فضلاً على أقوال المفسرين .
10- أن القسم الواحد من أقسام الالتفات يحوي أكثر من باعث واحد من بواعث الالتفات، فقد يفيد الموضع التعظيم. وقد يفيد الآخر التحقير، وكلاهما يقعان تحت قسم واحد من أقسام الالتفات.
11- أن الانتقال (من المذكر إلى المؤنث) والانتقال (من الخطاب إلى التكلم) والانتقال من (الأمر إلى الماضي) لم يقع في القرآن الكريم على القراءة التي اعتمدتها أساساً في البحث وهي قراءة حفص عن عاصم (رضي الله عنهما).
12- أن هذا البحث استقرى القراءات القرآنية التي وقع فيها الالتفات، فوجد أن القرآن الكريم بجميع قراءاته قد شمل جميع أقسام الالتفات، وهذا يعني أن الأقسام التي لم ترد ضمن القراءة المعتمدة أصلاً، قد وقعت في القراءات الأخرى. وقد أشار الباحث إليها في مواضعها من البحث.
13- أن هذا البحث وقف على كلام المفسرين عند كل موضع وقع فيه الالتفات في القرآن الكريم. فإن وُجد تعليق على الآية أورد وإلا تجاوزها إلى غيرها.
14- أن أبا السعود في تفسيره (إرشاد العقل السليم) كان من المولعين ببيان مواضع الالتفات في القرآن واستنباط الفوائد منها. وكان الآلوسي في كتابه (روح المعاني) كثيراً ما يتابعه، وينقل كلامه بنصه، ويفصَّل أحياناً ما أجمله أبو السعود.
15- أن الزمخشري لم يقصر بواعث الالتفات على باعث واحد، وهو تطرية لنشاط السامع وإيقاظ للإصغاء إليه، بل كان مقصودهُ أن الانتقال عامة من أسلوب إلى آخر يجعل السامع يتنّبه على حدوث شيء ما وهو ما يدفعه إلى إيقاظ سمعه وبصره. ولم يكن قصده الاختصار على هذه الغاية في الالتفات. بدليل أن كتابه (الكشاف) حافلٌ بالغايات والفوائد لهذه الظاهرة، ومن هنا لم يكن لابن الأثير الحق في الرد عليه في هذا الأمر.
16- أن ذهاب السيوطي إلى وجوب وجود التفاتين في سورة الفاتحة أو عدمها وذلك بتقدير (قولوا)؛ لا مسوّغ له. لأن الأصل عدم التقدير، فهو من باب المخالفة الذي لا دليل عليه. إذ عدم التقدير أولى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد