بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
نشرت سنة 1954
يا ابنتي؛ أنا رجل يمشي إلى الخمسن، قد فارق الشباب، وودع أحلامه وأوهامه، ثم إني سحت في البلدان ولقيت الناس، وخبرت الدنيا، فاسمعي مني كلمة صحيحة صريحة من سني وتجاربي، لم تسمعيها من غيري، لقد كتبنا ونادينا ندعو إلى تقويم الأخلاق، ومحو الفساد، وقهر الشهوات، حتى كلَّت منا الأقلام، وكلَّت الألسنة ، وما صنعنا شيئاً، ولا أزلنا منكراً، بل إن المنكرات لتزداد، والفساد ينتشر، والسفور والحسور والتكشف تقوى شِرَّتُهُ، وتتسع دائرته، ويمتد من بلد إلىبلد، حتى لم يبق بلد إسلامي (فيما أحسب) في نجوة منه، حتى الشام التي كانت فيها الملاءة السابغة، وفيها الغلو في حفظ الأعراض، وستر العورات، وقد خرج نساؤها سافرات حاسرات، كاشفات السواعد والنحور!
ما نجحنا وما أظن أننا سننجح. أتدرين لماذا؟
لأننا لم نهتد إلى اليوم إلى باب الإصلاح، ولم نعرف طريقه.
إن باب الإصلاح أمامك أنت يا ابنتي، ومفتاحه بيدك، فإذا أمنت أنت يا ابنتي على دخوله صلحت الحال، صحيح أن الرجل هو الذي يخطو الخطوة الأولى في طريق الإثم، لا تخطوها المرأة أبداً، ولكن لولا رضاك ما أقدم، ولولا لينك ما اشتد، أنت فتحت له، وهو الذي دخل، قلت للص: تفضل.. فلما سرقك اللص، صرخت: أغيثوني، يا ناس سُرقت… ولو عرفت أن الرجال جميعهم ذئاب وأنت النعجة لفررت فرار النعجة من الذئب، ولو ذكرت أنهم جميعاً لصوص لاحترست منهم احتراس الشحيح من اللص.
وإذا كان الذئب لا يريد من النعجة إلا لحمها، فالذي يريده الرجل أعز عليك من اللحم على النعجة، وشر عليك من الموت عليها: عفافك الذي به تشرفين، وبه تفخرين، وبه تعيشين. وحياة البنت التي فجعها الرجل بعفافها، أشد بمئة مرة من الموت على النعجة التي فجعها الذئب بلحمها… أي والله، وما رأي شاب فتاة إلا جردها بخياله من ثيابها، ثم تصورها بلا ثياب.
أي والله، أحلف لك مرة ثانية، ولا تصدقي ما يقوله بعض الرجال، من أنهم لا يرون في البنت إلا خلقها وأدبها، وأنهم يكلمونها كلام الرفيق، ويودونها ود الصديق كذب والله، ولو سمعت أحاديث الشباب في خلواتهم، لسمعت مهولاً مرعباً، وما يبسم لك الشاب بسمة، ولا يلين لك كلمة، ولا يقدم لك خدمة، إلا وهي عنده تمهيد لما يريد، أو هي إيهام لنفسه أنها تمهيد.
وماذا بعد؟ ماذا يا بنت؟ فكري!
تشتركان في لذة ساعة، ثم ينسى هو، وتظلين أنت أبداً تتجرعين غصصها، يمضي (خفيفاً) يفتش عن مغفلة أخرى يسرق منها عِرضها، وينوء بك أنت (ثقل) الحمل في بطنك، والهم في نفسك، والوصمة على جبينك. يغفر له هذا المجتمع الظالم، ويقول: شاب ضل ثم تاب ، وتبقين أنت في حمأة الخزي والعار طول الحياة، لا يغفر لك المجتمع أبداً!
ولو أنك إذ لقيته نصبت له صدرك، وزويت عنه بصرك، وأريته الحزن والإعراض… فإذا لم يصرفه عنك هذا الصد، وإذا بلغت به الوقاحة أن ينال منك بلسان أو يد، نزعت حذاءك من رجلك، ونزلت به على رأسه، لو أنك فعلت هذا، لرأيت من كل من يمر في الطريق عوناً لك عليه، ولما جرؤ بعدها فاجر على ذات سوار، ولجاءك (إن كان صالحاً) تائباً مستغفراً، يسأل الصلة بالحلال: جاءك يطلب الزواج
والبنت مهما بلغت من المنزلة والغنى والشهرة والجاه، لا تجد أملها الأكبر وسعادتها إلا في الزواج، في أن تكون زوجاً صالحة، وأماً مرموقة، وربة بيت، سواء في ذلك الملكات والأميرات، وممثلات هوليود ذوات الشهرة والبريق الذي يخدع كثيرات من النساء، وأنا أعرف أديبتين كبيرتين في مصر والشام، أديبتين حقاً، جُمع لهما المال والمجد الأدبي، ولكنهما فقدتا الزواج، ففقدتا العقل، وصارتا مجنونتين، ولا تحرجيني بسؤالي عن الأسماء لأنها معروفة!
الزواج أقصى أماني المرأة ولو صارت عضوة البرلمان ،وصاحبة السلطان . والفاسقة المستهترة لا يتزوجها أحد. وحتى الذي يغوي البنت الشريفة بوعد الزواج، إن هي غوت وسقطت، تركها وذهب إذا أراد الزواج، فتزوج غيرها من الشريفات، لأنه لا يرضى أن تكون ربة بيته وأم بنته، امرأة ساقطة.
والرجل إذا كان فاسقاً داعراً، إذا لم يجد في سوق اللذات بنتاً ترضى أن تريق كرامتها على قدميه، وأن تكون لعبة بين يديه، إذا لم يجد البنت الفاسقة أو البنت المغفلة، التي تشاركه في الزواج، على دين إبليس، وشريعة القطط في شباط، طلب أن تكون زوجته على سنة الإسلام . فكساد الزواج منكن يا بنات، لو لم يكن منكن الفاسقات ما كسدت سوق الزواج ولا راجت سوق الفجور… فلماذا لا تعملن؟ لماذا لا تعمل شريفات النساء على محاربة هذا البلاء؟
أنتن أولى به، وأقدر عليه منا لأنكن أعرف بلسان المرأة وطرق إفهامها لأنه لا يُذهب الفساد إلا أنتُنّ؟ البنات العفيفات الشريفات، البنات الصيّنات الدينّات في كل بيت من البيوت بنات في سن الزواج لا يجدن زوجاً، لأن الشباب وجدوا من الخليلات ما يغني عن الحليلات، فألفن جماعات منكن من الأديبات، والمتعلمات ومدرسات المدرسة، وطالبات الجامعة، تعيد أخواتكن الضالات إلى الجادة، فخوفنهن الله، فإن كن لا يخفنه فحذرنهن المرض، فإن كن لا يحذرنه، فخاطبنهن بلسان الواقع، قلن لهن: إنكن صبايا جميلات فلذلك يقبل الشباب عليكن، ويحومون حولكن، ولكن هل يدوم عليكن الصبا والجمال؟ ومتى دام في الدنيا شيء حتى يدوم على الصبية صباها، وعلى الجميلة جمالها؟
فكيف بكن إذا صرتن عجائز محنيات الظهور، مجعدات الوجوه؟! من يهتم يومئذ بكن؟ ومن يسأل عنكن؟
أتعرفن من يهتم بالعجوز ويكرمها ويوقرها؟ أولادها وبناتها، حَفَدَتها وحفيداتها. هنالك تكون العجوز ملكة في رعيتها، ومتوجة على عرشها على حين تكون (الأخرى)… أنتن أعرف بما تكون عليه!
فهل تساوي هذه اللذات تلك الآلام؟ وهل تُشترى بهذه البداية تلك النهاية؟
وأمثال هذا الكلام لا تحتجن إلى من يدلكن عليه، ولا تعدمن وسيلة إلى هداية أخواتكن المسكينات الضالات، فإن لم تستطعن ذلك معهن، فاعملن على وقاية السالمات من مرضهن، والناشئات الغافلات من أن يسلكن طريقهن.
وأنا لا أطلب منكن أن تعدن بالمرأة المسلمة اليوم بوثبة واحدة إلى مثل ما كانت عليه المرأة المسلمة حقاً، لا وإني لأعلم أن الطفرة مستحيلة في العادة، ولكن أن ترجعن إلى الخير خطوة خطوة، كما أقبلتن على الشر خطوة خطوة، إنكن قصرتن شعرة شعرة ، ورققتن الحجاب ، وصبرتن الدهر الأطول، تعملن لهذا الانتقال، والرجل الفاضل لا يشعر به، والمجلات الداعرة تحث عليه والفساق يفرحون به حتى وصلنا إلى حال لا يرضى بها الإسلام، ولا ترضى بها النصرانية، ولم يعملها المجوس الذين نقرأ أخبارهم في التاريخ، إلى حال تأباها الحيوانات.
إن الديكين إذا اجتمعا على الدجاجة اقتتلا -غيرة عليها، وذوداً عنها- وعلى الشواطئ رجال مسلمون، لا يغارون على نسائهم المسلمات أن يراهُنَّ الأجنبي، لا أن يرى وجوههن… ولا أكفهن… ولا نحورهن… بل كل شيء فيهن! كل شيء إلا الشيء الذي يقبح مرآه ويجمل ستره، وهو العورتان، وحلمتا الثديين… وفي النوادي والسهرات (التقدمية) الراقية رجال مسلمون يقدمون نساءهم المسلمات للأجنبي، ليراقصهن، ويضمهن حتى يلامس الصدر الصدر، والبطن البطن، والفم الخد، والذراع ملتوٍ على الجسد، ولا ينكر ذلك أحد، وفي الجامعات المسلمة شبان مسلمون، يجالسون بنات مسلمات متكشفات باديات العورات ولا ينكر ذلك الآباء المسلمون ولا الأمهات المسلمات.
وأمثال هذا كثير، لا يدفع في يوم واحد ولا بوثبة عاجلة، بل بأن نعود إلى الحق، من الطريق الذي وصلنا منه إلى الباطل ، وإن وجدناه الآن طويلاً -وإن من لا يسلك الطريق الطويل الذي لا يجد غيره لا يصل أبداً- وأن نبدأ بمحاربة الاختلاط.
والاختلاط غير السفور وأنا لا أمنع من كشف الوجه إن كان لا يتحقق بكشفه الضرر على الفتاة والعدوان على عفافها وأراه عند أمن الفتنة خيراً من هذا الذي نسميه في بلاد الشام حجاباً، وما هو إلا ستر للمعايب، وتجسيم للجمال، وإغراء للناظر.
السفور إن اقتصر على الوجه -كما خلق الله الوجه- نقبل به -وإن كنا نرى الستر أحسن وأولى- وأما الاختلاط فشيء آخر، وليس يلزم من السفور أن تختلط الفتاة بغير محارمها، وأن تستقبل المرأة السافرة صديق زوجها في بيتها، أو أن تحييه إن لقيته في الترام، أو لقيته في الشارع، وأن تصافح البنت رفيقها في الجامعة، أو أن تصل الحديث بينها وبينه، أو أن تمشي معه في الطريق، وتستعد معه للامتحان وتنسى أن الله جعلها أنثى وجعله ذكراً ،وركّب في كلٍّ الميل إلى الآخر فلا تستطيع هي ولا هو ولا أهل الأرض جميعاً أن يغيروا خلق الله، وأن (يساووا) بين الجنسين أو أن يمحوا من نفوسهم هذا الميل. وإن دعاة المساواة والاختلاط باسم المدنية قوم كذابون من جهتين:
- كذابون لأنهم ما أرادوا من هذا كله إلا إمتاع جوارحهم ، وإرضاء ميولهم ، وإعطاء نفوسهم حظها من لذة النظر، وما يأملون به من لذائذ أُخر، ولكنهم لم يجدوا الجرأة على التصريح به، فلَبَسوه بهذا الذي يهرفون به من هذه الألفاظ الطنانة، التي ليس وراءها شيء: التقدمية، والتمدن، والحياة الجامعية، وهذا الكلام الفارغ -على دويه- من المعنى ، فكأنه الطبل .
- وكذابون لأن أوروبا التي يأتمرون بها، ويهتدون بهديها، ولا يعرفون الحق إلا بدمغتها عليه ، فليس الحق عندهم الذي يقابل الباطل ولكن ما جاء من هناك: من باريس ولندن وبرلين ونيويورك، ولو كان الرقص والخلاعة، والاختلاط في الجامعة، والتكشف في الملعب، والعري على الساحل والباطل ما جاء من هنا: من الأزهر، والأموي، وهاتيك المدارس الشرقية، والمساجد الإسلامية ولو كان الشرف والهدى، والعفاف، والطهارة، طهارة القلب وطهارة الجسد.
إن في أوروبا وفي أمريكا -كما قرأنا وحدثنا من ذهب إليها- أُسر كثيرات لا ترضى بهذا الاختلاط ولا تسيغه، وإن في باريس (في باريس يا ناس) آباء وأمهات لا يسمحون لبناتهم الكبيرات أن يسرن مع شاب، أو يصحبنه إلى السينما، بل هم لا يدخلونهن إلا إلى روايات عرفوها وأيقنوا بسلامتها من الفحش والفجور، اللذين لا يخلو منهما -مع الأسف- واحد من هذه التهريجات والصبيانيات السخيفة التي تسميها الشركات الهزيلة الرقيعة الجاهلة بالفن السينمائي مثل جهلها بالدين، تسميها أفلاماً.
يقولون: إن الاختلاط يكسر شِرَّة الشهوة ، ويهذب الخلق، وينزع من النفس هذا الجنون الجنسي، أنا أُحيل الجواب على من جرب الاختلاط في المدارس، روسيا التي لا تعود إلى دين، ولا تسمع رأي شيخ ولا قسيس، ألم ترجع عن هذه التجربة لما رأت فسادها؟
وأمريكا، ألم تقرأوا أن من جملة مشاكل أميركا ازدياد نسبةالحاملات من الطالبات! فمن يسرُّه أن يكون في جامعات مصر والشام وسائر بلاد الإسلام مثل هذه المشكلة؟
وأنا لا أُخاطب الشباب ولا أطمع في أن يسمعوا إلي، أنا أعلم أنهم قد يردون علي ويسفهون رأيي، لأني أحرمهم من لذائذ ما صدقوا أنهم وصلوا إليه حقاً.
ولكن أخاطبكن أنتن يا بناتي المؤمنات الدينات، يا بناتي الشريفات العفيفات..
إنه لا يكون للضحية إلا أنتن، فلا تقدمن نفوسكن ضحايا على مذبح إبليس، لا تسمعن كلام هؤلاء الذين يزينون لكن حياة الاختلاط باسم الحرية والمدنية والتقدمية والحياة الجامعية، فإن أكثر هؤلاء الملاعين لا زوجة له ولا ولد، ولا يهمه منكن إلا اللذة العارضة، أما شأني فإني أبو أربع بنات، فأنا حين أدافع عنكن أدافع عن بناتي، وأنا أريد لكنّ من الخير ما أريد لهن.
إنه لا شيء مما يهرف به هؤلاء يرد على البنت عرضها الذاهب، ولا يرجع لها شرفها المثلوم، ولا يعيد لها كرامتها الضائعة، وإذا سقطت البنت لم تجد واحداً منهم يأخذ بيدها، أو يرفعها من سقطتها، إنما تجدهم جميعاً يتزاحمون على جمالها ما بقي فيها جمال ، فإذا ولى ولوا عنها كما تولي الكلاب عن الجيفة التي لم يبق فيها مُزْعة لحم!
هذه نصيحتي إليك يا بنتي.. وهذا هو الحق.. فلا تسمعي لهم ، واعلمي أن بيدك أنت -لا بأيدينا معشر الرجال- بيدك مفتاح باب الإصلاح، فإذا شئت أصلحت نفسك، وأصلحت بصلاحك الأمة كلها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد