بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أذكر أني قلت لكم أيها القراء الكرام أني لا أحب قراءة المقدمات، ومنذ أن قلت لكم ذلك قرأت مقدمتي كتاب (فن الحرب) لـ(سون اتزوا) ومقدمة كتاب (المعارف) لـ (قتيبة) وليتني لم أقرأ المقدمة -أو لم اقل لكم أني لا أقرأ المقدمات-
قرأت مقدمتين لكتاب (فن الحرب) وكانت اطول من كتاب (فن الحرب )نفسه، وكأن كل مقدمة منهما اختصار للكتاب مع زيادات فلسفية من نفس المقدمين فأحدهم أضاف عاصفة الصحراء والآخر ضرب المثال في حزب الله مع إسرائيل، وعندما انتهيت من المقدمتين وبدأت في الكتاب الأساسي، كرهته وأصبح مملاً وكأني قرأته مرتين وهذه الثالثة.
وأما مقدم كتاب (المعارف) فهو مبدع في اختلاق القصص وحبك الاحداث وإليكم مقدمته وإن اطلت عليكم، قال:
"قد كان ذلك العصر عصر إرهاب وفوضى خرج الأمر فيه من يد الخلفاء إلى يد الموالي الأتراك، وأصبح هؤلاء الموالي هم الحاكمين حقاً، ولم تعد أمور الناس تجرى على طمأنينة وأمن، بل عاشوا حياة يسودها الفزع والخوف، الظفر فيها لمن غلب.
فلقد أصبح هؤلاء الأتراك حرباً على الخلفاء، وهم الذين استجلبوا ليكونوا درعاً لهم، فإذا هم يقتلون منهم من لم يستجب لما يطمعون فيه، وما كان طمعهم هذا لينتهي عند غاية، فلقد أخذوا يقتلون من غير الخلفاء من يحسون فيه الميل إليهم أو الوقوف إلى جانبهم.
وأول ما كان لهم من عدوان منكر كان ذلك العدوان الذي راح ضحيته المتوكل العباسي سنة ٢٤٧ هـ، وكان ابن قتيبة عندها قد جاوز الثلاثين بقليل، ثم إذا هو يعيش بعد هذا ليشهد هذه الفوضى تمتد وتستفحل ويرى بعينيه مقتل المستعين بالله سنة ٢٥٢ هـ، ثم مقتل المعتز بالله سنة ٢٥٥ هـ على أبشع صورة يدبرها قاتل لمقتول، فلقد دخل عليه الأتراك فأوسعوه ضربا وأحرقوا ثيابه ثم جروه برجليه إلى صحن الدار في العراء حيث الشمس المحرقة، وتركوه ملقى على الأرض يرفع رجلاً ويضع أخرى من شدة أذى الحر.
ومن بعد مصرع المعتز كان مصرع المهتدي بالله سنة ٢٥٦ هـ على يد الأتراك، ولقد شهده ابن قتيبة أيضاً كما شهده غيره مما سبق.
وكما كانت حياة الخلفاء كانت حياة الناس، وكما عاش الخلفاء على رهب وفزع عاش الناس على خوف وحذر لا يملكون أن يقولوا ولا أن يفصحوا، وكانت هذه الحياة الرهيبة المسكتة للألسن لها هذا الأثر الثاني الذي أرادته، ولكنه كان أثراً ذا مظهر آخر كما قلت، مظهر يطوى تحته الخشية والتحرز، فلم يعد الشعراء يملكون النفوس الجريئة والعواطف المنطلقة، ولم يعد الكتاب يملكون الأقلام المتحررة، من أجل ذلك خمدت في الشعر جذوته، ومن أجل ذلك التزم الكتاب جانب الخشية والحذر.
فنرى ابن قتيبة، وهو الذي عاش مع تلك الأحداث وأحس ألمها ومضاضتها، حين يترجم للمتوكل، ثم للمستعين بالله ثم للمعتز ثم للمهتدى، يوجز أخبارهم إيجازا غريبا فتكاد الترجمة لا تزيد على السطر أو السطرين، ولا يعنينا فيها هذا الإيجاز وإنما يعنينا فيها ذلك الحديث العابر الفاتر الذي يخلو من أية إشارة إلى ما كان، فهو لا يزيد في وصف مقتل كل منهم على كلمته المألوفة: «وقتل في سنة ... » وهذا الذي خطه ابن قتيبة لنفسه خط مثله ابن حبيب لنفسه ولم يزد هو الآخر شيئا.
هذا هو المظهر الذي نعنيه، والذي كان أثراً من آثار ذلك الإرهاب.
وما ندري هل نلوم ابن قتيبة على وقوفه خائفا حذراً لا يملك الشجاعة في أن يعبر عما تحت حسه، ولا أن يطلق لقلمه العنان يصف ما يحدث بين يديه، أم نلتمس له فيها عذراً؟ وما ننكر أن ابن قتيبة كان حريصا على شيئين:
حريصاً على حياته، ثم حريصاً على ألا يترك الناس من بعده يعيبون عليه خوفه وحذره. ولقد حقق لحرصه الأول ما أوحى به فأوجز هذا الإيجاز المخل، ثم حقق لحرصه الثأني ما يمليه عليه فجعل الإيجاز طابع الكتاب كله حتى لا يؤخذ عليه شيء.
ولقد ظن بهذا الذي فعل أنه نجا من اللوم، ولكنه قد فاته أن المؤرخ الذي يسلك مثل هذا المسلك قلّ أن يفلت من تبعة ما فرط فيه، وإنا أن غفرنا له إيجازه فيما لم يشاهد، بحجة أن غيره سبقه إلى الكتابة فيه وأفاض، وأنه ليس عنده ما يزيد عليه، فبعيد أن نغفر له إيجازه فيما شاهد ووقع بين يديه، وكان هو أحد رواته الذين يعتمد عليهم في ذلك، مهما تكن الأحوال، ومهما تكن العواقب، وما بالعسير على الكاتب أن يحتال شيئاً في سرد ما يحب فيبلغ الأمان الذي يريد، دون أن يفرط في الواجب أو يحيد.
ولكنا لا ندري على أية صورة كان ذلك الإرهاب، ولا على أية صورة كان موقف الناس منه، غير أننا نكاد ننتهي إلى أنه كان ملجماً للألسنة كما قلنا، وأن كتاب المعارف كان صورة حقة لذلك.
طبعاً كل هذا الكلام والآكشن ليس سبب اختصار ابن قتيبة لكتابه والدليل أن مؤلف الكتاب ابن قتيبة يقول :
"وكان غرضي في جميع ما اقتصصت الإيجاز والتخفيف، والقصد للمشهور من الأنباء دون المغمور، ولما يجرى له سبب على ألسنة الناس دون ما لا يجرى له سبب. ولو قصدت الاستقصاء لطال الكتاب حتى يعجز عن نسخه فضلاً عن حفظه، ولاختلط الخفي بالجلي، فمجته الآذان وملته النفوس".
لو كان عندي نسخة ورقية من الكتاب لقطَّعت مقدمة المحقق وقد فعلتها مرة في كتاب لن أذكر اسمه.
وقبل أن نعود إلى كتاب المعرفة لابن قتيبة عندي سؤال بدر إلى ذهني بعد قرآتي لمقدمة المحقق وهو هل ما ذكر المحقق من فعل الأتراك بالحكام العباسيين صحيح؟ ألهذه الدرجة كانوا يكرهون العرب! وهل ما زال هذا الكره والخيانة يجري في دمائهم؟!
كتاب (المعارف) أيها القراء الكرام كتبه ابن قتيبة قبل كتاب (عيون الآخبار)، وقال في مقدمة الكتاب عن ما سيتحدث عنه في الكتاب فقال: وكتابي هذا يشتمل على فنون كثيرة من المعارف:
أولها: مبتدأ الخلق، وقصص الأنبياء [عليهم الصلاة والسلام]، وأزمانهم وحلاهم وأعمارهم وأعقابهم وافتراق ذراريهم، ونزولهم في مشارق الأرض ومغاربها، وأسياف البحار والفلوات والرمال، إلى أن بلغت زمن المسيح [عيسى عليه السلام] والفترة بعده.
ووصلت ذلك بذكر أنساب العرب مختصراً لذلك، ومقتصراً على العمائر ومشهور البطون.
ثم أتبعته أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسبه. وذكر عمومته وعماته وخالاته وجداته لأبيه وأمه، وأظآره وأزواجه وأولاده ومواليه، وأحواله في مبعثه ومغازيه، إلى أن قُبض صلى الله عليه وسلم.
وأخبار العشرة من المهاجرين رحمهم الله، ثم الصحابة المشهورين، ثم الخلفاء من لدن معاوية بن أبى سفيان إلى أحمد بن محمد بن المعتصم المستعين بالله، والمشهورين من صحابة السلطان والخارجين عليهم من الخوارج، ثم التابعين، ومن بعدهم من حملة الحديث وأصحاب الرأي، ومن عرف منهم بالرفض والتشيع والإرجاء والقدر، وأصحاب القراءات من أهل الحجاز ومكة والعراقين والشام، والنسابين وأصحاب الأخبار، ورواة الشعر والغريب والنحو، والمعلمين، والمتهاجرين من الصحابة والتابعين، وأول من أحدث شيئاً بقي على مرور الأيام.
وذكرت المساجد المشهورة، كالكعبة وبيت المقدس ومسجد المدينة ومسجد البصرة ومسجد الكوفة ومسجد دمشق، ومتى ابتنيت، وعلى يدي من أسست.
ودللت على جزيرة العرب وحدود السواد والجزيرة بين دجلة والفرات، وحدود نجد والحجاز وتهامة .
وأخبرت عن الفتوح، ما كان منها عنوة وما كان منها عن صلح، ومن جمع له العراقان.
وعن فرق ما بين المهاجرين الأولين والمهاجرين الآخرين. وعن المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام.
وعن أديان العرب في الجاهلية. وعن صناعات الأشراف في الجاهلية. وعن أهل العاهات الذين كثرت فيهم، كالبرص والعرج والصم، وعن الطوال المفرطي الطول، وعن القصار المفرطي القصر.
كتاب (المعارف) أيها القراء الكرام هو لابن قتيبة المتوفي سنة 276 ويتألف من مجلد واحد يحتوي على 667 صفحة.
استفدت من الكتاب أن العلماء السابقين لو رفضوا علم العلماء الذين اخطأوا واستمروا على خطأهم وحذروا منهم، لم يصل إلينا العلم الآن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد