بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
سخّر الله الناس بعضهم لبعض، فما يقوم أحدٌ منهم بشأنٍ إلا كان للآخَرين منه نصيب، ومن حكمته تعالى أنه لم يجعل كل حاجات الناس مُختَزلةً عند شخصٍ واحدٍ أو مجموعةٍ معيّنة، ولو كان كذلك لَما استقام الأمر، ولَحصَل عنَتٌ شديد، ولله في خلقه شؤون.
والأعمال المُناطة بالإنسان لا بد أن يصاحبها الصدق والأمانة، ولهذا كتب الله الإحسان على كلّ شيء حتى في القَتْلة والذّبحة، فما بالك بما يجده الناس عند بعضهم من لوازم العيش وواجباته وضروراته!
ثم إن كثيراً من الأعمال والوظائف إذا لم يتعامل بها صاحبها والقائم عليها بالصدق والرحمة فإنها تتحوّل إلى شباكٍ لصيْد الآخرين، ونارٍ لإحراقهم، كما يتحوّل أصحابها إلى سباع في مسالخ بشر، وعندها حدّث ولا حرج عن فقدان معاني الإنسانية بكل ما تحوي وتحتوي!
انظر إلى الطبيب الذي يستغلّ المهنة للجوْر على المرضى وأكل أموالهم واستغلال حاجتهم!
انظر إلى المهندس الذي يستغلّ معرفته ومهارته في الغشّ والخداع!
وهكذا كل صانعٍ وصاحب مهارة أو حِرْفة أو مهنة أو معرفة لا يتّقي الله فيها، ولا يراعي حقّ الناس، ولا يشعر أن الله تفضّل عليه بها ليؤدّي شكرها كما يجب، وأن من شكرها القيام فيها بما هو لازمٌ عليه ديْناً وعُرفاً وإنسانية، ولو استشعر كل ذلك وأحسن فيه؛ لعلِم أنه سيكون سبباً لزيادة الله له خيراً وبركةً وحبّاً وتوفيقاً.
ما دفعني للكتابة في هذا الأمر هو نظري إلى مهنةٍ طالما جعلها كثير من أصحابها وسيلةً لابتلاعِ الآخرين، المساكين منهم وغير المساكين، بل سبّبتْ بُغْضاً لكل أهلها، ونظر الناس إليهم في الغالب بمنظارٍ واحد، حتى من يقوم فيها محسناً؛ تؤثّر عليه سُمْعة الغالب من زملائه وللأسف.
تلك هي مهنة (المُحاماة)... ألا تُعدّ هذه المهنة من أشرف المهن! أليستْ مهنة جليلة القدر، عظيمة الرسالة!
ألا يُعدّ أصحابها من أهم الشرائح في المجتمع اليوم، ومن أعظمهم رحمةً وإنسانيةً وصدقاً وأمانةً! هذا هو المُفترض تماماً، ولكن ماذا نرى اليوم؟
نرى المحامي يتوكّل لأي قضيّة بغضّ النظر عن عدالتها وصدقها وصدق أصحابها وحالهم، بل يبحث عن القضايا التي يعلم أنه سيكسب من وراء أصحابها المال الوفير، ولو كان يعلم أنها قضية لا تستحق القيام فيها أو بذل شيءٍ من الجُهد لها أو لأصحابها.
نرى المُحامي يمارس أنواعاً من الغشّ والتزوير والنصْب والاحتيال، ويبذل أي وسيلة في سبيل الفوْز بالقضيّة، وكلّ همّه كسبها لكسب الأموال الموعود بها من ورائها.
نرى المُحامي اليوم لا يتحرّك حركة واحدة إلّا بمال، وفي سبيل ذلك ينسى كل ما تعلّمه في المهنة، وينسى حال أصحاب القضايا، وينسى أنه لا بد أن يسير بقيم النزاهة والإخلاص والشرف والعفّة والأمانة والمسؤولية والصدق، ينسى دوره المهم في تحقيق العدالة ونصرة الحق، والقيام مع المسكين والضعيف وذا الحاجة، بل نراه لا ينظر إلى دموع أحدٍ منهم أو توسّله ما لم يكن بجانب الكلام مال، وهكذا يبني مجده وثروته، ولا بأس أن يُهدم كل شيءٍ عداه.
أصبح كثير من الناس ينظرون إلى ما كان يُسمّى بــــ (مهنة العظماء) نظرة خوفٍ يخالطه ازدراء، بسبب ما عرفوه عن كثيرٍ من أصحابها الذين من المُفترض فيهم توافر كل المعايير والقيم الأخلاقية المستقيمة والصحيحة، ولكن في الحقيقة والواقع؛ فإن الحاصل هو افتقاد الكثير لتلك المعايير والقيم.
المفترض فيهم الشجاعة وسلامة اللغة والقدرة على التمييز بين الحق والباطل، ولكن الواقع هو غضّ البصر عن كل هذه المعاني والالتفات إلى الأموال، وحساب كم سيربحون فيها ومنها.
وظيفة المحامي هي الدفاع عن الحقوق، والمحافظة على كرامة الإنسان ونجدته بغض النظر عن لونه أو جنسيته أو دينه، إلى جانب إعلاء سيادة القانون، ولكن الحاصل هو التلاعب بالقانون بأي طريقة، واستغلال الناس بأي حجّة، والهدف الأول والوحيد هو الربح المالي الوفير.
يُقال: إذا وازنت بين عمل القاضي وعمل المحامي فهما في مجرى واحد، هو العدالة والحق، فهم القضاء الجالس والمحامي القضاء الواقف، ولكن للأسف اليوم نجد العدالة والحقّ عند الكثير لا تعني سوى الأثَرَة، ولا يهتمّ فيها الجالس أو الواقف إلّا يما يُدخله إلى جيْبه وكم وكيف! فهل حقّاً يستحقّ كثير ممّن نراهم اليوم ومَن نتعامل معهم أو نسمع عنهم لقب (المحامي)!
نعم هناك ثلّة من هؤلاء يقومون بالواجب كما ينبغي، ويرفعون من شرفهم وشرف المهنة، ويحافظون على دينهم وأخلاقهم، ولكننا نتكلم هنا عن الغالب، ومَن هم للأسف قد أثّروا سَلْباً على قيم القوم وسيْرهم وسيْرتهم... فيا أسفاه على أقدس المهن الإنسانية! ويا أسفاه على الضحايا والمساكين!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد