بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
واقع القصة القصيرة وعوامل نشاط حركتها وتحدياتها:
يتناول هذا البحث القصة القصيرة في سلطنة عُمان من حيث واقعها،عوامل نشاطها،تحدياتها، جوانب نقدية لها، من خلال أربعة مباحث: واقع القصة القصيرة في سلطنة عمان، عوامل نشاط الحركة القصصية في سلطنة عمان، تحديات القصة القصيرة في سلطنة عمان، جوانب نقدية للقصة القصيرة في سلطنة عمان.
ولقد استخدم البحث المنهج التاريخي بالإضافة للمنهج الوصفي والتحليلي،ولقد توصل البحث لعدة نتائج، أبرزها: أخذت القصة القصيرة شكلها الفني الذي يتفق وروح العصر ومعطياته كالتكثف واللغة الشعرية المتوهجة، وظهر فيها مفهوم الحبكة كما في قصص المعمري التي حققت انسجامًا متميزًا بين الشكل والمضمون، من أبرز العوامل التي ساعدت على نشاط الحركة القصصية في سلطنة عمان: الصحافة، الإذاعة، الترجمة، نشاط المؤسسات الثقافية والأدبية، اهتمام أسرة كتاب القصة بالدراسات النقدية للقصة القصيرة، نقد القصة القصيرة في عمان كان واعيًا بمعطيات علم السرد الحديث، ووظف تقنياته وأدواته توظيفا جيدًا.
***
تتبوأ القصة القصيرة في المشهد الأدبي في سلطنة عُمان مكانة متقدمة، ومن خلال تتبع تطور أشكال القص من حيث ابتكار أساليب وأنماط جديدة للسرد، ويمكن القول: إن القصة القصيرة في سلطنة عُمان غدت خلال الفترة الأخيرة الإبداع الأبرز في كتابة الأجناس الأدبية وأكثرها إنتاجًا وتنوعًا وغنى، وشكلت مَعلمًا متميزًا في الحركة الثقافية العمانية، وفي هذا البحث محاولة لإلقاء الضوء على القصة القصيرة في سلطنة عُمان (واقعها ـ عوامل نشاطها – تحدياتها ـ جوانب نقدية لها) من خلال مقدمة وخاتمة (النتائج والتوصيات) وأربعة مباحث: وهي “واقع القصة القصيرة في سلطنة عمان”، و”عوامل نشاط الحركة القصصية في سلطنة عمان”، و”تحديات القصة القصيرة في سلطنة عمان”، و”جوانب نقدية للقصة القصيرة في سلطنة عمان”، ولقد استخدم البحث المنهج التاريخي لرصد التحولات التي شهدتها القصة القصيرة في سلطنة عمان عبر تاريخها منذ نشأتها حتى الفترة الراهنة بالإضافة للمنهج الوصفي والتحليلي للوقوف على أبرز الجوانب النقدية للقصة القصيرة في سلطنة عمان.
المبحث الأول
واقع القصة القصيرة في سلطنة عمان
مرت القصة القصيرة في سلطنة عمان بعدة مراحل :البدايات فالتكوين، والتجريب فالتحديث،ففي مرحلة البدايات يعتبر عبدالله الطائي أول الرعيل الذي حاول كتابة القصة القصيرة في سلطنة عمان ،واستمد مواد قصصه من الواقع العماني الضيق، ثم انتقل في بعض قصصه إلى الواقع العربي، وما يعتريه من مشكلات مصيرية كالقضية الفلسطينية، وتعد مجموعته القصصية (المغلغل)(1) أول مجموعة قصصية برزت إلى النور، وبعد محاولة الطائي نشر الشاعر محمود الخصيبي مجموعته القصصية (قلب للبيع)(2)
ولقد كشفت كتابات الخصيبي القصصية أنه (يمتلك الفكرة القصصية ،ولكن لم يحولها إلى قصة ذات عناصر فنية واضحة، فهو يمتلك معظم العناصر القصصية نحو الحدث القصصي والحوار والشخصيات، ولكن تنقصه الخبرة الكافية لكتابة قصة قصيرة مكتملة الأحداث والعناصر) (3)
ولقد تلا مرحلة البدايات مرحلة الانطلاقة الفنية، وتمثلها المجموعة القصصية (سور المنايا) لأحمد بلال(4) وتلاها بمجموعتيه (وأخرجت الأرض )(5) و(لا يا غريب)(6)، وجاء بعدهما: سيف الرحبي من خلال أعماله القصصية (من تجليات النزهة الجبلية،هذيان الدمى،الانطفاء الباكر)(7)، وهذه الأعمال القصصية خليط من الرمزية والأسطورية والفنتازية والسوريالية، وفيه إشارة إلى التراث العربي والعالمي، ثم جاء محمد القرمطي من خلال مجموعته القصصية (ساعة الرحيل الملتهبة)(8)، وتفوح من قصص القرمطي الرموز الأسطورية وعناصر الفلكلور، ويتفاعل مع تراثه الشعبي، وقصصه صاخبة بالانفعالات.
وقد قام القاص يحي بن سلام المنذري بالتقدم إلى الأمام في القصة الفنية فجاءت مجموعته القصصية (نافذتان لذلك البحر)(9)، وتُعد مجموعته القصصية (رماد اللوحة)(10) نقلة فنية رائعة في مضمون القصص،وفي التقنيات القصصية المتبعة من قبل الكاتب، ومستويات الكتابة الإبداعية ،وهي تتسم كغيرها من قصص هذه الفترة بالرومانسية والتحليق في الفضاء الواقعي والإنساني،بعد ذلك جاءت مرحلة الحداثة، وأخذت القصة شكلها الفني الذي يتفق وروح العصر ومعطياته كالتكثف واللغة الشعرية المتوهجة،وأدى هذا التطور إلى تغيير مفهوم الحبكة،وظهر ذلك في قصص سليمان المعمري التي حققت انسجامًا متميزا بين الشكل والمضمون.
والقصة القصيرة في سلطنة عمان منذ منتصف عقد الثمانيات ،وأوائل التسعينات، كانت قد تحركت في إطار المغامرة، والتجريب والانفتاح على تجارب مغايرة، وهذا يعني أن القصة القصيرة في سلطنة عمان قد تطورت تطورًا جيدًا (11)
ويتجلى حضور القصة القصيرة في الفترة الأخيرة من خلال زيادة عدد الإصدارات القصصية، وظهور أسماء جديدة مقارنة بما كان عليه الحال في العقدين الماضيين..
فعدد المجموعات القصصية التي صدرت خلال السنوات السبع الأولى من هذا العقد تجاوز عدد ما صدر منها خلال العقدين الماضيين. فما بين “سور المنايا” للمرحوم أحمد بلال، وهي أول مجموعة قصصية عمانية، والتي صدرت عام 1981، و”ما قالته الريح” لمحمد سيف الرحبي، التي صدرت عام 1999، هناك حوالي 40 مجموعة قصصية في حين بلغ عدد المجموعات القصصية التي صدرت في سبع ، ما بين مجموعة “حد الشوف” لـ: سالم آل تويه، التي صدرت عام 2000، وعيون الفتى الميت لـ: ناصر المنجي، هناك حوالي 47 مجموعة قصصية،ثم تتابعت القصص….
ويمكن القول أيضا: إن هذا العدد تجاوز بكثير ما صدر من دواوين شعر خلال الفترة نفسها، وتفوق كتاب النص السردي على نظرائهم الشعراء إقبالًا على الاشتغال بالقصة القصيرة في الآونة الأخيرة، بل إن عددًا من الشعراء المتمكنين في المشهد الشعري العماني، خاضوا تجربة كتابة القصة القصيرة أيضًا.(12)
والساحة القصصية العمانية في غنى متزايد بالمجموعات القصصية لأسماء إبداعية متميزة تمسكت بصنعتها وسعت لإبراز موهبتها وإبداعها بإصدار المجموعات القصصية، سواء ما كان بجهد ذاتي أو ما دُعِمَ بالمؤسسات الحكومية كوزارة التراث والثقافة والنادي الثقافي أو الأهلية كالجمعية العمانية للكتاب والأدباء . وقد أظهرت أسرة كتاب القصة والنادي الثقافي جهدًا كبيرًا في احتواء الأسماء الإبداعية الجديدة، وتبني إصدار المجموعات القصصية لأسماء اكتفت بالنشر في الصحف المحلية والعربية، وهي ذات موهبة فنية راقية. فالساحة السردية العمانية في غنى وكثافة إنتاجية كما وكيفا” (13)
ولا مبالغة إذا قلنا أن الساحة القصصية العمانية القادمة ستشهد أسماء ذات شأنٍ في الساحة السردية العربية ؛ إذ بدأت بوادر هذا التطلع والنجاح تلوح في سماء السرد العماني في بعض الأسماء التي قفزت من المحلية إلى الإقليمية بنيلها جوائز عربية تشي بثراء الساحة الأدبية المحلية، من هذه الأسماء مثلا الكاتب سليمان المعمري الفائز بجائزة يوسف إدريس العربية في دورتها الأولى عام 2007 عن مجموعته القصصية الأشياء “أقرب مما تبدو في المرآة”، والكاتب محمود الرحبي الفائز بجائزة دبي الثقافية في دورتها السادسة عام 2009 عن مجموعته “أرجوحة فوق زمنين”، وقد رشحت رواية “تبكي الأرض..يضحك زحل” للكاتب عبد العزيز الفارسي للقائمة الطويلة للبوكر العربية في دورتها الأولى عام 2008، علمًا بأنها الرواية الأولى للكاتب، إضافة إلى الجوائز التي حصلت عليها جوخة الحارثية وهدى الجهورية في جائزة الشارقة للإبداع، وغيرها من الجوائز الدولية التي استحوذ عليها جيل الشباب البارز بشخصية قصصية متميزة، وبقدرة على البوح، صانعًا بذلك فنًّا قصصيًا راقيًا، ولا نشك أبدًا في أن قاصين عمانيين مثل سليمان المعمري ومحمود الرحبي وعبد العزيز الفارسي وآخرين غيرهم، يرتقون في كثير مما كتبوه إلى أعلى المستويات التي بلغها السرد العربي الحديث رؤية وبلاغة خطاب ومعرفة بآليات القص وأساليبه (14).
وعلى مستوى الكتابة النسوية لقد أفرز المشهد القصصي العُماني أصواتًا قصصية نسائية عدة، كان لها حضورها البارز وما يزال في الساحة الثقافية العمانية لقد برزت أكثر من عشرين قاصة عمانية خلال الفترة الأخيرة جئن إلى عالم الإبداع القصصي من بوابة الانفتاح على الآخر الخارجي وجرَّدن جسد القصة القصيرة من (عباءة الشعر) واستفدن كثيرًا من تقنيات الفنون البصرية والسينما والمسرح والإسكريبت الإعلاني من جرّاء القراءة لمنتوج (القصة العربية المعاصرة)، و(القصة الغربية المترجمة) تتقدمهن (بشرى خلفان) بلا منافس في جرأة بلا ضفاف ولغة تحطم الحواجز بين عالم المرأة والرجل لتحكي قصة الإنسان خارج إطار المكان ومعها (أزهار أحمد)، و(رحمة المغيزوية)، و(حنان المنذرية). وجوخة الحارثية وهدى الجهورية وخولة الظاهرية وسواهن، واستطاعت هذه الأسماء إبراز شخصيتها في سماء السرد العربي، وذلك بتميز كتابتها تقنية وأسلوبًا، وبمشاركاتها العديدة في المحافل الإبداعية التي نالت بها مراتب لا ينالها إلا ذوو المحتوى الراقي المتسم بجودة المحتوى. والمستشرف للمستقبل يراهن على أن الكاتبة العمانية تتبوأ منزلة عالية بين مثيلاتها في العالم العربي.
المبحث الثاني
نشاط الحركة القصصية
من العوامل التي ساعدت على نشاط الحركة القصصية في سلطنة عمان: “نشاط المؤسسات الثقافية والأدبية” ويتمثل نشاط المؤسسات الثقافية والأدبية في أنشطة النادي الثقافي، المنتدى الأدبي، والجمعية العمانية للكتاب والأدباء، والجماعات الأدبية بالكليات والجامعات، وقد أبرزت هذه المؤسسات والجماعات دورها كفاعل نشط في مسيرة الحركة الثقافية وتطورها، بما في ذلك فن القصة القصيرة؛ إذ أنها ما بين الفينة والأخرى ترعى أنشطة ثقافية فعالة كالندوات والدراسات التخصصية أو القراءات القصصية والنقدية وغيرها ، الأمر الذي يربط الإبداع بعضه بعضًا، ويسدد من خطاه، وقد استقدمت النوادي الثقافية والأدبية المفكرين العرب، وكانت حصيلة هذه المواسم مجموعة من المحاضرات والدراسات التخصصية في شتى فروع المعرفة ، وإثراء للحياة الفكرية بصورة عامة، ويكفي أن نقرأ محاضرات الموسم الثقافي في أي دولة من دول الخليج، لندرك تطور الحياة الفكرية فيها والشوط الذي قطعته في هذا السبيل” (15). ومن هذه الإصدارات في سلطنة عمان فعاليات ومناشط” وهي حصاد أنشطة المنتدى الأدبي، و”سعفة تحرك قرص الشمس” إصدار النادي الثقافي ، وغيرها من الإصدارات. أضف إلى ذلك دور هذه المؤسسات في إقامة المسابقات الأدبية والقصصية، التي يتبارى فيها القصاصون بالمشاركة بآخر إبداعاتهم المتميزة، والتي تُضَمَّن فيها القصص الفائزة كتابًا تُنْشَرُ فيه وتوثّق.
أهتمام أسرة الكتاب
“اهتمام أسرة كتاب القصة بالدراسات النقدية للقصة القصيرة” ومن العوامل الأخرى التي ساعدت على نشاط الحركة القصصية في السلطنة، الاهتمام المتزايد من قبل أسرة كتاب القصة بالدراسات النقدية للقصة القصيرة ، إذ نلحظ التنسيق المدروس لإقامة الدراسات والجلسات النقدية، والتركيز على الاحتفاء بالمجموعات القصصية الجديدة من خلال تقديم قراءة نقدية تفصيلية للمجموعة من قبل المتخصصين في المجال النقدي، أو من قبل القصاصين أنفسهم لإبداع قرنائهم، إضافة إلى الاهتمام بإقامة جلسات قراءة للإبداع الجديد للقاصين. وقد نظمت هذه الأماسي والقراءات والمحاضرات بمعدل ثلاثة لقاءات شهريًا.
الصحافة:
تمثل الصحافة عاملًا آخر ساعد على نشاط الحركة القصصية بسلطنة عمان، إذ شجعت الصحافة بما فيها المجلات والصحف اليومية القاصين على نشر إبداعاتهم، من خلال الملاحق الثقافية والأدبية. وتعتبر الصحف وسيلة حية وسريعة لإبراز الجديد من الكتابات الإبداعية، كونها تناسب روح القصة وبنيتها القصيرة مضمونًا وبناء. ومن خلال المتابعة لمدى الاهتمام بنشر القصة القصيرة في الصحيفتين الأوسع انتشارًا في السلطنة ، نجد عناية جيدة بهذا الفن، إذ يحوى كل ملحق ثقافي أسبوعي قصتين قصيرتين إضافة إلى الدراسات القصصية النقدية التي نطالعها بين الفينة والأخرى ، وهذه العناية بالقصة القصيرة تشي بمدى التلقي الذي يحظى به هذا الفن في الأوساط الشعبية، وتبرز اهتمام الكُتَّاب بهذه الصنعة الأدبية من خلال متابعة النشر وإثراء الحركة القصصية. ”إن مساحة الفكر والأدب والثقافة في الصحافة اليومية والأسبوعية والشهرية، إنما هي مساحة جيدة تغطي فعاليات المجتمع الثقافي المحلي، وتستقطب كتابات خارجية قائمة على شؤون الفكر، فهي تتبادل الأخذ والعطاء … وتقدم الصورة الثقافية العمانية للخارج، وتحيط المتلقي والقارئ العماني بمجريات الأمور الفكرية والثقافية في العالم الخارجي، كما تسهم في إثراء حياتنا الثقافية، وتعميق قضايا الأدب والفن والفكر، وزيادة مؤشرات الوعي الثقافي لدى العماني- الذي تعد الآداب والفنون- أحد أهم عناوين ذوقه وتذوقه وشخصيته”
الإذاعة:
لا يخفى الدور الذي تقوم به الإذاعة في نشر فن القصة القصيرة في الأوساط الشعبية، إذ انتظمت إذاعة سلطنة عمان بتقديم قراءة يومية لقصة قصيرة لمبدعين محليين وعرب أو لقصص مترجمة من لغات أخرى. ويأتي دور الإذاعة مكملًا لدور الصحافة في بث الوعي بجمالية القصة القصيرة، وإمتاع ذائقة المتلقي باختيار نخب من الإبداعات، التي تغرس مفهوم القصة، ونبل رسالتها في نفوس المستمعين، إضافة إلى إبراز هذا الفن كفن سردي مستقل عن الفنون الأخرى، له بناؤه، وأسلوبه، وعليه اشتغلت أسماء سطرت حضورها في ساحة الإبداع الأدبي.
جماعة الترجمة:
أضف إلى ذلك الدور الذي تقوم به جماعة الترجمة بجامعة السلطان قابوس والجامعات الأخرى في ترجمة أبرز القصص القصيرة لمبدعين كبار من لغات عدة، بهدف اطلاع المتلقي العماني على إبداعات الآخر، وصقل موهبة الكتّاب باطلاعهم على الكيفية التي يكتب بها الكتاب العالميون ، والأساليب والتقنيات الحكائية التي يستخدمونها،ولم يقتصر دور الترجمة على نقل السرديات من اللغات الأخرى إلى العربية، إنما تعدى ذلك إلى نقل مجموعة كبيرة من الإبداعات العربية والعمانية إلى اللغة الإنجليزية واللغات الأخرى، جنبًا إلى جنب مع الإبداعات الشعرية. (16).
المبحث الثالث:
تحديات القصة القصيرة في سلطنة عمان
تواجه القصة القصيرة، في سلطنة عمان مثلها مثل بقية الأجناس الأدبية، تحدّيات مختلفة، وعلى أكثر من صعيد، بعضها مرتبط بالأدب نفسه، وبعضها الآخر مرتبط بعوامل خارجة عن إرادتها!
فهناك التحدي المتمثل في طبيعة العلاقة بين القصة القصيرة كجنس أدبي يحظى بكينونة مستقلة، وبين الأجناس الأخرى، وبخاصة السردية منها (الرواية، النوفيلا، والقصة القصيرة جدًاً)، وليس بعيدًا عن ذلك “الخطر ” المحدق بالقصة وهي تنزاح –على أيدي هواةٍ ومحترفين- عن “الأطر” المرسومة لها، مقتربةً من تخوم ما أصبح يُدعى “النص المفتوح”.
وهناك التحدي الناتج من معطيات الثورة الرقمية، التي تمثل تهديدًا للأدب عمومًا، عبر التراجع الذي أصاب الكتاب الورقي بوصفه الوسيلة “الفلكلورية” والمصدر الأثير والحميم للتلقي، إذ يتضاءل الإقبال عليه وتتفاقم ظاهرة العزوف عنه عالميًا كما تشير إحصاءات واستطلاعات تُنشَر خلاصاتها بين الحين والآخر، في ظل تحوُّلٍ عاصف تشهده حتى دولنا النامية باتجاه التكنولوجيا التي يتعاظم دَور وسائطها المختلفة كوسائل جديدة أو بديلة للتلقي. والأمر هنا يتعدّى جهاز الحاسوب بشكله التقليدي، إلى الهاتف المحمول وشبكة الإنترنت “العنكبوتية” بلا منازع..
إن العزوف عن الكتاب الورقي، هو عزوفٌ عن القراءة، بتأثيرٍ من إيقاع الحياة المعاصرة التي تراجعت القراءة فيها، وبلغت درجةً متدنّية على سلّم الأولويات، رغم ما يبدو ظاهريًا من تنوعٍ في مصادر التلقي، فـ”المعرفة” المتحصّلة هنا في الغالب الأعمّ، سطحية أو خالية من الإضافة النوعية.
هذه التحديات وسواها، تضع مستقبل القصة القصيرة على المحكّ، وإن رأى بعض المتفائلين أن المشهد لا يبدو سوداوياً إلى الحدّ الذي يجعلنا نعدّ العدّة لتأبين هذا الجنس الأدبي، أو نخشى عليه الاندثارَ مثلاً. فعلى العكس من ذلك، تكشف المعطيات أن القصة القصيرة تنافس ببسالة حقيقية لتحظى بلقب “ديوان العرب” بعد أن استأثر الشعرُ به طويلاً (على المستوى العربي)، لتزاحم شقيقتَها الرواية التي نعيش “زمَنها”، بما شهدته من فتوحات وانعطافات كبرى في مسيرتها.
هذا التفاؤل يستند في أحد وجوهه، إلى عوامل ذاتية تخص القصة نفسها، وأخرى موضوعية. منها مثلًا أن للقصة جذورًا في تراثنا لا مجال لإنكارها، على خلاف ما جاء به دارسون ونقاد ـ أحمد هيكل مثلاً- من أن القصة العربية بصورتها التي عُرفت بها في الأدب الحديث قد أُخذت عن أدب الغرب، وأنها لم تنوجد في تراثنا الأدبي ولم تتطور عن مدوّنة السرد التي وضعها أجدادنا وشملت الحكايةَ وأساطير الأولين وسواها.
كما أن القصة غدت مطواعة، تتسم بالمرونة، بخاصة وهي تفيد من الشعر، إذ تكثر في المدونة السردية العربية المعاصرة قصص ذات مسحة شعرية. وهو ما يتكرر مع النص المسرحي، والسينما، وفنون التشكيل، فبتنا نقرأ القصة الممسرحة، أو القائمة على تقنية المونتاج السينمائي، أو ما تُدعى “القصة-اللوحة”.
وإذا كانت القصة القصيرة تقوم في تعريفها الكلاسيكي الأكثر شيوعًا، على العناصر الخمسة الرئيسة (الزمان، المكان، الحدث، الشخصية واللغة)، فإن فارِسَها المعاصر لم يعد يأبه بهذا التعريف ويلتزم بحَرْفيته كما يتبدى من القصص والمجموعات القصصية التي تدفع بها المطابع ودور النشر كل يوم.
وديدنُ هؤلاء “الفرسان” أن المنحى التجريبي والانفلات من الأطر التقليدية التي حُشرت القصة بها، لا يبعث على القلق بخصوص مستقبلها كجنس أدبي ما دام أن ثمّةَ التزامًا بروحها وجوهرها.
أما مستقبل القصة في ظل الحديث عن أننا في “زمن الرواية”، فيمكن أن ننظر إليه مستأنسين بـ”سلّم درجات شرف الأنواع الأدبية”، الذي وضعه “فريس” و”موراليس”، إذ يوضحان أن المأساة كانت تعلو تقليديًا وتاريخياً على الملهاة، وأن الشعر كان يعلو على الرواية، لكن هذا الترتيب بدأ يهتز في عصر الأنوار والنهضة الغربية، ثم جاء “انتصار” الرواية في القرن التاسع عشر؛ ليقضي على النظام القديم لتراتبية الأجناس الأدبية. وهو ما يطرح الأسئلة عن استمرارية التغيير في مواقع هذه الأجناس على السلّم المشار إليه. وانطلاقًا من ذلك، هناك من ينظر إلى “الصراع” بين القصة والرواية على أنه “زمني”.
ومن المؤشرات الدالّة على أن رصيد القصة في ازدياد، ما يؤهلها لتكون في صدارة الأجناس الأدبية في المستقبل، أن الرواية بدأت تشهد إدبارًا عنها، وفقدانًا لحضورها الآسر، وسط “غثّ” لا يترك لـ”السمين” موطئَ قدم، هذا إلى جانب ما يتسبب به الإيقاع السريع للحياة من عزوف عن القراءة، وبخاصة إذا تعلّق الأمر بالرواية بوصفها نصًا “طويلاً” يتطلب وقتًا طويلاً” لتلقّيه بما يليق به.
ومن المؤشرات أيضاً، تلك الحالة التي انحدر إليها الشعر، بلجوء كثيرٍ منه إلى التهويمات وتموضعه في مدارات الذات المنغلقة، واكتفائه بالوقوف في مربع المغامرة اللغوية الجمالية التي لا تفصح -في الغالب- عن رؤية وموقف واضحَين..
إن القصة القصيرة تمتلك –مقارنة بالشعر والرواية- مرونةً تمنحها القدرة على التكيف مع “متطلبات المستقبل”، من دون القلق أو الخشية عليها من الاندثار أو الانمحاء أو الذوبان، ذلك أنها كشفت عن جدارتها وهي تواجه سيلاً من التفاعلات والمخاضات التي تؤكد حيويتها وقدرتها على الاستمرار، ولنا في النتاج القصصي الذي يكتسح الساحة الأدبية العربية، وما ينطوي عليه من تنوع وثراء وتجريب ومحاورة مع الأجناس الأدبية والفنية، ما يعزز النظرة التفاؤلية بالقصة ومستقبلها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
المصادر والمراجع :
(1) آمنة الربيع ،البنية السردية للقصة القصيرة في سلطنة عمان (1980-2000)،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005م.
(2) أحمد بلال بحار:سور المنايا،المطابع العالمية، مسقط،1981م.
(3) أحمد بلال بحار: وأخرجت الأرض، مطابع العقيدة، روي،1983م.
(4) أحمد بلال بحار:لا يا غريب، المطابع العالمية، روي،1987م.
(5) سليمان المعمري، ومازن حبيب: سعفة تحرك قرص الشمس”، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط1، 2009م.
(6) سيف الرحبي :ديوان الجبل الأخضر ، دمشق ،1983م.
(7) شبر الموسوي، القصة القصيرة في عُمان من عام 1970 وحتى 2000م، وزارة التراث والثقافة، مسقط، 2006م.
(8) ضياء خضير: القلعة الثانية، دراسة نقدية في القصة العمانية المعاصرة، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط1، 2009م.
(9) عبد الله الطائي،المغلغل، مطابع العقيدة، مسقط، عمان،1994م.
(10) علي سالم المانعي،القصة العمانية القصيرة – التاريخ والواقع،ملحق نون- العدد الخامس عشر- الاثنين 6/9/2010م.
(11) ماهر حسن فهمي : تطور الشعر الحديث بمنطقة الخليج العربي،مؤسسة الرسالة، الدوحة، 1981م.
(12) محمد عيد العريمي: توظيف المتخيل الشعبي في القصة العمانية القصيرة، ندوة القصة القصيرة العمانية.. أفق التحولات((2001 ـ 2006 « «،النادي الثقافي»10ـ11 نوفمبر 2007م«.
(13) محمد مروشية، القصة القصيرة العمانية المعاصرة (الريادة والتأصيل)،مجلة دراسات في اللغة العربية وآدابها، العدد5، 2001م، ص( 115-138).
(14) محمد القرمطي، ساعة الرحيل الملتهبة، مسقط،مطبعة الألوان الحديثة، 1988م.
(15) محمود الخصيبي،( قلب للبيع)، مطابع العقيدة ،روي ،1983م.
(16) ناصر أبو عون: القصة القصيرة في عمان.. شعرية القص وجماليات السرد والمكان، عمان، مسقط، دار كنوز المعرفة،2015م.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد