التقديم والتأخير في صحيح البخاري (دراسة بلاغية)


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

التقديم والتأخير في صحيح البخاري (دراسة بلاغية) رسالة تقدمت بها رملة رشيد إسماعيل الناصري إلى مجلس كلية التربية للبنات في جامعة تكريت، وهي جزء من متطلبات درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها (1423هـ- 2003م) بإشراف الدكتورة (منال طه عبد الرزاق)، وفيما يلي عرض لهذه الرسالة:

  مقدمة:

التقديم والتأخير أسلوب بلاغي تتبارى فيه الأساليب، وتظهر المواهب في القدرات، وهو دلالة على التمكن والفصاحة، وحسن التصرف في الكلام، فإنك إن قدمت الألفاظ أو أخرتها تحتل مكانها تبعًا لترتيبها في المعنى.

 

أسباب اختيار الموضوع:

وكان اختيار الباحثة رملة رشيد إسماعيل الناصري لهذا الموضوع لعدة أسباب:

 منها الميل للبلاغة عمومًا، وإلى موضوع التقديم والتأخير خصوصًا، ونظرًا لأن هذا الموضوع قد لاقى الحيف والإهمال من قبل علماء العربية، فكان ذكرهم له مختصرًا مقتصرًا على تقدم المفعول به محددًا بغرض الاهتمام فحسب. وبقي الحال على ما هو عليه إلى أن جاء عبد القاهر الجرجاني: الذي أرسى قواعد هذا الأسلوب في كتابه دلائل الإعجاز، فكانت دراسته للموضوع دراسة عميقة مفصلة، لكن يبقى فيه كثير من الغموض الذي يحتاج إلى فطنة ودقة في النظر.

والتقديم والتأخير موضوع صعب يحتاج في دراسته إلى تلك الدقة، للتعرف على المعاني والأغراض التي كان من أجلها التقديم والتأخير؛ لذا فقد كانت دراسة الباحثة منصبة على هذا الموضوع البلاغي دون غيره، وقد كانت رغب الباحثة في دراستها في القرآن الكريم، ولكن لوجود من سبقها إلى دراستهِ فقد ارتأت أن تدرسهُ في أقوال أفصح العرب سيدنا (محمد) صلى الله عليه وسلم، لعلّهُ يجلو عني ما تحسهُ من اضطراب وتردد، فجعلت صحيح البخاري ميداناً لدراستها، فهو الكتاب الأول في السنة النبوية الذي يُعتمد عليهِ بعد القرآن الكريم، لصحتهِ ودقته وخلوه من الأخطاء

أما الكتب والمصادر التي اعتمدتها الباحثة فقد كانت، كتب البلاغيين الذين ذكروا موضوع التقديم والتأخير، وأولها وعلى رأسها، دلائل الإعجاز والمثل السائر، والإيضاح في علوم البلاغة، كما أنها قد اعتمدت على شروح لصحيح البخاري وهي: فتح الباري للعسقلاني، وشرح الكرماني، وإرشاد الساري للقسطلاني حتى تقرب لها الغرض والقصد من التقديم، وقد أفادت من كتب التفسير فقد ربطت بين الأغراض في الحديث ومثيلاتها في القرآن فكان لابد من التعرض لكتب التفاسير معتمدة على ما ذكروهُ من مسائل بلاغية في تفاسيرهم، ومن هذه التفاسير:- الكشاف للزمخشري لتضلعه من المسائل البلاغية، وغناهُ بها، والنهر الماد من البحر المحيط لأبي حيان التوحيدي، وتفسير النسفي، وتفسير روح المعاني للآلوسي، كما استعانت بكتب الإعجاز القرآني.

وفضلاً عمَّا وجدته في كتب الأقدمين فلم تكن بمستغنيةٍ عن كتب المُحدثين فكان لها جولة بين من أبدى اهتمامًا بهذا الموضوع، وقد قسمت الباحثة بحثها إلى تمهيد وثلاثة فصول.

احتوى التمهيد: 

على توضيح لمعاني التقديم لغة واصطلاحًا، وتحدثت عن أقدم من تكلّم عليه من البلغاء وتحدثت عن عملية الإسناد في الجملة العربية، ومفهوم المسند إليه والمسند ومتعلقات الفعل ومواضعها في الجملة.

ودرست الباحثة في الفصل الأول: تقديم المسند إليه في الحديث الشريف، وأغراضهُ وقد درست تقديمهُ في الجملة الاسمية، والجملة الفعلية، وتقديم النكرة وتقديم المسند إليه قبل وبعد أداة النفي، وتقديم مثل وغير وكل.

أما الفصل الثاني: فقد درست فيه الباحثة تقديم المسند وأغراضهُ في الحديث الشريف كتقديم الخبر والفعل، وأخبار إن وكان وأخواتهما، مع التمثيل من الحديث النبوي الشريف.

وقد بحثت في الفصل الثالث: تقديم متعلقات الفعل عليهِ، أو على بعضها بعضاً في الحديث الشريف وأغراضها، من ذلك تقدم المفعول بهِ على الفعل والفاعل، ولم تقتصر دراستها على ذلك، بل كانت دراستها خارج نطاق الإسناد والجملة الإسنادية، كتقديم شبه الجملة والظرف على المتعلقات، وتقديم الاسم على الاسم، وتقديم الجملة على الجملة، فتكشف لها معاني جديدة جميلة تؤكد أن التقديم أنما يحصل لعلّة في المتقدم.

 

الخاتمة:

 بينت فيها الباحثة أن الحديث النبوي الشريف: (هو كل أقواله صلى الله عليه وسلم وعلى أقوال الصحابة التي تحكي فعلاً من أفعاله صلى الله عليه وسلم أو قولًا من أقواله أو حالًا من أحواله، أو تحكي ما سوى ذلك من أمور عامة تتعلق بالناس أو أمور خاصة من أمور الدين ونحوها من أمور هذه الدنيا)([1])، لذلك لم تقتصر دراستها على أقواله صلى الله عليه وسلم بل اعتمدت على كتاب الحديث ككل من أقوال وأفعال للرسول صلى الله عليه وسلم كي تكون الفائدة أعم وأشمل إن شاء الله (فأسلوبهُ متفرد في هذه اللغة وقد بان من غيره بأسباب طبيعية فيه)([2]).

(فالوقوف على كلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم واستخراج البلاغية منهُ يعد من أشرف المقاصد ومن اجل الأعمال بعد الوقوف على كتاب الله تعالى لأنهما المنهل الأعذب والأعظم الذي نستقي منهُ علوم العربية وبخاصة علم البلاغة ثم يأتي بعدهما في الترتيب أدب العرب منظومه ومنثورهِ)([3]).

وقد خلصت الباحثة بعد هذه المرحلة الطيبة مع أقوال سيد المرسلين، ورصدهِ ما فيه من تقديم وأغراض هذا التقديم إلى جملة نتائج، أهمها:

1.    أن معنى التقديم في اللغة، السابقة في الأمر، وفي الاصطلاح، تحويل اللفظ من مكانه الأصلي إلى مكان أسبق منه لغرض بلاغي يريدهُ المتكلم.

2.     أول من أشار إلى التقديم والتأخير هو الخليل بن أحمد الفراهيدي ضمن دراسته للتراكيب، كما أن العلماء الذين جاؤوا بعد الفراهيدي، درسوا هذا الموضوع، فمنهم من درسه مفصلاً ومنهم من أشار إليه في معرض كلامه ومنهم من درس جانباً دون باقي الجوانب.

3.     أنَّ مصطلح المسند والمسند إليه مستعملان منذ عهد سيبويه.

4.     أن أول من بحث التقديم مفصلاً موضوعاته، عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز، كما انه يُعد أول من قال في تقديم المسند إليه والمسند لأن الذين سبقوهُ كانوا يركزون على تقديم المفعول به على فعله.

5.     ومن دراسة للمسند والمسند إليه اتضح أن أسلوب التقديم والتأخير لا يقتصر على المسند إليه والمسند، بل هو موجود في المتعلقات والفضلات.

6.    وجدت الباحثة أن أنواع المسند إليه في الحديث الشريف هي: المبتدأ والفاعل ونائب الفعل، واسم كان وأخواتها، واسم إنَّ وأخواتها، المفعول الأول لظن وأخواتها، والمفعول الثاني لرأى وأخواتها.

7.     وكانت أغراض المسند إليه في الحديث الشريف هي: التشويق أو لأنه الأصل، أو لتعجيل المسرة أو المساءة، أو تخصيص والتعظيم والمدح والثناء، والتحذير والتقريع، والتفاضل والدعاء والتفاخر، وقد يمتزج غرضان معًا كامتزاج غرضي التوبيخ والتعجب، وأن غرض التخصيص أكثر الأغراض ورودًا في تقديم المسند إليه على خبره الفعلي، وكذلك غرض التعظيم، ومن الأغراض الأخرى إظهار الخوف والقلق والوعد والضمان وفي المحاورة والاستعطاف والاعتذار والعناية والاهتمام والتحقير وتقليل الشأن.

8.    وجدت الباحثة أن أنواع المسند في صحيح البخاري هي: الفعل واسم الفعل وخبر المبتدأ، والمبتدأ الذي ليس لهُ خبر، وخبر كان وأخواتها، وخبر إنَّ وأخواتها والمصدر النائب عن فعل الأمر.

9.     وكانت أغراض تقديم المسند في صحيح البخاري هي: التخصيص، وللدلالة على العموم والمدح وإثبات المزية والتشويق والقصر والدعاء والبيان والإيضاح والتنبيه والفخر والتعظيم، وكثرة الاهتمام والتوكيد وإعطاء الجزاء والمكافأة والتبعيض والتعجب والتفاؤل والحث على التمهل والنهي والوجوب والتفضل والتخفيف والتيسير والتحريم والتحذير والإرشاد والنصح.

ومن النتائج المهمة التي توصلت إليها الباحثة أن التقديم لا يكون في المسند إليه والمسند فقط، بل هو موجود في المتعلقات، وهي التي لا تقل أهمية عن المسند إليه والمسند وتتقدم المتعلقات على الفعل كالمفعول به والظرف وشبه الجملة وتتقدم المتعلقات على بعضها للبعض كتقدم شبه الجملة على بعضها البعض وتقدم الجمل على جمل أخرى.

وقد وجدت الأغراض التي تتقدم المتعلقات لأجلها هي: التخصيص ونفي التخصيص والتعظيم والاهتمام، والتقليل وجلب الانتباه وقد كان التعظيم أكثر الأغراض وروداً من ذلك تعظيم الله والرسول

صلى الله عليه وسلم.

وبعد الانتهاء من دراسة هذا الأسلوب في الحديث الشريف متمثلاً في كتاب صحيح البخاري يتضح بالأدلة أن الحديث الشريف أرقى كلام العرب بلاغة وفصاحة وانه لم يخرج على أساليب العرب وغالباً ما تتطابق الأغراض في القرآن وصحيح البخاري.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

([1]) موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث الشريف، د. خديجة الحديثي، دار الرشيد للنشر، 1981: 13.

([2]) اعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مصطفى صادق الرفاعي، ط9، 1973، دار الكتاب العربي، بيروت – لبنان: 324.

 

([3]) مجلة الإنسانيات لجامعة تكريت، العدد 2، لسنة 2000: 117.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply