بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إن الستر من أجل صفات الله ملك الملوك، ونعمة الستر هي من أعظم النعم والهبات، فلولا ستر الله تعالى علينا ما طابت الحياة، وما هنأ العيش في هذه الدنيا إلا بجميل ستر العليم الحكيم، عن يعلي بن أمية رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ حيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحبُّ الحياءَ والسِّترَ فإذا اغتسل أحدُكم فلْيستترْ" (أبو داود:4011).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "نونيته":
وهو الحيي فليس يفضح عبده ***** عند التجاهر منه بالعصيان
لـكنه يـلـقي عليه ستره ***** فهو الستير وصاحب الغفران
وكلنا ننعم بستر الله تعالى علينا، وكلما صافحنا الناس وتبسموا في وجوهنا فعلينا تذكر نعمة ستر الله تعالى، فأول ما يراه الناس في وجوهنا جميل ستر الله الكريم، وهذه النعمة تقتضي الحياء من الله تعالى، وتستوجب العمل على شكرها وصيانتها من الزوال، وأقرب عمل وأرجى طاعة للحفاظ على نعمة الستر هي ستر الناس، وإخفاء العيوب، والإعراض عن فضح الغير، بل وحري بالمؤمن الذي يرى جميل ستر الله تعالى أن يحرص على تجميل صورة الناس عند الغير. وورد في السنة النبوية أعظم أجر لستر المسلمين وهو التمتع بنعمة ستر الله تعالى في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن سترَ مُسلِمًا سترَهُ اللَّهُ في الدُّنيا والآخِرةِ" (ابن ماجه:2078).
قال فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله تعالى: "يجوز الستر على المسلم إذا لم يكن من أهل التهاون بالمعاصي، ولم يعرف عنه كثرة اقتراف الذنوب وارتكاب المحرمات، ففي هذه الحالة ينصحه ويخوفه ويحذره من العودة إليها. أما إن كان صاحب عادة وفسوق فلا تبرأ ذمته حتى يرفع أمره إلى من يعاقبه بما ينزجر به. أما إن كانت المعصية في حق لآدمي كأن يراه يسرق من بيت أو دكان أو رآه يزني بامرأة فلان فلا يجوز الستر عليه، لما فيه من إهدار حق الآدمي ، وإفساد فراشه، وخيانة المسلم. وكذا لو علم أنه القاتل أو الجارح لمسلم فلا يستر ويضيع حق مسلم، بل يشهد عليه عند الجهات بأخذ الحقوق، والله تعالى أعلم" انتهى من (فتاوى علماء البلد الحرام:ص 344) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "والمراد بالستر: هو إخفاء العيب، ولكن الستر لا يكون محمودا إلا إذا كان فيه مصلحة ولم يتضمن مفسده، فمثلاً: المجرم؛ إذا أجرم: لا نستر عليه إذا كان معروفاً بالشر والفساد، ولكن الرجل الذي يكون مستقيماً في ظاهره، ثم فعل ما لا يحل فهنا قد يكون الستر مطلوباً؛ فالستر ينظر فيه إلى المصلحة، فالإنسان المعروف بالشر والفساد لا ينبغي ستره، والإنسان المستقيم في ظاهره، ولكن جرى منه ما جرى: هذا هو الذي يسن ستره" انتهى من (شرح الأربعين النووية:1/172).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في قصة ماعز رضي الله تعالى عنه :"وَيُؤْخَذُ مِنْ قَضِيَّتِهِ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَقَعَ فِي مِثْلِ قَضِيَّتِهِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَسْتُرَ نَفْسَهُ، وَلَا يَذْكُرُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ، كَمَا أَشَارَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله تعالى عنهما عَلَى مَاعِزٍ رضي الله تعالى عنه. وَأَنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ يَسْتُرُ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا يَفْضَحُهُ، وَلَا يَرْفَعُهُ إِلَى الْإِمَامِ، كَمَا قَالَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: (يا هَزَّالُ! لو سَتَرْتَه بثوبِكَ كان خيرًا لكَ) صححه الألباني في (صحيح الجامع:7990). وَبِهَذَا جَزَمَ الشَّافِعِيُّ رحمه اللَّهُ تعالى فَقَالَ: أُحِبُّ لِمَنْ أَصَابَ ذَنْبًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ أَنْ يَسْتُرَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَتُوبَ، وَاحْتَجَّ بِقِصَّةِ مَاعِز مَعَ أبي بكر وَعمر رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وَقَالَ ابن الْعَرَبِيِّ رحمه الله تعالى: هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْمُجَاهِرِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُتَظَاهِرًا بِالْفَاحِشَةِ مُجَاهِرًا فَإِنِّي أُحِبُّ مُكَاشَفَتَهُ وَالتَّبْرِيحَ بِهِ لِيَنْزَجِرَ هُوَ وَغَيْرُهُ" انتهى بتصرف يسير من "فتح الباري "12/124.
ولقد كتب الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بيانا عظيما لمن يرتجى فضل الله الكريم، وسطر بقلمه وثيقة حياتية لمن يسعى لستر الله الرحمن الرحيم، وهذه الوثيقة منهج حياة لكل مسلم، وقبس يضيء الطريق لكي ندرك أن الجزاء من جنس العمل، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وهو سبحانه وتعالى: رحيم يحب الرحماء، وإنما يرحم من عباده الرحماء، وهو ستير يحب من يستر على عباده، وعفو يحب من يعفو عنهم، وغفور يحب من يغفر لهم، ولطيف يحب اللطيف من عباده، ويبغض الفظ الغليظ القاسي الجعظري الجواظ، ورفيق يحب الرفق، وحليم يحب الحلم، وبر يحب البر وأهله، وعدل يحب العدل، وقابل المعاذير يحب من يقبل معاذير عباده، ويجازي عبده بحسب هذه الصفات فيه وجوداً وعدماً. فمن عفا: عفا عنه، ومن غفر غفر له، ومن سامح سامحه، ومن حاقق حاققه، ومن رفق بعباده رفق به، ومن رحم خلقه رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن صفح عنهم صفح عنه، ومن تتبع عورتهم تتبع عورته، ومن هتكهم هتكه وفضحه، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن شاق شاق الله تعالى به، ومن مكر مكر به، ومن خادع خادعه، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله تعالى بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة. فالله تعالى لعبده على حسب ما يكون العبد لخلقه، ولهذا جاء في الحديث: من ستر مسلماً ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة، ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله تعالى عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله تعالى حسابه، ومن أقال نادماً أقال الله تعالى عثرته، ومن أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله تعالى في ظل عرشه؛ لأنه لما جعله في ظل الإنظار والصبر، ونجاه من حر المطالبة وحرارة تكلف الأداء، مع عسرته وعجزه: نجاه الله تعالى من حر الشمس يوم القيامة إلى ظل العرش ."انتهى من (الوابل الصيب: 35) .
إن البحث عن محاسن الناس والسعي إلى إظهارها من أسمى مكارم الأخلاق، وهي من علامات القلب السليم، وإن ستر الناس من أبرز صفات المؤمن الذي يخشى الله تعالى، ولنا في رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستر على الناس عند الخطأ فكان يقول "ما بال أقوام"، ولم يسمهم بأسمائهم تأليفا لهم وسترا عليهم وحرصا على منفعتهم، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: صنع النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ شيئًا ترخَّص فيه، وتنزَّه عنه قومٌ، فبلغ ذلك النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فحمد اللهَ ثم قال: "ما بالُ أقوامٍ يتنزَّهون عن الشيءِ أصنعهُ، فواللهِ إني أعلمُهم باللهِ وأشدُّهم له خشيةً" (البخاري:7301).
نسأل الله تعالى أن ينعم علينا بجميل ستره، وأن يجنبنا والمسلمين الفضيحة في الدنيا والقبر والآخرة..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد