أحمد السباعي قصصيًا قراءة في نقد النقد


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

أحمد السباعي قصصيًا: قراءة في نقد النقد - محمد عباس محمد عرابي

 

 (أحمد السباعي قصصيًا) يتناول الشاروني بالنقد في هذه الدراسة أبرز أعمال الكاتب السعودي أحمد السباعي القصصية، وأبرز السمات الفنية المشتركة بين قصص المجموعة القصصية (خالتي كدرجان)، ولقد احتوت المجموعة  على قصص قصيرة عددها ستة حملتْ القصة الأولى منها عنوان الكتاب "خالتي كدرجان"، والمميّز في هذه القصص تكوينها المكي الفريد المنسوج من خيوط العادات والتقاليد والأخلاق التي كانت نسيجًا متنوعاً زاهي الألوان مبادئًا وقيمًا كانت عمود ذاك المجتمع ونخاعه الثقافي، ولا تخلو القصص من كلمات تراثية مكية فصيحة وعاميّة؛.

المجموعة القصصية في الجملة تمثّل جزءًا من تراثٍ مكي لابد أن تتناقله الأجيال.

ومن عناوين المجموعة:

خالتي كدرجان - صبي السلتاني – اليتيم -أخطأ العفريت ولم أخطئ - بعد أن طاب السفرجل- المعذّب - أبو ريحان السقا.

ويتفق الشاروني في هذه الدراسة مع الدكتور منصور الحازمي في كتابه (فن القصة في الأدب السعودي الحديث) من أن أحمد السباعي كاتب قصصي بالسليقة؛ لأنه يملك الحاسة الدرامية التي تنزع إلى رؤية الحياة في صورتها الحية المضطربة المحركة، لا في صورتها التجريدية الساكنة الجامدة، فالأسلوب القصصي عند أحمد السباعي مبثوث في جميع كتبه حتى تلك التي تبدو للوهلة الأولى أنها بحوث موضوعية لا علاقة لها بفن القصة مثل (مطوفون وحجاج) (ودعونا نعيش) و(قال وقلت)، وهذا كلام أشبه بما يمكن أن يقال عن نظرائه من الأدباء المصريين مصطفى لطفي المنفلوطي وإبراهيم عبد القادر المازني، ومعاصره بالميلاد يحي حقي (2).

 

لقد كتب (أحمد السباعي) القصة من وحي البيئة التي نشأ فيها وتعلم، فكان يكتب القصة كما يصف أحد النقاد: كأن القصة بتصوير بيئتها هي حقيقتها الزمانية والمكانية.. أي كل ما يتصل بوسطها الطبيعي، وبأخلاق الشخصيات وشمائلهم وأساليبهم في الحياة.

طريقة (أحمد السباعي) في الكتابة، تتسم بصدق النقل، ورقة الملامح وهو (شعبي).

استطاع أن يجعل قارئه يرى ويلمس أبرز ما كان يعتمد وتتصف به (جوانية) ابن البلد، وأي خالة وأم وفتاة في تلك الفترة، واستطاع أن يصور أحلامها، وهي تلبس (المحرمة والمدورة) وغطاء الوجه الذي (يكعبل)! .. وفي نفس الوقت تهمس بحب: (تعال يا رفيق روحي.. ليتك تسمعني)

فكأنني أقرأ دقة في تسجيل ملامح مجتمعنا القديم بالبراعة التي اتصف بها (نجيب محفوظ) وهو رسم بالكلمة صورة المجتمع

وتشي نهاية القصة بأن الماضي تراكم من الأحداث والحالات المستقلة، حالات يمكن أن توضع جنبا إلى جنب، وأن الأحداث التي حدثت في الماضي يمكن أن تثبت بالكتابة ليتأملها من يرغب في أن يجد العبرة والعظة.

قيمة الماضي في هذه القصة هي: أنه يهيئ المعطيات لما سيحدث في الحاضر أو المستقبل، وبالتالي يساهم في تحديد هدف القصة ومغزاها؛ فالقصة توجد إطارًا منتظما يمسك بعالم مستقر ومطمئن، وتشيد أجزاءه وتشد بعضها إلى بعض بسلسلة من العلاقات المنتظمة.

 

ويرى الدكتور إبراهيم عوض في دراسة له بعنوان الأديب السعودي أحمد السباعي الطفولة الخالدة وحديث الذكريات، أن  أهم ما يتبدى فيه إنتاج المرحوم أحمد السباعي هو كتابه: "أيامي"، وتأتى بعده مجموعة "خالتى  كدرجان".

وهو يقدم لنا فى هذين الكتابين صورا آسرة لعدد من الجوانب الاجتماعية التي كانت موجودة في طفولته وصباه.

إنه يصور الكتّاب ونظامه وطريقة التعليم فيه وعَرِيفه وفقيهه وحفلاته، وهو يصور الألعاب التي كان يمارسها هو ولِدَاته، وأنواع الحلوى التي كانوا يأكلونها، والخرافات التي كانت معششة في أذهان الناس عن العفاريت، والعصبية التي كانت بين الأحياء، وكانت تدفع صبيان الحي وشبانه إلى الاعتداء على نظرائهم من الأحياء الأخرى إذا ما تجرأوا وتخَطَّوْا حدود حيهم حتى لو كان ذلك فى زفة عُرْس، إذ تنطلق ساعتئذٍ القذائف الحجرية وتنهال العصى الغليظة، كما يسوق لنا أسماء الكتب التي كانت رائجة في تلك الأيام.

 

ويستعرض الشاروني نقده للمجموعة القصصية (خالتي كدرجان)(3) فيبين أهم السمات المشتركة لقصص المجموعة:

-أن قصص المجموعة -شأنها شأن أعماله القصصية الأخرى التي يتخللها الأسلوب القصصي -أشبه بسلسلة من الترجمات الذاتية يصوغ فيها الكاتب أشتاتًا مبعثرة لها أهمية خاصة في حياته ،يحاول أن يجمعها في قالب قصصي يمزج فيه بين الحقيقة والخيال ،ويضفي عليها من فنه وحيويته ما  يجعلها في مجموعها رواية شيقة مترابطة الحوادث متصلة الحلقات(4)

-يظهر من خلال المجموعة القصصية أن الفترة المحببة لدى أحمد السباعي هي فترة التحول التاريخي لبلاده من وجهة نظر صبي وذكرياته ويستشهد الشاروني على ذلك بقول الدكتور منصور الحازمي (إن الكاتب في أكثر كتبه وقصصه يحاول استعادة تلك الحقبة التاريخية العتقية وانتشالها من براثن الإهمال والنسيان، لا حبًا فيها بل إنقاذًا لذكريات الطفولة ،مهما كانت مرارتها في فمه وقلبه ونفسه(5)

 

وللطفل دور هام في قصص السباعي، فالطفل يقوم بدور الراوي الذي يلاحظ ويرصد ويتجسس في كثير من الخبث والذكاء،كما في (خالتي كدرجان) (حين كان يلعب مع الصبية الغميمة ،ولا يحلو له أن يختبئ إذا احتدم اللعب إلا في بيتها ،فتشير له بيدها إلى الكنبة التي تتصدر الديوان ليختفي تحتها فيلاحظها ،وهي تعنى كثيرًا بمكحلتها)(6)  والطفل في قصة (أبو الريحان السقا) راوي القصة أيضا، وصاحب ضمير المتكلم فيها، فنحن نتلقى الأحداث الأولى على الأقل للقصة من وجهة نظره، فنسمعه يقول:"كنا شلة من صغار الطلبة تجمعنا الشقاوة وحب العبث بعم ريحان دون السقاة الصاعدين أو الهابطين في جبل الهندي"(7)

إن البناء القصصي كثيرًا ما يتسم بمقدمة وصفية هي أشبه بإعداد المسرح، أي أنها مقدمة سكونية وصفية تتلوها حركة الأحداث ،وما فيها من عنصر درامي، وغالبا ما يأتي هذا الإعداد المسرحي من ذاكرة الراوي أيام الطفولة (8)

 

يجيد السباعي تقديم شخصياته، ونتيجة للبناء الفني في القصة فإن الشخصية في المسرح تقدم على مرحلتين:

المرحلة السكونية على نحو ما تُقدم الشخصيات في المسرح من خلال التعليمات الموجهة للمخرج، ثم تقدم في الجزء الثاني من القصة من خلال حركتها وتصرفاتها، وصراعها في سبيل الحياة ومع الآخرين، فالراوي الطفل يعطينا صورة وصفية للشخصية من خلال ذكرياته، والراوي الذي شب عن الطوق يقدم لنا الشخصية من خلال حركتها.

ويقدم السباعي شخصياته بأكثر من بعد، أحيانا ،بعدها النفسي أو الاجتماعي، فأبو ريحان السقا يقدمه لنا المؤلف ببعده الجسمي من خلال روايته الطفل، ثم يقدمه لنا ببعده النفسي: شخصية ساذجة تغري الأطفال بمعابثتها، سريع السخط، سريع الرضا،كأنما نموه العقلي لم يتجاوز مرحلة الطفولة، أم بعده الاجتماعي فواضح من مهنته، ورثاثة ثيابه وكونه من العبيد العتقاء.

وهو يهتم بالأماكن اهتمامه بالشخصيات، فعلاقة المكان بالشخصية، والشخصية بالمكان في قصص أحمد السباعي علاقة تفاعل كل منهما يعطي الآخر، ويأخذ منه ،وطبقًا للبناء القصصي فإن تقديم المكان يكون في القسم الأول السكوني من القصة متلاحمًا في ذاكرة الراوي الطفل مع التقديم الوصفي للشخصية، فإذا كان القسم الثاني فإن الاهتمام كله يكاد يتركز على الشخصية في حركتها بينما يتوارى الاهتمام بالمكان.

 

الحوار عند السباعي مكتوب بالعامية، لكنها عامية مفهومة، ففي مجموعته خالتي كدرجان يبث الألفاظ العامية في سرده القصصي كأنها البهارات لتعطي للقصة مذاقها الشعبي، وإن كان في بعض الأحيان يحاول ردها للفصحى، وتتسم بعض قصص السباعي بالأسلوب التقريري، وتدخل المؤلف في سياقه الدرامي من حين لآخر لشرح ما هو واضح ،وكأنه يشك في فهم القارئ، ويريد التأكد من أن دلالة قصته واضحة لا لبس فيها.

 

يقول الدكتور إبراهيم عوض: (ومما يتميز به أسلوب المرحوم السباعي أيضا مزجه بين الفصحى والعامية، وهذه أيضا إحدى سمات الأسلوب المازني، بيد أن المازني كان يقتصر على لفظة هنا وهناك يرى أنها في الأصل فصيحة، أما السباعي فلم يكن يقتصر على تطعيم كلامه بين الحين والحين بلفظة عامية، بل كان يأتي بجمل وعبارات كاملة. بل إن له سلسلة مقالات مكتوبة كلها بالعامية، وهى المقالات التي كان يكتبها بجريدة "الندوة" في ستينات وسبعينات القرن الماضي تحت عنوان "الشعبيات".

كما أن حوار قصصه مصبوب في قالب عامي، وهو ما لم يصنعه المازني، وبلغ من غرامه بالعامية أن تتبع "الأمثال الشعبية في مدن الحجاز" وجمعها في كتاب بهذا الاسم وإذا كان أسلوب السباعي ينزل إلى العامية أحيانا فإنه من الناحية الأخرى يصعد إلى المفردات والتعبيرات التراثية. وهو، في هذا أيضا، يشبه المازني.

ومن الألفاظ والتعبيرات التراثية عنده قوله مثلا: "أوزاع"، "ضِغْثًا على إِبّالة"، "دونه خَرْط القَتاد"، "يثيرها جَذَعَةً"، "عن بكرة أبيهم"، "مُغْدَوْدِن"، "فَدْم"، "جَنَتْ على نفسها بَرَاقِش".

ويتصل بهذا كثرة اقتباسه من القرآن الكريم، مثل: "أُسْقِط في أيديهم"، "وعلى الله قَصْد السبيل"، "قال قائل منهم:..."، "أحقّ بها وأهلها"، "حتى تُحْدِث لي منه ذكرا"، "كانت عيدا لأولنا وآخرنا"، "ولَّى ولم يُعَقِّب")(9)

 

وفي إطار نقد النقد يرى الباحث أن يوسف الشاروني استطاع في هذه الدراسة إعطاء صورة مجملة ،وموجزة للغاية عن أحمد السباعي ككاتب قصصي ،وأن يعرض السمات الفنية لقصصه من خلال أنموذج المجموعة القصصية (خالتي كدرجان) وركز بصفة خاصة بنائها القصصي، وشخصياتها وأماكنها ،وسردها وحوارها، ومما يميز الشاروني حرصه على الاستشهاد بكلام السباعي في مجموعته القصصية فيما يصدر من أحكام نقدية وسمات فنية، ويؤخذ على الشاروني في هذه الدراسة: أنها موجزة للغاية لم تٌعرف بكل أعمال السباعي القصصية وسماتها،ولو جعل الشاروني عنوان دراسته: السمات الفنية للمجموعة القصصية (خالتي كدرجان) لأحمد السباعي لكان أفضل وأكثر تناسبًا لما اشتملت عليه الدراسة.

ويتفق الباحث مع ما ذهب إليه الشاروني وأكده الدكتور سحمي الهاجري في  أن نصوص السباعي  لها استقلالية خاصة عن غيرها؛ فهو يستخدم أساليب إبداعية لتوصيل فكرته للمتلقي فيختار النماذج القصصية إلى نفسه ويتركها تتحدث بلهجاتها ولو كان على حساب الفصحى؛ ولديه مهارات وملكات عالية في الكتابة رغم أنه لم يصدر إلا مجموعة قصصية واحدة ولكنها كانت كافية لتمنحه كل هذه السمعة وتمنحه الريادة القصصية، مشيرا إلى أنه كان هناك اتفاق بين النقاد بأنه كان قصصي بالفطرة ،ثم تطرق إلى بعض الأدباء الذين تناولوا نقد الإنتاج الأدبي للسباعي ومنهم معجب الزهراني ومنصور الحازمي.(10)

 

الهوامش :-

(1)- يوسف الشاروني ، قراءات في إبداعات من عالمنا العربي،دمشق ،وزارة الثقافة ،الهيئة العامة السورية،2007م

(2)-المرجع السابق ،ص378 

(3)-صدرت الطبعة الثانية للمجموعة القصصية (خالتي كدرجان) عن دار تهامة في سلسلة الكتاب العربي السعودي،1401ه وعدد صفحاتها83 صفحة أطولها (اليتيم المعذب) التي تقع في 32صفحة

(4)-منصور الحازمي، (فن القصة في الأدب السعودي الحديث)الرياض،دار العلوم للطباعة والنشر،1401ه،ص45

(5)- المرجع السابق، ص 114

(6)- (خالتي كدرجان ) ،ص14

(7)-نفسه،ص81

(8)- يوسف الشاروني ، قراءات في إبداعات من عالمنا العربي، ص 383      

(9)- إبراهيم عوض ،الأديب السعودي أحمد السباعي الطفولة الخالدة وحديث الذكريات ، ديوان العرب،2007،ص9

(10)- من محاضرة للدكتور سحمي الهاجري حول أديب مكة أحمد السباعي،نادي مكة الأدبي ،2012م

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply