بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) أَمَّا بَعدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا).
أيها المسلمون الضغوطُ التي يُعانيها الإنسانُ من تعقيدِ المدنيَّة، بأشخاصِها وأعمالِها، تُرهِقُ الروحَ وتقهرُ النفس، حتى يعودَ الإنسانُ يَجهلُ نَفْسَه، وكأنَّهُ قد تَحوَّلَ إلى إنسانٍ آخرَ غيرَ الإنسانِ الذي يَعرفه، إنسانٌ يَجهله، حتى رُوحه قد أصبحت غريبةً عنه. ما أسهلَ بكاءَ إنسانِ المدنيَّة، وشعورَهُ بالحزنِ والغُربة، ليس عن الحياةِ فقط، بل حتى عن نفسِه. يتضخمُ ذلك الشعورُ الحزينُ في نفسِهِ بمرورِ دُولابِ الحياةِ المدنيةِ فوقَ ظهره، ليصيبَه مرضُ العصر، الاكتئاب، ذلك المرضُ الذي يَعزِلُ الإنسانَ عن الفرحةِ والسِّعادة، ويُصيّرُهُ جزيرةً مهجورةً أو سفينةً مُحطمة، بقايا إنسانٍ مُبعثرة، كلُ قطعةٍ تَجهلُ الأخرى وتُنافِرُها، ولا يجدُ من يُلملمُ شَعَثَ هذه النفسَ المبعثرة.
يا لها من ضِيقَةٍ تَخنُقُ إنسانَ هذا العصر، عصرِ الصَّخَبِ والأضواء. واللَّهَثِ خلفَ الأضواءِ التي تُعمي الأعينَ. والأصواتِ التي تُصُمُ الآذان.
إنسانُ هذا العصرِ إنسانٌ مغتربٌ وَسَطَ الزِّحام، وحَيدٌ يسيرُ مَعَ الجُمُوع، مُتَفَرَّقٌ وهو جُزءٌ من كُتلةٍ مجتمعه. تخنقهُ الحياةُ التي حَدَّها هو في نوافذَ ضيّقة، ضيَّقَ بها على نفسِه، وهَجَرَ براءتَه الأولى، وحُبَّهُ الفِطري للحياة، وعلاقاتَه البريئةُ بالآخرين، واستبدلَ بها خيالاً لا حقيقة له. لقد تخيَّلَ أنَّ السعادةَ في الصَّاخبِ واللَّامِع، لقد ظنَّ أنها هي الحياة، لكنَّهُ وجَدهَا سراب، كلما رَكَضَ وراءَهُ ابتعدَ عنه، حتى انهارتْ قُوَاهُ الرُّوحيَّة، وسَقَطَ صريعَ الهمومِ والأحزان، قد مَرِضَ بالاكتئاب، وبكتِ الحياةُ حالَه، وأشفقتِ الكائناتُ عليه، ونظرتِ النجومُ إليهِ نظرةَ شَفَقَةٍ وهي تَراهُ يُرهِقُ رُوحَه، ويختفي من نفْسهِ الحزينةِ خلفَ أقنعةٍ مُبتسمةٍ تُزيِّفُ حياتًهُ بألوانٍ فاقعة.
والمكتئبون يا عباد الله الذين نقصِدُهم في طيَّاتِ حديثنا. ليسوا من ابتُلوا بمرضٍ يحتاجُ إلى دواءٍ طِبِّي.
وإن كان سبباً مِن أسبابِ علَّةِ البعضِ منهم. لقد جنوا على أنفسِهم جرَّأ وُلُوجِهِم في الركضِ خلفَ المدنيَّة الزائفة. أيها المسلمون ولا نحتاجُ في معرفةِ من ابتلي بمرض العصر. الاكتئاب. إلى أخصاءَ نفسيِّينَ أو تُقامُ الدِّراساتُ أو البحوث. فهم في كُّلِ زاويةٍ وناحيَّة. وليسَ من المُبالغةِ إن قلنا جميعَ المجتمعِ مصابٌ بالاكتئابِ إلاَّ من رحم الله. وأعلمُ أنَّ هذا اتِّهامٌ يحتاجُ إلى دليل. فإليكم الأدلةِ والله المستعان.
أليس من الاكتئابِ انشغالُنا بتوافهِ الأمورِ مباحةً ولربما محرمةً. تسليةً بها لأننا قصَّرنا في عظائمِ الأمور. قولوا لي. لمَ هذا التوجُّهُ المحمومُ في حياتِنا. نحو ما يُثيرُ في نفوسِنا الضَّحِكَ وكما يُقالُ الفرفشة والكيافة. إنه الاكتئاب. ما هذا التسابقُ المزعجُ إلى أماكنِ المطاعمِ والمقاهي والمفاخرة في تصوير السنابات.
إنه الاكتئاب.
لمَ الإسرافُ في حفلاتِنا وأَعراسِنا. ومحاولةُ اختراعِ الجديدِ والمُدهشِ في طريقةِ التقديم. كي يَسمعَ بذلك القاصي والدَّني. ويكونَ أحاديثَ الناسِ في مجالسهم.
إنه الاكتئاب.
هل نستطيعُ العيشَ بدونِ أجهزةٍ ذكيةٍ. جمعتِ الهاجَّ والدَّجَ. ضيَّعتِ الأوقاتَ. وأنستِ المُهمَّاتِ. وساهمت برؤية كلِ قبيحٍ ومشين. وجَافَت بين المُتحدِّثَين. وضيَّعت تفوَّق الأبناء. وشتَّتِ الأذهانَ. وأنستِ الإبداعِ. وأسقطتِ العالِم. ورفعَتِ السَّفيه. وشكَّكت في ثوابت الدِّين. وطردتِ الملائكةَ من بيوتنا ومجالسنا. وسمحت للشياطين أن يشاركوننا منازلنا وطعامنا. وأنستنا الذِّكرَ في أوقاتنا. وقراءة القرآن في بيوتنا. وأغضبتِ ربِّ الأرضِ والسماواتِ.
إنه الاكتئاب. إنه الاكتئاب.
ما سببُ مُتابعاتِنا في هذه الأجهزةِ لأُناسٍ لم يُقدُّموا لدينهم خيراً أو يمنعوا عنه شراً. بل الضَّحِكُ والمَرحُ. بأي طريقةٍ حتى ولو كانت مُخلةً بالآدابِ أو تَخرِمُ المروءة. وللأسف حُثالةُ المجتمع. وقذارةُ الأخلاقِ هم من يُتَابَعون. فهل العيبُ في فِعلهم أو مَن تابعهم. كِلا الفريقين ضال. وحالُ الفريقينِ كَمَثَلِ من ذَكَرهم الله في كتابه (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ*وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) أخبروني هل بمقدورِ أولئكِ أهلِ الخِسَّةِ والحقارةِ أن يدفعوا عدواً إذا نَزل. أو يرفعوا فقراً إذا حَل. ماذا قدَّموا لأمتهم من إنجاز. وما مساهتُهم في رفعَ الظلمِ عن المظلوم.
إنه الاكتئاب.
ما هذا الجنوحُ الشديدُ في الطَّلْعاتِ البَريَّةٍ وكأنَّه من واجباتِ الدينِ. فتُهجرُ المساجدُ. وتُتركُ الجمعُ والجماعاتِ. وتُؤجلُ المهمات. إنه الاكتئاب. وصدق الله (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)
أيتها النَّفسُ الكئيبة لقد ملَّ الجسمُ قسوتَكِ، ويئسَ من الركضِ خلفَ سَرابِكِ، فقد أثقلتِ كاهِلَه، وأحزنتِ قلبَه، وجرحتِ رُوحَه، وتركتيه على قارعة الطريق ينـزف وحيدًا كئيباً. أخبريني بكل صدق. إلى متى هذا الجنوحُ. إلى أين يَفُر. وإلى أين يهرب. لقد شقيَ بكِ. وإلم يتدارك نفسَه بالتوبةِ وسُلوكِ طريقِ الله المستقيم. خَسِرَ خُسراناً مبيناً. إنَّنا عباد الله نسمع صوتًا زاجراً صارخًا في داخل أجسادنا، صوتاً رحيماً حنوناً دافئاً. يُنادينا أن هَلُّمَ إليَّ، إنه صوتٌ نعرفه ولا ننكره. سمعناه ونحنُ صغاراً، ولطالما حاولنا تجاهُلَه ونحنُ كِباراً. إنه صوتٌ يَنبعُ من أعماقنا يُنادينا بالإقبال إليه. أنه صوتُ الفِطرة، التي خلقه اللهُ وأودعَه فينا. اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجزِ وَالكَسَلِ، وَالجُبنِ وَالبُخلِ، وَضَلَعِ الدَّينِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، وَأَقُولُ هَذَا القَولَ وَأَستَغفِرُ الله...
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
عباد الله الأوقاتُ المهدَرةُ في حياةِ كثيرٍ منا أكثر من تُحصَر. والشكوى من عدم قدرةِ البعضِ على إكمالِ حزبهِ اليوميّ من القرآن بسببِ الانشغال بتوافه الأمور صارَ قصةً شبهَ يومية. والألمُ الذي يعتصر قلوبَ الأكثرين مِن عدم ذوق الصلاة، ورؤيةِ الأثر الذي ينبغي لها في القلوب؛ بات من الأحاديث التي يتهامسُ بها بعضُ الصالحين في مجالسهم. هلُمَ عباد الله في بقية الخطبة إلى ذكر شيءٍ فرطنا فيه. وهو كنز من كنوز الحسنات.
هذا الكنزُ دقائقُ محدودةٌ بينِ الأذانِ والإقامةِ. فيا للعجبِ والدَّهشةِ من تفريطنا فيه، ولقد أكبرتُ أولئك المحسوبين على العوام. وغير الناطقين بالعربية. الذين يُسابقون المؤذنَ للدخول إلى بيت الله. وقلتُ في نفسي.
يا حسرتا على علمٍ لم يدفع إلى هذه المغانم. إن المبادِرَ إلى هذه الدقائقِ بين الأذانين، بمجردِ بقائهِ ينتظرُ الصلاةَ فهو في صلاة، وملائكةُ الرحمن لا تَفتُرُ عن الدعاءِ والاستغفارِ له، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال"وإذا دخلَ المسجدَ، كان في صلاةٍ ما كانتِ تحبِسُه، وتصلي يعني عليه الملائكة. أي تدعو له. ما دام في مجلسه الذي يُصلي فيه اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يُحْدِث فيه "والله لو أن أحدنا بلَغَه أن أحدَ الصالحين المعروفين بإجابة الدعاء دعا له؛ لفرح. فكيف بملائكة الرحمن تدعو له. وليس هذا فحسب، بل هو حينَ يَتقدّمُ ويُصلي ركعتين فقط، فهو بهذا يُصلي أربعَ سَجَدَاتٍ. وحسبك أن تتأملَ في هذا الحديث لترى كم نخسرْ هذه الفضائلَ عندما لا نأتي إلا مع أو بعد الإقامة، قال صلى الله عليه وآله وسلم (عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة، إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة) وإذا افترضنا أن هذا المبكّرَ قرأَ خمسةَ أوجهٍ من القرآنِ فقط، فكم فيها من حرف. وكم في تلك الحروف من حسنات مضاعفة. ومن الناس مَن يختارُ الدعاءَ بين هذين الأذانين؛ رجاءَ ما وردَ في الأثر "لا يُرد الدعاء بين الأذان والإقامة"
وللدعاء في هذه الدقائق مذاقٌ خاص، كما حدّث بعضُ من جرّبه. ومنهم أبو بكر النيسابوري الشافعي الفقيه المعروف بالصبغي، فقد حدّث عنه من رآه، أنه إذا أذّن المؤذن يدعو بين الأذان والإقامة ثم يبكي. ولك أن تتصور حال هذا المصلّي الذي لم تُقَم الصلاة إلا وقد تضمّخ بخَلُوق هذه البركات. استغفار ملائكة. رفعة درجات. حطّ سيئات. آلافُ مؤلّفة من الحسنات جرّاء تلاوة الآيات. وسكون نفْسٍ بالدعاء. لك أن تتصور هذا وهو مُقبِل على صلاة الفريضة، أيُّ فرقٍ بينه وبين إنسانٍ جاء يسعى سعياً، يلتقط أنفاسَه، لا يدري ما يقرأ أو يتلوه إمامُه. اللهم فلا تحرمنا هذه البركات بذنوبنا، وارزقنا تدارك ما بقي من أعمارنا فيما يقرّبنا لديك، واجعلنا ممن وُفّق للعمل بما علم. اللهم أعزَّ الإسلام...
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد