بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
تُعتبر التجربة الدينية في أمريكا الشمالية تجربة غنية وثرية -مع أنَّ تاريخها ليس قديمًا- وتاريخها حقلاً خصبًا للباحثين والدارسين الأكاديميين وغيرهم في مجال الدراسات الدينية وبحوث الحركات الدينية وحركات الدين السياسي، ونشأة الأصولية الدينية والرؤي الدينية والدعوات الجديدة.
والحديث -بكل تأكيد- عن مثل هذه التجربة الواسعة التي استغرقت بضع قرونٍ يتطلب مساحة واسعة جدًا ليس محلها هنا، ولذلك سوف نُركز الحديث عن هذه التجربة من خلال ثلاثة محاور تُمثل في الحقيقة ثلاث مراحل أساسية، شكلت الإطار العام للتدين في أمريكا.
هذه المراحل الثلاث كما يلي:
المرحلة الأولى هي: مرحلة الهجرة الدينية.
والمرحلة الثانية: هي مرحلة الصحوة الدينية الكبرى الأولى.
والمرحلة الثالثة: هي مرحلة الصحوة الدينية الكبرى الثانية.
المرحلة الأولى:
مرحلة الهجرة الدينية. كما هو معلوم، فإنَّه قبيل معرفة ووصول الغربيين إلى القارة الأمريكية، كان الأوربيون محصورين في أوروبا، وكانت معظم أوروبا تدين بالمسيحيَّة، وكانت دولها تخوض حروبُا داخلية شرسة بين الإقطاعيين المسيحيين أنفسهم، للتنافس على السلطة فيما بينهم.
ثم زادت حدة هذه الحروب الدينية بعد ظهور حركة الإصلاح الديني المعروفة باسم البروتستانتية (Protestantism)، التي تعني حركة الاحتجاج، بقيادة مارتن لوثر وجون كالفن. فاشتعلت الحروب بين المسيحية الأم (الكاثوليكية) وبين هذه الطائفة الجديدة، وافترق الملوك والأمراء والناس بين هذه وتلك.
والحروب الدينية التي حدثت في أوروبا حصدت أكثر من ثلث سكانها، ووقع البلاء على الطرفين، وإن كانت البروتستانتية قد تعرضت أكثر للاضطهاد. وتبدلت بعض الدول الأوروبية من كاثوليكية إلى البروتستانتية والعكس. وممن تحول إلى البروتستانتية إنكلترا، على يد الملكة إليزابيث الأولى.
ولأنَّ مذهب إنكلترا البروتستانتي لم يكن خالصًا بل كان له ملامح كاثوليكية، فقد نابذته طائفة من البروتستانتية تُعرف باسم المتطهرين أو المتزمتين (Puritanism)، الذين كانوا غير راضين بهذا المذهب، فدخلوا في صراعٍ معه وعداوة، فعرضوا أنفسهم للتعذيب والاضطهاد، الذي دفع كثيرًا منهم إلى الهجرة وترك إنكلترا.
ومن الجهات المحببة التي هاجر إليها البوريتانيون القارة الجديدة أمريكا، التي قد مضى عليها منذ وصول كريستوفر كولومبس إلى جنوبها (128) عامًا. وبدأوا يحلون شيئًا فشيئًا محل سكانها الأصليين من قبائل الهنود الحمر.
وكانت أول دفعة هاجرت من هؤلاء على سفينة دُعِيَتْ باسم مايفلاور (Mayflower)، والتي نقلت الحجاج والمهاجرين البوريتانيين الأوائل من مدينة بلايموث في إنكلترا إلى شمال فيرجينيا في أمريكا في عام 1620م.
وبإيمانٍ مسيحيٍ مفعمٍ بالتراث الديني للعهد القديم، شعر البوريتانيون أنهم يُمثلون في الحقيقة شعب الله المختار، واعتقدوا أنَّ الله بكرمه وفضله كما منح العبرانيين أرض كنعان وأذن لهم بطرد سكانها منها، فإنه برحمته منح البوريتانيين كنعان الجديدة (=أمريكا)، وأذن لهم بفضله بطرد سكانها الأصليين.
كانت الهجرة الدينية في ذهن البوريتانيين -ودوافعها هو النجاة بالدين من صراعات أوروبا الدينية وتلوثها بحطام الدنيا والشهوات والملذات- تُمثل خطة سماوية تتجسد فيها العناية الإلهية. يقول جون آدمز: "إنَّ استعمار أمريكا بداية تحقيق مشروع العناية الإلهية الذي يعني تدفق النور".
ويقول فرنسوا شاتليه: "التعابير التي تعني أمريكا تشكل الدلائل على هذا التصميم الإلهي. إنَّ أمريكا هي في نفس الوقت كنعان الجديدة، وفيما يخص الأمريكيين فهم تحت الحماية الإلهية، وإن شعبًا مختارًا فقط هو الذي يستطيع الإقامة في هذا البلد الموهوب بكرم. لقد عاملهم الله مثل العبريين".
ولأنّ الأوروبيين البروتستانت هم الأسبق في الوصول إلى الأمريكا الشمالية من غيرهم، فقد توطدت مكانتهم وانتشر مذهبهم، وتعددت كنائسهم، وأصبحت لهم الهيمنة. وتلت ذلك هجرات الكاثوليك وغيرهم، وقد صادفوا في البداية الطرد والاضطهاد من البروتستانت، ولكن لاحقًا اتفقوا على قبول بعضهم البعض.
المرحلة الثانية:
هي مرحلة الصحوة الدينية الكبرى الأولى. والتي تُعرف في الغرب باسم (The Great Awakening)، وهي صحوة دينية نشطت في ثلاثينيات القرن الثامن عشر (1730s)، وكان أهم ما تتسم به هو: ثورة العواطف الدينية المفتوحة، الهيستريا الدينية.
ومع نهاية هذا القرن الثامن عشر، أخذ الناس يتململون من ظاهرة التدين العاطفي هذا، وصار كثير من المتعلمين الأمريكان غير ملتزمين دينيًا بالعقائد المسيحية. مما مهد الأرض لانتشار العَلمانية في المجتمع الأمريكي بشكل كبير خصوصًا بين المثقفين والمتعلمين، وضمور التدين بين الأفراد!
هذا الانتشار الواسع للعَلمانية في المجتمع مهد الطريق لبداية المرحلة التالية وهي:
المرحلة الثالثة:
وهي مرحلة الصحوة الدينية الكبرى الثانية، والتي تُعرف في الغرب باسم (The Second Great Awakening)، حيث أتت نهضة دينية كردة فعلٍ للعلمانية وانتشرت في بداية النصف الأول للقرن التاسع عشر الميلادي.
هذه المرحلة التي تُعرف باسم الصحوة الدينية الكبرى الثانية تميزت، حسب الدليل الإرشادي الصادر من ملحقيَّة البرامج الدولية للمعلومات الأمريكية، بعدة سمات، منها: فشو اللغة والتعبيرات ذات الالتزام الديني، وانتشار النشاطات الاجتماعية، ونشأة طوائف وجماعات دينية جديدة.
هذه النهضة الدينية منحت القوة عدة طوائف دينية منها: طائفة المنهجيين (Methodists) وطائفة المعمدانيين (Baptists). لكن أبرز ظاهرة مُلفتة للنظر في هذه المرحلة من الصحوة الدينية الكبرى الثانية، كما يقول الباحثون الأمريكان، هي انتشار وسريان ظاهرة المخيمات الدعوية (camp meeting).
المخيمات الدعوية (camp meeting) هي عبارة عن اجتماعات دينية في الهواء الطلق أو في خيمة، وغالبًا ما تستغرق عدة أيام. وأحيانًا تكون عبارة عن احتفالات أو مهرجانات يتم الاجتماع لأجلها في مخيم صيفي، وتكون برعاية الكنيسة المشيخية، أو غيرها من الكنائيس المسيحية البروتستانتية.
وتميزت هذه الصحوة الثانية بلغة عقلانية ابتعدت عن الهيجان العاطفي والهيستيريا الدينية التي صاحبت الصحوة الأولى، وفوق ذلك، خلقت نوعًا من الرهبة والهلع في قلوب غير المسيحيين. وتم إثارة الحماس الإنجيليكاني في مجتمعات الغرب للتبشير بطابعٍ إنجيليكاني.
وتميزت هذه المرحلة من الصحوة، بأنَّ أعضاءها من رجال الدين والمنتمين للكنيسة لم يعملوا في مجتمعاتهم فقط كحواريين للإيمان، بل كمعلمين وقادة مدنيين وأنصار للثقافة والمدنية. وروجت الجماعات والمؤسسات المسيحية هذه للتعليم المسيحي؛ وكان من أبرزها جمعية الكتاب المقدس الأمريكية، التي تأسست عام 1816م.
وانتشر النشاط الاجتماعي بسبب الإحياء الديني في هذه المرحلبة الثانية من الصحوة الأمريكية الدينية، وظهر مفهوم الضبط الاجتماعي، فضلاً عن الجهود المبذولة لإصلاح السجون ورعاية المعاقين والمرضى العقليين.
وكان من أبرز رجالات تلك الفترة تشارلز غرغويسون فيني (1875م)، وهو محام ومنصر له تجارب دينية. وصفه الباحثون في التاريخ الديني الأمريكي بأنه ناشط حركي، تميز بإحيائه من خلال التخطيط الدقيق، وحب الظهور والاهتمام بالدعاية والإعلان. أصبح أستاذًا للاهوت في كلية أوبرلين. ثم رئيسًا لها.
وتتابع ظهور الفرق المسيحية البروتستانتية في تلك الفترة، كفرقة المورمن، وطائفة اليوم السابع والأدفنتز، وغيرهم من الفرق العديدة. وكان الطابع المميز لتلك الفترة والطوائف هو كثرة المخيمات الدينية، وكان أكبر تجمع لهذه المخيمات جمع ما يقارب 25000 متدين ينتمي لطائفة دينية مختلفة.
وانتشر التدين بانتشار هذه الطوائف المسيحية. وتميزت منها بعض الطوائف مثل طائفة المنهجيين (Methodists)، الذين كانوا يمثلون منظمة فعالة للغاية، تعتمد على القساوسة الدعاة الذين كانوا يخرجون للدعوة -وكانوا يعرفون باسم الجوالين- الذين يبحثون عن أشخاص في مواقع حدودية نائية لدعوتهم إلى مذهبهم.
هؤلاء الدعاة المنهجيين الجوالين يأتون من بين عامة الناس، وهذا ما يساعدهم على إقامة علاقات مع العائلات الحدودية التي يأملون في تحويلها إلى عقائدهم الخاصة بطائفتهم.
وعلى عكس دعاة الحركيين المنهجيين المنظمين، لم يكن لدى دعاة المعمدانيين تنظيم رسمي. كانوا دعاة من المزارعون، اعتقدوا أنهم تلقوا الدعوة من الله، واهتموا بالجانب العلمي، فدرسوا الكتاب المقدس. ويقال إن مؤسس هذه الطائفة هو جون سميث في القرن السابع عشر.
يقول دليل المعلومات الإرشادي الصادر من الملحقية الأمريكية: "مارست الصحوة الكبرى الثانية أثراً عميقاً على التاريخ الأمريكي. وأصبحت أمريكا أمة أكثر تنوعًا في أوائل القرن التاسع عشر، كما أن الاختلافات المتزايدة داخل البروتستانتية الأمريكية عكست وساهمت في هذا التنوع".
هذه المراحل الثلاث (الهجرة الدينية، الصحوة الأولى، الصحوة الثانية) تُمثل الجزء الأول من التاريخ الديني لأمريكا، وهو ما تحدثنا عنه باختصار هنا. ويليه بإذن الله -إذا تيسر الوقت- الجزء الثاني من التاريخ الديني الأمريكي.
والجزء الثاني من التاريخ الديني الأمريكي، يتمثل في عدة مراحل، وهي: ضمور الصحوة الثانية، ثم ظهور المادية والإباحية، ثم ظهور الصحوة الثالثة، ثم انتكاستها، ثم ظهور عصر الإلحاد الجديد والشك، الذي يمثل هذا العصر الذي تعيش فيه أمريكا حيث انخفضت فيه نسبة المتديين بشكل ملحوظ.
وبمشيئة الله سوف نخصص سلسلة تغريدات أخرى للجزء الثاني من التاريخ الديني الأمريكي، وكذلك بعض الشرح لعقائد الفرق الدينية التي ظهرت على مسرح الحياة الأمريكية على وجه الخصوص.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد